التكامل المعرفي بين العلوم اللغوية والعلوم الشرعية عند «الشاطبي»

3olom_handassa.jpg

عبد الرحمٰن يجيوي | أستاذ الشريعة في جامعة القرويين، فاس، المغرب.

المتتبع للأمور الشرعية واللغوية عند الشاطبيّ يلحظ التلازم والتتابع والتراكب والتداخل والتكامل بين المجالين، حتى يُخيّل للدارس أن الشاطبيّ لا يفصل بين العلوم الشرعية والعلوم اللغوية، وكأنه أمام علم واحد، أو أمام مجال معرفي واحد. والمتفحص لمؤلفات الشاطبيّ (الموافقات في أصول الشريعة، والاعتصام، والمقاصد الشافية في شرح الخلاصة الكافية) يلحظ أنه يفصل فصلاً باتاً بين العِلْمين، والمدقق في النظر يلحظ أن الشاطبي له رأي في ترتيب العلوم، ونظرٌ في مراتبها ومدارجها، بل له اعتباراته في التصنيف والترتيب، ومقاصده في الاعتماد والتنزيل، رأيٌ يُبَيّن أن للرجل نظراً معلوماً، وموقفاً نيّراً في القضايا الفكرية والعرفية، ومشاركة بارزة في بنائها وصياغتها. إن الشاطبيّ ـ الباحث في طرق العلم بمراد الشارع ومقاصده ـ ينطلق من كون العلم بذلك يعتمد بالأساس على الألفاظ، أو على المعاني، أو على علل المعاني، ويسعى إلى وضع الضوابط والقواعد الموصلة إلى فهم النصوص الشرعية، والهادية إلى معرفة مقاصد الشارع في وضع شريعته التي هي للإفهام، ولا يكون ذلك إلا وفق مقتضيات اللسان العربي، ومعهود العرب في مخاطباتهم. يقول: «المسألة الثانية عشرة: وبعث الله من هؤلاء ـ (جند الإسلام وحماة الدين) ـ سادة فهموا عن الله وعن رسول الله (ص) ، فاستنبطوا أحكاماً فهموا معانيَها من أغراض الشريعة في الكتاب والسُّنَّة تارة من القول نفسه، وتارة من معناه، وتارة من علّة الحكم، حتى نَزَّلوا الوقائع التي لم تذكر على ما ذُكر، وسهّلوا لمن جاء بعدهم طريق ذلك، وهكذا جرى الأمر في كلّ علم توقف فهم الشريعة عليه، أو احتيج في إيضاحها إليه»(1) ويقول: «والعلم به (باللسان) عند العرب كالعلم بالسُّنَّة عند أهل العلم، لا نعلم رجلاً جمع السُّنن فلم يذهب منها عليه شيءٌ، فإذا جمع (علم) عامة أهل العلم بها أتى على السنن»(2). إذ السنّة مبينة واللسان مبيّن.

العلاقة بين العلوم اللغوية والعلوم الشرعية في الإطار العام

إن الموضوع الذي نقدّم اليوم خلاصته ـ (العلاقة بين العلوم اللغوية والعلوم الشرعية) ـ لا يبحث في الشريعة من حيث هي شريعة، ولا في اللغة من حيث هي لغة، ولا في العلاقة بينهما من حيث هي علاقة جزء بكلّ، أو علاقة كلّ بجزء؛ وإنما يبحث في العلوم اللغوية والعلوم الشرعية من حيث اعتبارهما نظراً وتنظيراً، وجرداً وتجريداً، ومن حيث اعتبارهما مجالين متآخيين. بل إن الشاطبي يتجاوز الأصول إلى البحث في (أصول الأصول)، أو بحث في الأصول المعرفية للمجالين. ويهدف هذا العرض الموجز إلى بيان ذلك، وربطه بالخلفية المعرفية الكامنة وراء تأليف المصنفات العلمية الكبرى؛ مفاتيح العلوم للخوارزمي، ومفتاح السعادة ومصباح السعادة لطاش كبرى زاده، وصبح الأعشى للقلقشندي، ورسائل ابن حزم، ومقدّمة ابن خلدون، ورسالة في أجزاء العلوم العقلية لابن سينا... وعلى الرسائل الفلسفية وكتب الحدود كما هو الأمر عند الكندي وإخوان الصفا، وكتب تصنيف العلوم وإحصائها، وذلك بهدف تبيّن طُرق فهم العلماء للعلوم ومقاصدها، وإعادة قراءة التقسيم الأرسطي أو الفيتاغوري، أو تأمل النظر العربي والإسلامي في مراتب العلوم.

