الاضطراب السياسي وتعليلات الفقهاء والمتكلمين

yassine-bouanane-tt-49UDqvzU-unsplash.jpg

معتز الخطيب (1)

 

أولاً: الاضطراب والفتنة والمحنة

لا تحفل كتب الكلام والفقه باستعمال اصطلاح الاضطراب؛ وإنما يَرد اللفظ في مواضع معدودة من كتب التاريخ، يَصف به المؤرخون حالة غياب استقرار الحكم أو غياب انتظام الأحوال، من ذلك حديث الطبري عن زمن الخليفة الثالث عثمان بن عفان أن "أهل الكوفة قد اضطرب أمرهم، وغلَب أهل الشرف منهم والبيوتات والسابقة والقَدَمة"(2)، وعَنْون في سنة (126) بقوله: "ذِكر اضطراب أمر بني مروان"، وقال: "في هذه السنة اضطرب حَبل بني مروان وهاجت الفتنة"(3)، ووصف ابنُ خلدون بدوي بن يعلى (أمير بني يفرن في المغرب) بأنه "كثيرُ الاضطراب على الأموية والمراوغة لهم بالطاعة"(4). ولكن ما أطلقنا عليه الاضطراب هنا يتصل بعدة مصطلحات آثرها الفقهاء على لفظ الاضطراب، وهي: الفتنة، والخروج، والبغي، والطاعة.

 

و"الفتنة" مصطلحٌ متشعب المعاني، ولكنه في دلالته السياسية يُراد به الانقسام والاقتتال الداخلي والاضطراب السياسي وغيره، وقد جرى شراح الحديث على أن المراد بالفتنة ما ينشأ عن الاختلاف في طلب الملك حيث لا يُعلم المحق من المبطل(5)، وقد شكّل الثوَرَان في طلب الإمامة والاختلافُ على الإمام وسياساته مادةً أساسية للفتنة والتفرّق، ثم انضم إلى ذلك مع تطور الدولة وامتداد الحكم: سياساتُ الحكام وخلافات الأسر الحاكمة وشغَب الجند والنزاع بين الدويلات التابعة للخلافة، ليتحول في الأزمنة المتأخرة إلى رافد أساسيّ لفكرة الطاعة السياسية، وأن معارضة السلطة أو الخروج عليها هو أساس الفتن ومبدؤها.

 

ويتردد لفظ الفتنة في الأحاديث والأخبار بكثرة، وله دلالات أخرى ستظهر مع الكتب التي أُفردت للفتن، وفيها كلامٌ عن الساعة وأماراتها والابتلاءات الإلهية للأفراد والجماعات وغير ذلك، كما يتردد أيضًا في الزمن الأول في المحاورات بين السلطة والثائرين عليها أو في طلبها، فنجده مثلاً على لسان بعض الصحابة لبيان تشخيصهم لوقائع الاضطراب في زمن عثمان وعلي ثم الحسين وابن الزبير وابن الأشعث، بل إنه يتردد في محاورة بين معاوية بن أبي سفيان والحسين بن علي الذي قال لمعاوية: "وما أعلم فتنةً أعظمَ من ولايتك أمرَ هذه الأمة"(6)

 

ولو تصفحنا تاريخ الطبري (310هـ) سنجده يؤثر لفظ الفتنة، ويُعنون به العديد من الوقائع، فنجد مثلاً: ذكر الفتنة بين اليمانية والنزارية، ووقوع الفتنة ببغداد بين أهلها وبين جند السلطان، وذكر الفتنة بين جند بغداد وأصحاب محمد بن عبد الله بن طاهر، ووقوع الفتنة بين الأتراك والمغاربة، وذكر الخبر عن الفتنة بين الجعفرية والعلوية، وذكر خبر الفتنة بطرسوس، وغيرها، بل إن لفظ "فتنة" و"الفتنة" يَرد في تاريخ الطبري وحده نحو مائتي مرة، في حين لا نكاد نجد ذكرًا للفظ "البغاة" وما يتصل به مما استقر في المذاهب الفقهية وصار مصطلحًا خاصًّا لمعنى الاضطراب السياسي والانقسام الداخلي.