إن البحث في العلاقة بين العلوم الشرعية والعلوم اللغوية هو بحث يتجاوز النظر في رأي الشاطبي في ذلك إلى الخوض في مراتب العلوم، وجهة الأولوية باعتبار التحصيل، أو التلقي، أو باعتبار الموضوع وشرفه أو خدمته، أو باعتبار الحاجة إليه، أو باعتبار آليته أو صناعيته، أو باعتبار الموضوع وعلميته، بل باعتبار مصدر المعرفة، أو مصدر الحقيقة، أو باعتباره من الاعتبارات، وبحث في مناهج البحث وآلياته، ووسائل النظر، وطرق الاستدلال، وفي الأساسيات التي يقوم عليها النظر الشرعي. إنه بحث بقدر ما يبحث في تلك العلاقة بين المجالين بقدر ما ينظر في الأسباب، ويبحث في تعليل تلك العلاقة التي قد تكون من جهة علاقة كلّ بكل، أو علاقة جزء بجزء، أو علاقة كل بجزء، أو علاقة جزء بكل. ومن جهة أخرى قد تكون علاقة التجاوز أو مجرد الاستيعاب، أو علاقة الاختزال والامتزاج، أو علاقة الالتزام والتتابع.

وقد يستطيع الباحث في الموضوع (علاقة العلوم اللغوية بالعلوم الشرعية) أن يُجَمِّع من الآراء والتقسيمات والتفرعات والأحكام والاعتبارات مثل: (الواجب والواجب على الكفاية، والأول والأولى، والأسبق الحسن أو الأحسن، والجيد والأجود والصواب، والشريف والأشرف، والخادم والمخدوم، والمجزئ، والأوكد والأكيد، والمهم والأهم، والأهم الأوطد، والفرض الواجب، والعالي المرتبة، والحسن والمستحسن، والمقدّم والمؤخر، والآثم والظالم والقبيح والأقبح، والحرام..)(3) يستطيع أن يجمّع ما يجعله يبني هرمية العلوم الإسلامية، أو سلسلية العلوم، أو شجرة العلوم.

إن البحث في العلاقة بين العلوم مطلب لا يمكن فصله عن (إحصاء العلوم)، ولا عن الحاجة إلى تعليم العلوم(4)، كما لا يمكن فصله عن (معنى العلميّة المنطقية والتقويمية التي تميّز ضروب النشاط الفكري والعلمي الإنساني من ناحية، والتي تدرك التشابه والوحدة على الصعيد المنهجي للمجالات العلمية من ناحية أخرى، حيثُ يُفهم من ذلك أنّ الغاية من إحصاء العلوم لا تتحدّد في تعدادها(5) وبيان مسائلها إجمالاً بقدر ما تتحدّد في بيان حدود العلاقات القائمة بينها، وليس ذلك بغريب إذا علمنا أن (أرسطو قد أقرّ هذا المعنى الذي سيطر فيما بعد في الحقل الإبستيمولوجي عامة؛ إذ أن نظام تصنيف العلوم قد عُدّ تصوراً (فلسفياً) للمعارف البشرية لتوضيح علاقة أجزائها والتكامل الموجود بينها، هكذا يمكن أن يكون (البحث في العلاقة بين العلوم) ـ أو إحصاء العلوم ـ عنصراً مساعداً للتعريف والحد. والحد الذي يستعمله العلم يهمّ دائما الماهيات)(6). يقول الفارابي: «قصدنا أن نحصي العلوم المشهورة علماً علماً، ونعرف جملَ ما يشتمل عليه كلّ واحد منها، وأجزاءَ ما له منها أجزاء، وجملَ ما في كلّ واحد من أجزائه، وذلك يعني بيان حدود المعارف وعلاقاتها، وهي نظرة فلسفية عميقة للعلم وإمكاناته»(7).

والشاطبي يعدّ العلوم اللغوية مرّة من العلوم الخادمة، ومرة من علوم الآلة، ومرة ثالثة من الصناعات، ومرّة هي الميزان الذي يُقاس به مقدار فهم الشريعة، ومرة أخرى هي الضابط... ولا يُفهم اعتباره للموضوع إلا في إطار العلاقة بين العلوم اللغوية والعلوم الشرعية من جهة، وفي إطار العلاقة بين العلوم النقلية والعلوم العقلية من جهة أخرى. فما هي العلوم اللغوية، وما هي العلوم الشرعية؟

في العلوم اللغوية

المقصود بالعربية أمران: عام وخاص؛ فالعربية بالمفهوم العام تطلق ويراد بها اثنا عشر علماً، نورد ذلك على الشكل التالي:

1 ـ النحو

5 ـ الاشتقاق

9 ـ البيان

2 ـ الصرف

6 ـ القريض

10 ـ الخط

3 ـ العروض

7 ـ الإنشاء (في الرسائل)

11 ـ القافية

4 ـ اللغة

8 ـ المعاني

12 ـ التاريخ (المحاضرات)

 

أما العربية بالمفهوم الخاص فهي؛ النحو والصرف.