أما لفظ الخروج فيتردد كثيرًا في تاريخ الطبري لوصف مختلف أنواع الخروج وليس خروج المتمردين على السلطة فقط، فخروج جيش السلطان لقتال معارضيه وخروج معارضيه والمتمردين عليه يوصفُ في كتب التاريخ بأنه خروجٌ، وكذلك خروج الخوارج وخروج الحسين بن علي، ويُفرد الطبري عناوين عدة تَرد فيها لفظة الخروج، وقد انشغل الفقهاء بالخروج أيضًا، وهو ينصرف إلى الثورة على الإمام والانفلات من سلطته والخضوع له، وقد قسم الفقهاء الخروج إلى ثلاثة أنواع: قطع الطريق، والبغي، ومذهب الخوارج، ولكنهم يميزون بين أحوال الخروج وهيئاته، فيجعلونه أربعة أصناف هي: الأول: قطاع الطريق، وهم قومٌ امتنعوا من طاعة الإمام وخرجوا عن قبضته بغير تأويل. الثاني: قوم خرجوا عن طاعة الإمام ولكن لهم تأويل إلا أنهم نفر يسير لا مَنَعة لهم، فهؤلاء قطاع طريق في قول أكثر الحنابلة، وهو مذهب الشافعي. الثالث: الخوارج الذين يُكفّرون بالذنب، ويكفرون عثمان وعليًّا وطلحة والزبير وكثيرًا من الصحابة، ويستحلون دماء المسلمين وأموالهم إلا من خرج معهم، ومذهب جمهور الفقهاء أنهم بغاة. الرابع: قوم من أهل الحق يخرجون عن قبضة الإمام، ويرومون خلعه لتأويل سائغ، وفيهم مَنَعة يحتاج في دَفعهم إلى جمع الجيش، فهؤلاء هم البغاة(7)

 

ومما يتصل بموضوع الثورة والخروج نوعان أدبيان نشآ في القرنين الثاني والثالث يعكسان الفتن والثورات السابقة عليهما، وهما: كتب المَقاتل التي تركز على مقتل الشخصيات أو العائلات المتميزة؛ كمقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب لجابر الجُعفي (128هـ) ومقتل الحسين، ومقتل عثمان، ومقتل عبد الله بن الزبير، ومقاتل الطالبيين لمحمد بن علي العلوي الهاشمي (287هـ) وغيرها مما ذكره النديمُ وغيره، وهدف هذا النوع من الكتب التحريض وإحياء ذاكرة الثورة والمحنة؛ لأنها لا تبحث إلا فيمن قُتل. أما كتب المِحَن فهدفها الحث على الصبر والثبات؛ لأنها تختص بذكر الذين امتُحنوا بأصناف الامتحان وبيان أسباب محنهم من رفضٍ لبيعة الحاكم الظالم، أو أمر بمعروف ونهي عن منكر أو ما شابه ذلك، ومن أشهر هذه الكتب وأوسعها كتاب المحن لأبي العرب التميمي (333هـ) الذي كان ثائرًا وحث الناس على الخروج على بني عبيد (الدولة الفاطمية) في القيروان، فاتفقت المشيخة على الخروج حينها.

 

ثانيًا: الإمامةُ وأصول الاختلاف الديني والسياسي

لم تعرف القرون الأولى من تاريخ الإسلام الاستقرار السياسيّ، فقد غَلَب عليها الاضطرابات والفتنُ المتلاحقة، وكان الاختلاف قد بدأ بوفاة النبي صلى الله عليه وسلم وانشعب في اتجاهات شتى، ولذلك نرى أصحاب كتب الفِرَق ينشغلون ببيان هذا والتفنن في لَمْلَمة أطرافه، وبيان كيفية انشعابه ليصلوا إلى موافقة عدد الفِرَق ويُحصوا أصحاب المقالات، ولكن المتتبع لأسس الانقسام الداخلي أو الافتراق - كما درَجت تسميته – يَصعب عليه الفصلُ بين الجانب الكلامي والسياسيّ، فقد تركت الأحداث والاضطرابات السياسية تأثيراتٍ بالغةً على التفكير الكلاميّ، فالخلاف كان يبدأ سياسيًّا ثم يتحول إلى نقاش كلاميّ وفقهيّ مع الطبقة العالمة؛ لأن الأحداث فرضت الكثير من الأسئلة والإشكالات حول طرائق تأمل النص/الوحي والتجربة النبوية، ثم مسار الجماعة المسلمة وافتراقاتها بعد غياب النبي صلى الله عليه وسلم، والجدل حول وراثته ومن يقوم بمهامه المتعددة السياسية والدينية، ولذلك يحرص مؤرخو الفِرَق على ربط الفُرقة بغياب شخص النبي صلى الله عليه وسلم؛ فالبغدادي – مثلاً - يقول: "كان المسلمون عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم على منهاج واحد في أصول الدين وفروعه"(8). وقد دفع هذا الترابط الوثيق بعض الباحثين إلى الربط بين الوقائع السياسية ونشأة علم أصول الدين على وجه التحديد، فضلاً عن تأثيرات عديدة سنجدها في باقي العلوم وعلى رأسها علم الفقه.

 

 لم يكن هذا الاضطراب واردًا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم؛ بفضل المهام المتعددة التي كان يتولاها وبفضل شخصيته الاستثنائية لكونه مؤيَّدًا ومسدَّدًا بالوحي،  وهو ما سيفرض نقاشات عميقة ومتشعبة حول صفة مَن يخلفُه وكيفية تسديد الخليفة: هل تُسدده الجماعة المسلمة بالشورى والمناصحة، أم تسدده القرابةُ النسَبية (آل بيت النبوة) وبمجرد قرابته يكون إمامًا مُسدَّدًا ومؤيَّدًا؟ ولذلك يتفق مؤرخو الفرق على مركزية "الإمامة" في افتراق الأمة واضطراب أحوالها، بدءًا من الإمام أبي الحسن الأشعري (324هـ) الذي يقول: "وأول ما حدَث من الاختلاف بين المسلمين - بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم - اختلافُهم في الإمامة ... ولم يَحدث خلافٌ غيره في حياة أبي بكر رضوان الله عليه وأيامِ عمر، إلى أن وَلِي عثمان بن عفان رضوان الله عليه وأنكر قوم عليه في آخر أيامه أفعالاً كانوا فيما نقموا عليه من ذلك مخطئين، وعن سَنن المَحَجة خارجين، فصار ما أنكروه عليه اختلافاً إلى اليوم، ثم قُتل رضوان الله عليه وكانوا في قَتله مختلفين، فأما أهل السنة والاستقامة فإنهم قالوا: كان رضوان الله عليه مصيباً في أفعاله، قَتَله قاتلوه ظلماً وعدواناً، وقال قائلون بخلاف ذلك، وهذا اختلاف بين الناس إلى اليوم. ثم بويع علي بن أبي طالب رضوان الله عليه فاختلف الناس في أمره؛ فمن بين مُنكِرٍ لإمامته ومن بين قاعد عنه ومن بين قائل بإمامته معتقد لخلافته، وهذا اختلاف بين الناس إلى اليوم. ثم حدث الاختلاف في أيام علي في أمر طلحة والزبير رضوان الله عليهما وحربهما إياه، وفي قتال معاوية إياه، وصار علي ومعاوية إلى صفين وقاتلَه عليٌّ حتى انكسرت سيوف الفريقين ونَصِلت رماحهم وذهبت قواهم وجثَوا على الركب ... فاضطرب أهل العراق على عليّ رضوان الله عليه وأبَوْا عليه إلا التحكيم "(9)

 