وفي تصنيف آخر للعلوم العربية نجد العربية في المرتبة الأولى كما يوضّح الشكل التالي:

1 ـ علم العربية

6 ـ علم البيان

11 ـ علم السنن

2 ـ علم الاشتقاق

7 ـ علم البديع

12 ـ علم أصول الفقه

3 ـ علم التصريف

8 ـ علم القراءات

13 ـ علم الفقه

4 ـ علم النحو

9 ـ علم أسباب النزول

14 ـ علم الكلام

5 ـ علم المعاني

10 ـ علم الأخبار والآثار

15 ـ علم الموهبة

 

تعريف العلوم الشرعية

المقصود بالعلوم الشرعية العلوم والمعارف المدونة المستفادة من الشرع الإسلامي الحنيف...، ويمكن تقسيم هذه العلوم إلى قسمين: قسم العلوم الشرعية الأساس، أو المعروفة بالعلوم المقاصد، وقسم العلوم الشرعية المساعدة، أو المعروفة بالعلوم الوسائل. والعلوم المقاصد هي العلوم الشرعية الجوهرية التي تمثل حقيقة الدين، وجوهر أحكامه، وصميم قواعده ومقاصد تعاليمه. أما العلوم الوسائل فهي العلوم الشرعية الوسائلية التي تؤدي إلى معرفة الحقيقة الشرعية في معناها وأحكامها وقواعدها وضوابطها وغير ذلك. فالعلوم المقاصد هي علوم القرآن الكريم والتفسير، وعلوم السُّنَّة النبوية والسيرة، وعلم العقيدة والتوحيد، وعلم أصول الفقه، وعلم الفقه، وعلم قواعد الفقه، وعلم الخلاف الفِقهي، أو علم الفِقه المقارن، وعلم الفروق، وعلم مقاصد الشريعة، وغير ذلك... أمّا العلوم الوسائل فيُراد بها علوم اللغة العربية، وعلوم المنطق والفلسفة التي يُستعان بها في الفهم والاستنباط والترجيح، ويُلحق بهذه العلوم بعض العلوم المعاصرة التي تشترك معها في المعنى الوسائلي أو المساعدي الذي يوصل إلى تحصيل الحقيقة الشرعية فهما واجتهاداً وتنزيلاً، ويمكن أن نسمي هذه العلوم بالعلوم المساعدة التي يُستعان بها في المعرفة الصحيحة بحقيقة الوقائع الحياتية التي تتعلق بها أحكامها الشرعية، فيكون الفهم الصحيح للواقعة أو النازلة التي يُبحث عن حكمها موصلاً إلى تطبيق الحكم الشرعي الصحيح المنوط بها)(8). المقصود بالعلوم الشرعية إذن العلوم التي تبيّن الشرع، وتوضح كلّ ما تفرع عن القرآن الكريم والسُّنَّة النبوية.

وتقسم العلوم الشرعية إلى قسمين: العلوم الأصول، والعلوم الآلية؛ فالعلوم الأصول هي العلوم التي يتم استخراجها من القرآن والسُّنَّة مباشرة، ومنها:

1 ـ العقيدة وما يتعلق بها.

2 ـ الفقه وهو ما يتعلق بالمسائل التفصيلية الواردة في الكتاب والسُّنَّة.

3 ـ التفسير وهو ما يتعلق بتفسير القرآن الكريم، ويضاف إلى ذلك علوم القرآن: التجويد والقراءات والناسخ والمنسوخ..

4 ـ الحديث وهو يتعلق بالعلم بالأحاديث النبوية رواية ودراية.

أما العلوم الآلية فهي علوم الآلات، أو العلوم المساعدة الخادمة للعلوم الأصول، وهي:

1 ـ أصول الفقه وما يتعلق بأدلة الفقه الإجمالية كالأمر والنهي، والعام والخاص، والمطلق والمقيد..

2 ـ القواعد الفقهية وما يتعلق بالقواعد الشرعية الشاملة التي تستخرج من الكتاب والسُّنَّة.

3 ـ اللغة العربية، وما يتعلق باللغة العربية وعلومها، ومنها النحو والصرف والاشتقاق والأدب والشعر....