فرّع الأشعريُّ المقالات والفرق بناء على تلك الرؤية التاريخية والسياسية التي تربط بين الإمامة (السياسي) وعلم الكلام (العقدي)، وتؤرخ للاختلاف بأنه نشأ على ثلاث مراحل: حول الإمامة أولاً، ثم حول تصرفات الإمام وسياساته (أواخر خلافة عثمان) ثانيًا، ثم رجع الخلافُ حول الإمامة والنزاع حولها (مع خلافة علي). ويبين الأشعريّ - بوضوح - أن الإطار العام لهذا الاختلاف أثّر في علم الكلام، أو أن الخلاف حول الإمامة وخلافة النبي كان هو الإطار الذي نشأت من حوله كل الفرق والمقالات الكلامية، فيقول قبل ذلك: "اختلف الناس بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم في أشياء كثيرة ضلّل فيها بعضهم بعضاً وبَرِئ بعضهم من بعض، فصاروا فِرَقاً متباينين وأحزاباً متشتتين، إلا أن الإسلام يجمعهم ويشتمل عليهم"؛ أي أنه أراد أن يحافظ على فكرة الجماعة تحت مسمى "الإسلام" رغم كل تلك الاختلافات، ومن ثم سماه "مقالات الإسلاميين".

 

لا يخرج المتكلمون اللاحقون عما قرره الأشعريُّ، ولكن يزيدون عليه بعض التفصيل؛ فيضيفون بُعدًا جديدًا هو الخلاف الفقهي الذي لم يُوله الأشعريُّ اهتمامًا، في حين أن معاصرَه أبا حاتم الرازي (322هـ) الشيعي الإسماعيلي يَعيب على من يسميهم "العوامّ من النابتة" أنهم يدّعون اسم "أهل الجماعة"؛ لأنهم "مجتمعون على إمام واحد مع اختلافهم في الآراء والمذاهب ... يَعنون بذلك اجتماعهم على ولاية مَن وليَهم من الولاة بَرًّا كان أو فاجرًا، ومعاونتهم مَن غلَب وقام بالأمر من غير معنى اجتماعٍ على دين" (10)؛ أي أن الرازيَّ لا يُميز بين مستويات الاختلاف ويرى أن اجتماع "أهل الجماعة" الوحيد هو على الإمام الأعظم في حين لا يجمعهم جامعٌ دون ذلك، ويعيب عليهم "إقامتهم على التنازع والتشاجر بينهم في الأحكام والفرائض، وتكفيرَ بعضهم لبعض، وتَبَرّي بعضهم من بعض"، وهو ما حاول ضبطه الأشعريُّ في كتابه، فوسّع الإسلام ليشمل جميع أصحاب المقالات رغم ما بينهم من اختلافات، ثم جاء البغدادي (429هـ) فجعل أصل الخلاف بين المسلمين عامةً على مراحل هي: (1) خلاف في فروع الفقه "مما لم يُورث اختلافُهم فيه تضليلاً ولا تفسيقًا، وكانوا على هذه الجملة في أيام أبي بكر وعمر وست سنين من خلافة عثمان"، (2) "ثم اختلفوا بعد ذلك في أمر عثمان لأشياء نَقموها منه حتى أَقدم لأجلها ظالموه على قَتْله، ثم اختلفوا بعد قتله في قاتليه وخاذليه اختلافًا باقيًا إلى يومنا هذا، ثم اختلفوا بعد ذلك في شأن علي وأصحاب الجمل، وفي شأن معاوية وأهل صفين، وفي حكم الحكَمين أبي موسى الأشعري وعمرو بن العاص اختلافًا باقيًا إلى اليوم"، (3) "ثم حدث في زمان المتأخرين من الصحابة خلافُ القدرية في القدر والاستطاعة من مَعبد الجهنيّ وغيلان الدمشقي والجَعد بن دِرهم ..."(11)؛ أي أنه أرجع أصل الخلاف إلى ثلاثة: خلافٍ في فروع الفقه، وخلافٍ في سياسات الخليفة والعلاقة معه وشكل معارضته، وخلافٍ في "أصول الدين"، وهو خلافٌ متأخرٌ، فقد "اشتغلوا بقتال الروم والعجم وفتح الله تعالى لهم الفتوح وهم في أثناء ذلك كله على كلمة واحدة في أبواب العدل والتوحيد والوعد والوعيد وفي سائر أصول الدين".

 

ثم جاء الشهرستاني (548هـ) فجعل الاختلافات على ثلاثةٍ أيضًا، ولكنه صاغها على الشكل الآتي: "اختلافات اجتهادية كما قيل، كان غرضهم منها إقامة مراسم الشرع وإدامة مناهج الدين" في حال "تَزَلزُل القلوب، وتَسكين ثائرة الفتنة المؤثرة عند تَقَلب الأمور"، ويقصد بها الاختلافات الواقعة في حال مرضه عليه الصلاة والسلام وبعد وفاته بين الصحابة رضي الله عنهم، ثم قال: "وانقسمت الاختلافات بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى قسمين: أحدهما الاختلاف في الإمامة. والثاني: الاختلاف في الأصول"(12)، ويعني بالأصول الاختلافات التي حدثت في آخر أيام الصحابة كبدعة معبد الجهني وغيلان الدمشقي ويونس الأسواري في القول بالقدر وإنكار إضافة الخير والشر إلى القدر، وغير ذلك مما أصبح فرقًا ومقالاتٍ.

 

يُحيل هذا كله إلى مركزية الإمامة في أصل الخلاف وتأثيرها على مسائل الكلام وتَشَكُّل الفرق الإسلامية فيما بعد، والتي ما قامت إلا بناء على الاختلاف حول تأويل تلك الوقائع، وما نَجَم عنها من مُجريات وخلافات، وما أثارته من تساؤلات وتحيزات، وهو الخلاف الباقي إلى يومنا هذا، وليس يوم الأشعري ولا يوم البغدادي ثم الشهرستاني فقط، وبسبب هذا قال الشهرستاني: "وأعظم خلافٍ بين الأمة خلافُ الإمامة؛ إذ ما سُلَّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثلما سُلَّ على الإمامة في كل زمان"(13)، ويستشعر عِظَم الخطب وتعقّده فيما بعد فيقول: "وقد سهّل الله تعالى ذلك في الصدر الأول" يعني إلى خلافة عثمان.

 

وقد شهد القرن الأول وثلث القرن الثاني صراعاتٍ وفتنًا متلاحقة، نتج عنها مآسٍ وسفكٌ للدماء وصدماتٌ هزت الوجدان الإيمانيّ، وأمكن تحديدها في فتن أربعة رئيسة هي(14):

الفتنة الأولى والكبرى وبدأت بمقتل الخليفة الثالث عثمان بن عفان (35 هـ) وبلغت ذروتها بمقتل الخليفة الرابع علي بن أبي طالب (40 هـ)، وتخلل تلك الفاجعة وقائع دامية ونزاعات فرعية كموقعة الجمل بين علي والخارجين عليه (وفيهم عائشة وطلحة والزبير)، وحرب صِفِّين (بين علي ومعاوية)، وحرب علي على المحكِّمة (الخوارج) الذين انفصلوا عنه بعد صِفين بسبب قبوله التحكيم، ثم الصراع على من يَخلفُ عليًّا.

 

وتتجلى الفتنة الثانية بمقتل الحسين بن علي بن أبي طالب (61هـ) ومقتل عبد الله بن الزبير (72هـ) واستعادة الأمويين السيطرة على الأوضاع، وكانت الفترة ما بين مقتل الحسين وقتل ابن الزبير قد شهدت نزاعات دامية متعددة بلغت حدًّا عجيبًا بغزو جيش الأمويين للمدينة المنورة (وقعة الحَرَّة) ولمكة وقَصف الحرَم، وتراجع المكانة الدينية والسياسية لهاتين المدينتين المركزيتين في تاريخ الإسلام.