العلاقة بين العلوم اللغوية والعلوم الشرعية عند الشاطبي

إنّ النظر في العلوم الشرعية بأصولها وفروعها بيّن أن العلوم اللغوية هي جزء من العلوم الشرعية، والعلوم اللغوية باعتبار من الاعتبارات (اعتبار الآلية) تنتمي إلى منظومة أكبر من منظومة العلوم اللغوية، ولذلك تضاربت الآراء حول ترتيب هذه العلوم. يقول ابن خلدون في معرض حديثه عن العلوم وأصنافها والواجب منها وغير الواجب...: «النظر في القرآن والحديث لا بدّ أن تَتَقَدَّمَه العلومُ اللسانيةُ؛ لأنه متوقّفٌ عليها، وهي أصنافٌ؛ فمنها علمُ اللغةِ، وعلمُ النحو، وعلم البيان، وعلم الآداب..»(9) فلما كان توقف فهم العلوم الشرعية على العلوم اللغوية كان لها التقدم من هذا الجانب. ولذلك يقول الإمام الغزالي في إحياء علوم الدين: «ليست اللغةُ والنحوُ من العلوم الشرعية في أنفسها، ولكن يَلْزَمُ الخوضُ فيها بسببِ الشرع؛ إذ جاءت هذه الشريعة بلغة العرب، وكلّ شريعة فلا تظهر إلا بلغة أهلها فيصيرُ تعلّمُ تلك اللغةِ آلة»(10). فالإمام الغزالي يجعل الخوض فيها (لازم). ويجعلها من علوم الآلة. «والعلم الآلي هو عبارة عن العلم الذي لا يكون مقصوداً لذاته، أو قُل: ليس هو غاية في حدّ ذاته بحيث لا يُطلب إلا من أجل غيره، وبحيث لا يُنال هذا الغير إلا بواسطته. «ومتى كان العلم الآلي يتعلق به غيره، نزل منزلة العلم الأسبق (مثال المنطق)، ونزل هذا الأخير منزلة العلم الأشرف؛ لكونه مقصوداً لذاته (مثال الطب)»(11) يتضح إذن أن المسألة لا تقف عند حدّ وصف العلم بالعلم (الأسبق)، أو (المقدّم)، أو (الواجب)، أو (اللازم)، أو (الأشرف)، وإنما يتطلب الأمر تعليل الحكم، وتفسير وجه التراتبية والأسبقية أو التقدم أو الشرف...

ويعدّ الشاطبي العلوم اللغوية من العلوم (الخادمة)، ومفهوم (الخدمة) مرتبة من مراتب التصنيف، وهي مرتبة لا تقل أهمية عن مرتبة الآلية إن لم تكن نوعاً منها؛ لأن «الخدمة صفة الشيء الذي يقوم بما تحصل به المنفعة لشيء آخر، وإذا وُصف العلم بكونه (خادماً) لغيره، فيعني ذلك أنّ هذا العلم قائم للغير بأمر من شأنه أن يستفيد منه، ويكون هذا الغير ـ في الممارسة التراثية ـ إما علماً من العلوم النقلية أو العقلية، وإما مبدأ من المبادئ الأصلية للتراث الإسلامي العربي، ففي الحالة الأولى فإنّ العلم الخادم هو ما كان آلة من الآلات التي يتوصل بها العلم المخدوم إلى تقرير أحكامه واستخراج مسائله، فيكون المنطق بحسب هذه الحالة أكثر علوم الآلة، يليه في ذلك علم اللغة ثم الأمثل فالأمثل.

وفي الحالة الثانية، فإن العلم الخادم هو ما كان وسيلة لتحصيل وتوصيل المبادئ العقدية والشرعية للحقيقة الإسلامية، علماً بأنّ هذه الحقيقة في الممارسة التراثية باتت تستتبع الحقيقة العلمية بحيث لا يُقبل من العلم إلا ما كان موافقاً لمقتضياتها، بل تستتبع الحقيقة اللغوية؛ بحيث لا يُقبل من الاستعمال إلا ما كان ملائماً لقيمها، فتكون بذلك العلوم التي نقلَها إلينا التراث معارف لم تنقطع في كل أطوارها التي تقلبت فيها، وفي كل المظاهر التي تشكلت بها عن خدمة مبدأ الحقيقة الإسلامية، وإن تفاوتت هذه الخدمة فيما بينها»(12).