 

الفتنة الثالثة تجلت فيما سماه المؤرخون "فتنة ابن الأشعث" (82-84 هـ)، وبدأت بالكوفة ضد الحجاج بن يوسف الثقفي، ثم تطورت لتصبح ثورة على الأمويين، واستولى فيها على الكوفة والبصرة وسجستان وأجزاء من خراسان، وكانت قد سميت في الكتابات الحديثة "ثورة القراء"؛ لكثرة من شارك فيها من القراء والفقهاء، حتى قال أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن صالح العجلي (261هـ): "ولم يَنْجُ من فتنة ابن الأشعث بالبصرة إلا رجلان: مُطَرّف بن عبد الله ومحمد بن سيرين، ولم يَنْج منها بالكوفة إلا رجلان: خيثمة بن عبد الرحمن الجُعفي وإبراهيم النخَعيّ"(15)

أما الفتنة الرابعة فبدأت بمقتل الوليد بن يزيد (126هـ) وما أعقبها من اضطراب كبير صاحبَ سقوط الأمويين وقيام الحكم العباسي الذي سبقه دعوات وثورات عديدة.

 

ولهذا لا يمكن فهمُ تنظيرات الإمامة في كتب الكلام والفقه من دون ربطها بتلك الوقائع والاضطرابات السياسية التي أوجدت قناعةً بضرورة الإمامة للدين والدنيا، وأن أمور الجماعة لا تنتظم إلا بإمامٍ بَرٍّ أو فاجرٍ، فظهر القول في الإمامة، وأنها واجبة بالعقل والشرع أو بأحدهما فقط، ودارت التنظيرات الكلامية حول الإمامة والموقف منها ومن العلاقة مع الإمام (الطاعة والخروج)، ما يعني أنه لا يمكن فصلُ الاضطراب السياسي عن الخلافات الفقهية والكلامية الأولى، التي تَحولت فيما بعد إلى فرق كلامية ومذاهب فقهية منضبطة في مناهجها ومصادرها ومتونها وشروحها. وهذا الترابط بين السياسي والكلامي والفقهي لا يظهر صريحًا في كتب العلوم التي تَحولت إلى صنائع وتخصصات خلال القرنين الثاني والثالث، وبسبب ذلك قد يتوهم بعض الباحثين غياب هذا الربط، أو قد يحمله على غير محمله؛ فيظن أن ثمة "مشكلة انفصام بين العقدي والسياسي"، بمعنى أن "المتكلم يبدأ بالعقيدة ليصل إلى السياسة؛ ولكن ما يقوله في العقيدة لا ينعكس بالضرورة على السياسة"(16)

وإنما نشأ هذا من توهم الانفصال بين المجالات أو الاختلافات، ومن تَصَور أن المتكلم يبدأ من العقيدة ليصل إلى السياسة، في حين أننا نجد تداخلاً بين العقدي والسياسي بحيث يصعب الفصل بينهما، كما أننا في أحيان أخرى نجد أسبقيةً للسياسي على العقدي، بمعنى أن الإشكال يبدأ سياسيًّا ثم يصير عقديًّا، ويتجرد فتتعمق فيه الأنظار حتى تنقطع صلته المباشرة بالحدث السياسي الذي ولّده أو أثاره، وما هذا إلا بسبب طبيعة الصنعة الكلامية الفلسفية، ولاكتمال الفرق والمذاهب التي أصبح لها هويات قارّة، وبات هامش التغيير فيها وتأثير الوقائع اللاحقة فيها ضعيفًا، وليس هو كحال مرحلة التدوين أو ما هو قريب منها، ولذلك تغلغلت الإمامة في تفاصيل مصنفات الفقه والكلام والأحكام السلطانية والسياسة الشرعية؛ ليس لأنه حصل "انتقالٌ لها من الفروع إلى الأصول أو من الجزئيات إلى الكليات" كما توهم بعضهم، بل لأن الإمامة هي جذر الاضطراب والفتنة، وعنها تَشكلت الفِرَق والمذاهب كما سبق.

 

ثالثًا: الطاعةُ والجماعة وتعليلات الخروج

أثارت تلك الفتن والاضطرابات السياسية مسائل عديدة في مسارين: علم الكلام والفقه، فظهرت النقاشات والاختلافات حول حكم مرتكب الكبيرة، ومفاهيم الإيمان والكفر، والموقف من المشاركين في الفتنة من الصحابة، ثم الموقف من الإمام الفاسق وكيف يكون الفسقُ، وشروط الإمامة وكيفية عَقْدها وما ينقضها (من الكفر والفسق والظلم)، والتصرف الواجب في الفتن، وانقسام السلطة الذي بدأ مع الخوارج الذين سَمّوا قادتهم "أمير المؤمنين" بعد وفاة علي بن أبي طالب، ثم مع مبايعة ابن الزبير في مكة بعد وفاة يزيد بن معاوية واستمرت خلافة ابن الزبير لنحو عشر سنوات. ونظراً لأن حروب الخوارج لم تَهدأ طيلة الحكم الأموي فقد تَغلّبوا على بعض النواحي، مما دفع الفقهاء إلى بحث مسائل من قبيل حكم ما دُفع إليهم ممن هم تحت سلطانهم كالصدقات والجزية وغيرها وهل تجزئ أو لا تجزئ؟ إلى غير ذلك من أحكام البغي والبغاة وما يتصل بأحكام الإمامة والخروج مما نجده مسطورًا في كتب الفقه.

كلاميًّا ارتبطت الإمامة بفكرة الجماعة، وهو ما أوضحه أبو حاتم الرازي (322هـ) إذ قال: "فأما الجماعة التي تدّعيها العامةُ من الناس فأصلُ اجتماعهم على أبي بكر بعد رسول الله صلى الله عليه وآله، ثم على عمر ثم على عثمان ثم على علي عليه السلام، فقيل لهم: أهل الجماعة، وكان هذا الاسم لازمًا لهم بعد خروج المارقة عليه وأصحابِ الجمل وأهلِ الشام حتى قُتل علي عليه السلام، فلما قُتل عليٌّ رضوان الله عليه وكثرت الفتن بخروج الحسن ثم بخروج الحسين، ثم بعد ذلك أيام ابن الزبير والخوارج، فكان السواد الأعظم وعامة الناس مجتمعين على بني أمية أيام معاوية، وبعده على ولده، ثم بعد ذلك على بني مروان، فادّعت العوامّ من النابتة هذا الاسم، وقالوا: نحن أهل الجماعة، ومن خالفنا وفارقنا فقد شق العصا وخالف الأمة وترك السنة، ونحن أهل السنة والجماعة، يَعنون أنهم مجتمعون على إمام واحد "(17)

يشير الرازي هنا إلى أن الافتراق حصل بعد عليّ فهو ينازع في مفهوم الجماعة بعده، وقد سبق إلى ذلك الخوارج الذين لم يستعملوا تسمية "أمير المؤمنين" إلا بعد مقتله؛ فقد كانت مشكلتهم مع معاوية الذي لم يعترفوا بشرعيته، فأضْفوا على قادتهم ذلك اللقب، وادّعوا أنهم "جماعة المسلمين" بعد تكفيرهم عامةَ المسلمين المخالفين، وقولهم: إن الدار دار كفر ويجب التحول منها إلى دار الهجرة. أما الرازي فيشرح مفهومه ومفهوم الشيعة للجماعة - بعد أن عاب على من تَسموا بـ"أهل الجماعة" تَفَرقهم واختلافاتهم فيما دون الإمام - فيقول: "أهل الجماعة قلوبهم مؤتلفة وآراؤهم مجتمعة، قد تَمسكوا بإمام مؤيَّد مسدَّد مطهَّر، يرجعون إليه فيما يلتبس عليهم من أمور دينهم "، وأنهم هم المتبعون لعلي وإن قلّوا، أي أن العدد لا اعتداد به وإنما الاعتداد بالإمام المسدَّد الذي يمثل الجماعة.