إذا تقرر أنّ العلم الخادم هو ما كان آلية من الآلات التي تمكّن من العلم المخدوم، وتعمل على تقرير أحكامه واستخراج مسائله، أو ما كان وسيلة لتحصيل العلم وتوصيل مبادئه ـ بتعبير الأستاذ طه عبد الرحمٰن ـ فإن مفهوم الخدمة هو تسخير لمفهوم الآلية، وتفعيل للأدواتيه، فالآلية والخدمة مجال تختلط فيه الحدود بين العمل وآلته، وهذه الآلة ضرورة للفهم، وأداة له لا بدّ منها، ووسيلته المعتمد عليها. يقول الشاطبي: «العلوم المضافة إلى القرآن تنقسم أقساماً: قسم هو كالأداة لفهمه واستخراج ما فيه من الفوائد، والمعين على معرفة مراد الله تعالى منه؛ كعلوم اللغة العربية التي لا بدّ منها، وعلم القراءات، والناسخ والمنسوخ، وقواعد أصول الفقه، وما أشبه ذلك..»(13) فـ (الأداتية) وصف لبعض العلوم، أو لبعض أصناف العلم، ومعنى ذلك أنّ هذا العلم الأداة لا يكون مقصوداً لذاته، أو غاية في حدّ ذاته، وإنما يُتوسل به في تحصيل العلم الهدف، أو الوصول إلى العلم الغاية، يقول طه عبد الرحمٰن: «ومتى كان العلم الآلي يتعلق به غيره نزل منزلة العلم الأسبق (مثال المنطق)، ونزل هذا الأخير منزلة العلم الأشرف؛ لكونه مقصوداً لذاته (مثال الطب)(14)

ولما دخلت علوم العربية على العلوم الشرعية كانت آلة لها، شأنها في ذلك شأن الحساب والفقه، أو الفقه والتصوف، أو التصوف والأخلاق؛ «فإذا كان دخول الحساب في الفقه يجعل منه آلة له، فإنّ دخول الفقه في التصوف يجعل الفِقه آلة له، كما أنّ دخول التصوف في علم الأخلاق يجعله آلة لهذا الأخير، وهكذا تكون الآلية صفة تعرض للعلوم من جهة استخدامها في غيرها بحيث لو صُرِف عنها هذا الاستخدام صارت علوماً مقصودة لذاتها، فيكون بذلك كل علم ـ من جهة ـ مقصوداً لذاته، ومن جهة أخرى آلة لغيره»(15). وسواء أكانت العلوم اللغوية علومَ آلة، أم علوم خدمة، أم علوماً أدواتية فإنها في جميع الأحوال من العلوم الوسائل التي لا تُطْلب من أجل ذاتها، وإنما تطلب للوصول إلى علوم مقاصد، وهي وإن كانت علوم وسائل فإن بناء المعرفة التامة لا يتمّ إلا بوجودها.

إن العلوم العربية تدور حول النص القرآني وحول الحديث النبوي الشريف، وتطوقهما، وكان لهذين المصدرين الفضل في تطور هذه العلوم؛ فعلوم التفسير، وعلوم الحديث، والقراءات القرآنية.... وعلم الفقه، وعلم أصول الفقه، وعلم الكلام، وعلم الفرائض، وعلم التصوف... وعلم اللغة، والمنطق، وعلم الأخبار والسير والأنساب... وغير ذلك علوم تدور في فلك النص؛ (من أسباب النزول إلى استنباط الأحكام، إلى الدفاع عن مبادئ الدين والعقيدة بالحجج والبراهين..). فالناظر في العلوم الإسلامية من الخارج يبني تراتبيتها اعتماداً على الظاهر، والناظر فيها من الداخل يبني تراتبيتها اعتماداً على عمق جوهرها.

تجليات العلاقة بين العلوم اللغوية والشرعية عند الشاطبي

نركز في هذا الفصل على رأي الشاطبي في المسألة اللغوية في العلوم الشرعية، ونعتمد في ذلك على نماذج(16) من مواقف الرجل وأحكامه في ذلك اعتماداً على مؤلفاته: الموافقات، والاعتصام، والمقاصد الشافية، ولمّا كان المقال لا يسمح بإيراد كل ذلك نكتفي بالنماذج التالية:

1 ـ الضرورة: والعلم به (اللسان) عند العرب كالعلم بالسُّنَّة عند أهل العلم، لا نعلم رجلاً جمع السنن فلم يذهب منها عليه شيء، فإذا جمع (علم) عامة أهل العلم بها أتى على السنن(17)

2 ـ الوجوب: فإذا ثبت هذا فعلى الناظر في الشريعة والمتكلم فيها أُصولاً وفروعاً أمران:

ـ أحدهما: ألّا يتكلّم في شيء من ذلك حتى يكون عربياً، أو كالعربي في كونه عارفاً بلسان العرب، بالغاً فيه مبالغ العرب، أو مبالغ الأئمة المتقدمين(18) كالخليل وسيبويه والكسائي والفراء ومن أشبههم وداناهم، وليس المراد أن يكون حافظاً كحفظهم، وجامعاً كجمعهم، وإنما المراد أن يصير فهمه عربيّا في الجملة (19)

إذا لم يتوقف فهم النص القرآني على علم من العلوم فهو ليس بالعلم الضروري، ولكن ليس بالعلم المرغب عنه أو العلم المحرم، ولكن إذا توقف الفهم عليه فهو واجب التعلم، ولما كان فهم النص لا يتوقف على معرفة علم الهيئة أو النجوم أو الهندسة، فهي علوم ليست ضرورية؛ ولكنها إذا كانت مما يساعد على الموصل إلى الفهم فهي مما قد يطلب(20)

3 ـ المطلوب: المقدمة الخامسة: كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل: عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعاً (21)

فإذا ثبت هذا فالصواب أنّ ما لا ينبني عليه عمل غير مطلوب في الشرع.

فإذا كان ثَمَّ ما يتوقف عليه المطلوب كألفاظ اللغة، وعلم النحو، والتفسير وأشباه ذلك، فلا إشكال أن ما توقف عليه المطلوب مطلوب، إما شرعاً، وإما عقلاً، حسبما تبيّن في موضعه(22)

4 ـ الأداة: المسألة السابعة: العلوم المضافة إلى القرآن تنقسم أقسامًا:

قسم: هو كالأداة لفهمه واستخراج ما فيه من الفوائد، والمعين على معرفة مراد الله تعالى منه: كعلوم اللغة العربية التي لا بدّ منها، وعلم القراءات، والناسخ والمنسوخ، وقواعد أصول الفقه، وما أشبه ذلك، فهذا لا نظر فيه هنا(23)

5 ـ الوسيلة: ولكن قد يُدعى فيما ليس بوسيلة أنه وسيلة إلى فهم القرآن، وأنه مطلوب كطلب ما هو وسيلة بالحقيقة، فإن علم العربية، أو علم الناسخ والمنسوخ، وعلم الأسباب وعلم المكي والمدني، وعلم القراءات، وعلم أصول الفقه، معلوم عند جميع العلماء أنها مُعينة على فهم القرآن، وأما غير ذلك فقد يعدّه بعضهم وسيلة أيضاً، ولا يكون كذلك كما تقدّم(24)

6 ـ المعين: ولكن قد يُدعى فيما ليس بوسيلة أنه وسيلة إلى فهم القرآن، وأنه مطلوب كطلب ما هو وسيلة بالحقيقة، فإن علم العربية، أو علم الناسخ والمنسوخ، وعلم الأسباب وعلم المكي والمدني، وعلم القراءات، وعلم أصول الفقه، معلوم عند جميع العلماء أنها مُعينة على فهم القرآن، وأما غير ذلك فقد يعدّه بعضهم وسيلة أيضاً، ولا يكون كذلك كما تقدّم(25).

7 ـ الفرض: وأما الثاني من المطالب: وهو فرضُ علمٍ تتوقّف صحّة الاجتهاد عليه، فإن كان علم لا يحصل الاجتهاد في الشريعة إلا بالاجتهاد فيه فهو حتماً مضطر إليه؛ لأنه فرض كذلك. فإذا لم يكن في العادة الوصول إلى درجة دونه، فلا بدّ من تحصيله على تمامه، وهو ظاهر(26)

والأقرب في العلوم أن يكون هكذا علم العربية، ولا أعني بذلك النحو وحده، ولا التصريف وحده، ولا علم المعاني، ولا غير ذلك من أنواع العلوم المتعلّقة باللسان؛ بل المراد جملة علم اللسان ألفاظ أو معانٍ كيف تُصوِّرت ما عدا علم الغريب، والتصريف المسمى بالفعل، وما يتعلّق بالشعر من حيث هو شعر كالعروض والقافية، فإن هذا غير مفتقر إليه هنا، وإن كان العلم به كمالا في علم العربية (27)

العلوم اللغوية عند الشاطبي إذن هي بالنسبة للعلوم الشرعية (ضرورة) و(واجب)، و(مطلوب)، و(أداة)، و(آلة)، و(وسيلة)، و(فرض)، وإذا كانت العلوم الشرعية هي (الأشرف)، فإن العلوم اللغوية هي (الأسبق)، فترتيب العلوم يخضع لنظام ليس (للتفضيل) فيه حمولة ما، وإنما له مرجعية معينة؛ وهذه المرجعية إما أن تكون المرجعية العلمية، أو المرجعية التربوية.

المرجعية في تصنيف العلوم

فالأولوية العلمية تعني «أنّ صنفاً من العلوم أولى بأن يوضع أولاً في الترتيب؛ لأن الموضوعات التي يتعلق بها ينبغي أن يتجه إليها العقل قبل غيرها، وهذا لتوقف العلوم الأخرى على ما نحصله فيها من نتائج»(28). فمن ناحية (العلمية) إذا كان أمر المعرفة بموضوع من الموضوعات، أو إدراك حقيقة من الحقائق متوقف على علم من العلوم فهو أولى من غيره. «وهكذا إذا قلنا بأولية العلوم العقلية مثلاً، فإن هذا يعني أنّ بداية المعرفة تكون بهذه العلوم؛ لأن معرفتها تكون شرطاً للتقدّم فيها وللتقدّم في العلوم الشرعية ذاتها. وتكون العلوم الشرعية ـ ضمن هذا التصوّر ـ تابعة في الترتيب؛ لأن فهمها وتناول مسائلها يكونان في حاجة إلى عناصر مستمدة من العلوم العقلية. فالعقل الذي يطوّر العلوم العقلية يهيئ نفسه لممارسة العلوم الشرعية. أمّا إذا قلنا بأوّلية العلوم الشرعية؛ فإنّ هذا يعني أنّ المعرفة ينبغي أن تنطلق أولا من العلوم الشرعية باعتبارها العلوم التي تضع أمامنا الحقائق التي على العقل أن ينطلق منها في سعيه لبلوغ المعرفة الحق، وباعتبارها كذلك العلوم التي تبرز لنا الحدود التي تقف عندها قدراتنا العارفة فتقينا بذلك ـ ونحن نمارس العلوم العقلية ـ من استخدام هذه القدرة خارج حدودها، ومن الوقوع في التيه في الطريق الذي يكون ظننا فيه أنه يقودنا إلى بلوغ الحقيقة بشأن كل موضوع استندنا إلى العقل حين التفكير فيه. ومن الواضح مرة أخرى أن الخلاف بين الموقفين يتعلق أيضاً بالنظرة العامة للمعرفة (29)

أما المرجعية التربوية فتعني الأولوية بحسبها: أن ترتيب العلوم يخضع لمبدأ القدرة على التحصيل، والتدرج في التعلم وفي اكتساب المعارف والعلوم، فالمعتبر في هذا الباب هو قدرات المتعلم، وشروط تعليمه، فالأولية التربوية تعني النظر في العلوم من جانب مرتبتها في التعلم. «فالعلوم ليست نظرية فحسب؛ بل هي أيضاً موضوع للتلقين والتعلم، ومن هذه الجهة، فإن القول يكون عند البعض بأن العلوم الشرعية هي أولى ما ينبغي أن يُبدأ به في التعليم؛ لأنها تعطي لفكر المتلقن الحقائق التي يكون منها منطلق المعرفة، وترسم أمامه السبيل الذي يوصله إلى المعرفة الحق؛ بينما يكون القول عند البعض الآخر بأن التقدم المنهجي للعلوم العقلية وضرورتها لفهم العلوم الشرعية ذاتها وفهم ما تتعلق به هذه العلوم من حقائق يجعل العلوم العقلية أجدر بأن تكون بداية التعلم لكل مبتدئ في العلم؛ لأنها تمنحه الفرصة لكي يعرف أولا ذاته»(30)

خلاصـة

إن مسألة العلاقة بين العلوم اللغوية والشرعية عند الشاطبي مسألة تتجاوز حدود ما كتبه الشاطبي في المسألة إلى النظر في العلاقة بين العلوم العقلية والعلوم النقلية؛ بل النظر في ترتيب العلوم في الثقافة الإسلامية، والنظر في نسق العلوم في الفكر الإسلامي عموماً. فترتيب العلوم هو في حدّ ذاته إشكال، وموضوع نظر؛ لأنه بحث في الأسس المعرفية للعلوم العربية، وبحث عن مصدر المعرفة؛ فـ (كل علم شرعي ليس بمطلوب إلا من جهة ما يتوسل به إليه وهو العمل). بل كـل تصنيف للعلوم ينبني على توضيح المقاصد منها، وعـلى بيـان الـمواضيع التي تمس الحاجة لتناولها، والبحث عن المناهج المناسبـة لتنـاولها، أو المنهـاج الأقـوم للوصـول إلى غاياتها.

إن النظر في العلاقة بين العلوم اللغوية والعلوم الشرعية جزء بسيط من موضوع أشمل منه وأمتن، وهو موضوع النظر في مراتب العلوم، وتكامل المعارف، وهو موضوع لا يمكن فهمة فهماً صحيحاً إلا في إطار معرفي أشمل من التصنيف والترتيب، إطار يربط بين ذلك وبين مفهوم (التقويم)؛ تقويم النشاطات العلمية الإنسانية اعتماداً على مناهج علمية، ومبدأ (الوحدة) وحدة العلوم من خلال تقسيمها وتجميعها وإقامة هرمية لها.

.....

المراجع:

  1. الشاطبي، الموافقات، 2/302.
  2. الشاطبي، الاعتصام، 2/300.
  3. هذه بعض الأوصاف التي وصفت بها العلوم والمعارف عند الشاطبي في (الموافقات).
  4. انظر: «بلوغ أقصى المرام في شرف العلم وما يتعلق به من الأحكام» لأبي عبد الله محمد بن عثمان الطرنباطي في (مهمة علماء الإسلام) محاضرة لعلال الفاسي ألقاها في ندوة وزارة التربية الوطنية 1959 في مجلة (القرويين). تصدرها رئاسة جامعة القرويين ع 4، 1992، ص 10.
  5. إحصاء العلوم عند الفارابي يرتبط أيضاً بترتيبها «ترتيباً خاصاً بيّن بواسطته النسقية الطبيعية التي تربط بعضها ببعض ربطاً منطقياً وفلسفياً دون أن يقسمها إلى إسلامية وأجنبية، فتراه يقدّم علم اللسان؛ ليتحسس نواميس (الظاهرة اللغوية)، واستقراء خصائصها، ودراسة أجزائها كالألفاظ الدالة في لسان كل أمة، أو قوانين الألفاظ من نحو وعروض وبلاغة وغير ذلك، فتحي التريكي: «الحيل في إحصاء العلوم عند الفارابي. في: دراسات حول الفارابي»، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية، صفاقس، ص 21.
  6. انظر: فتحي التريكي، العقل والميكانيكا في إحصاء العلوم، في: مقاربات حول تاريخ العلوم العربية، ص 69 ـ 70، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس، دار البيروني للنشر، 1996.
  7. جلال محمد موسى، منهج البحث العلمي عند العرب، دار الكتاب اللبناني، بيروت، 1972، ص 56.
  8. انظر: أحمد شيخ عبد السلام، نحو علم لغة خاص بالعلوم الشرعية.
  9. انظر: بتصرف. نور الدين الخادمي، علوم الشرع عند ابن خلدون، في: المجلة العربية للثقافة، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، ع 49، مارس 2006، ص 283 ـ 284.
  10. المقدّمة لابن خلدون، 436.
  11. انظر: روضة الأعلام بمنزلة العربية من علوم الإسلام، لابن الأزرق الغرناطي.
  12. طه عبد الرحمٰن، تجديد المنهج في تقويم التراث، ص 84.
  13. طه عبد الرحمٰن، تجديد المنهج في تقويم التراث، 84 ـ 85.
  14. الشاطبي: الموافقات، 3/260.
  15. طه عبد الرحمٰن: تجديد المنهج في تقويم التراث، 84.
  16. المصدر نفسه.
  17. لما كان المقال لا يسمح بجرد كل آراء الشاطبي في ذلك اعتمدنا على نماذج، ونحيل على نماذج أخرى فيما يلي: انظر: الموافقات 1/45؛ 2/302 ـ 305 ـ 306 ـ 319 ـ 320 ـ 327؛ 3/260؛ 4/374 ـ 378 ـ 410 ـ 411.
  18. الشاطبي، الموافقات، 2/300.
  19. انظر: الشاطبي، الموافقات، 4/379.
  20. الشاطبي، الاعتصام، 2/297.
  21. الشاطبي، الاعتصام، 2/298.
  22. الشاطبي، الموافقات، 1/32.
  23. المصدر نفسه، 1/38.
  24. المصدر نفسه، 3/260.
  25. المصدر نفسه، 3/261.
  26. المصدر نفسه.
  27. المصدر نفسه، 4/378.
  28. المصدر نفسه، 4/379.
  29. محمد وقيدي، نسق العلوم في الثقافة الإسلامية، الإشكال العام، 176. في: الإحياء، مجلة إسلامية جامعة تصدرها رابطة علماء المغرب، ع 6، رقم التسلسل 18، 1995، الرباط.
  30. المصدر نفسه.
  31. محمد وقيدي، نسق العلوم في الثقافة الإسلامية، مرجع سابق.

 

 

أخبار ذات صلة