لقد أدى النزاع حول الإمامة إلى إعادة صياغة مفهوم الجماعة وبناء تصورات موازية للاعتقاد والأمة، في حين أن أهل السنة والجماعة إنما لَزِمهم اسم "الجماعة"؛ لأنهم رأوا لزوم الجماعة السياسية واجتماع السواد الأعظم على الإمام، ونتيجة هذا الانقسام حول الإمامة وفي الجماعة أصبحت كتب الاعتقاد -منذ الأشعري والطحاوي- تنصّ في متونها على أن "أهل السنة والجماعة" لا يَرَون الخروج بالسيف على الأئمة وولاة الأمور، ويَرَون طاعتهم وإنْ جاروا، وصار ذلك سِمةً ملازمة لهم تُميزهم عن سائر الفرق، وخصوصًا الخوارج الذين يتردد ذكرهم في كتب الكلام والفقه على السواء، وأصبحت "الخارجية" منهجًا أكثر منها علَمًا على فرقة تاريخية معينة، حتى قال عبد الله بن المبارك: "ومن قال: الصلاة خلف كل بر وفاجر، والجهاد مع كل خليفة، ولم يَرَ الخروج على السلطان بالسيف، ودعا لهم بالصلاح، فقد خرج من قول الخوارج أوله وآخره"(18)

ومن شدة عمق الإشكال، ومبلغ الأذى الذي لَحق بالجماعة- نتيجة الصراع على السلطة والاضطراب في شأن السياسة والحكم- أصبحت مسألة التغيير بالقوة والعنف مسألة مركزية في التراث الإسلامي، تتردد في مباحث عديدة من الاعتقاد والفقه والحديث والسياسة، بل وكتب التراجم والطبقات، حيث قيل في ترجمة بعض الرواة: "كان يرى السيف"، وكان ذلك كافيًا في نظر البعض لتَرك حديث الراوي مع جلالة قدره، وهي عبارةٌ شديدة التكثيف، تعني أن صاحبها يؤيد الخروج بالسيف على أئمة الجور، ولهذا رأينا أبا الحسن الأشعريّ يذكر من ضمن اختلافات الإسلاميين أن الناس اختلفوا "في السيف على أربعة أقاويل:

(1) فقالت المعتزلة (19) والزيدية والخوارج وكثيرٌ من المرجئة: ذلك أوجبُ؛ إذا أمكننا أن نُزيل بالسيف أهلَ البغي ونقيم الحقَّ، واعتلّوا بقول الله عز وجل: (وتعاونوا على البر والتقوى)، وبقوله: (فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله) واعتلوا بقول الله عز وجل: (لا ينال عهدي الظالمين).

(2) وقالت الروافض بإبطال السيف ولو قُتلت؛ حتى يظهر الإمام فيأمر بذلك.

(3) وقال أبو بكر الأصمّ ومَن قال بقوله: السيف إذا اجتُمِع على إمام عادل يَخرجون معه فيُزيل أهل البغي.

(4) وقال قائلون: السيف باطلٌ ولو قُتلت الرجال وسُبيت الذرية، وإن الإمام قد يكون عادلاً ويكون غير عادل، وليس لنا إزالته وإن كان فاسقاً، وأنكروا الخروج على السلطان ولم يَرَوه، وهذا قول أصحاب الحديث"(20)؛ أي أن الاضطرابات السياسية أفضت مع تبلور الفرق الكلامية واستقرار مقالاتها إلى هذه المواقف المتمايزة التي تعبر عن مبلغ هذه المسألة وتحولها إلى جزء من مباحث الاعتقاد، وإن كان أبو الحسن لا يصرح بموقفه هنا؛ فإنه في "الإبانة" رأى تضليل من رأى الخروج على ولاة الأمر إذا ظهر منهم تَرك الاستقامة، وهو الذي ظهر فيه قُربه من مذهب أصحاب الحديث، على ما كان بينه وبين البربهاري (329هـ) شيخ الحنابلة في بغداد من تَوتر مع تعاظم شأن الحنابلة في بغداد واستطالتهم على الناس في القرن الرابع.

لم تكن الفتن والاضطرابات في القرنين الأولين لتستمر من دون دعم وتأييد بعض الفقهاء على الأقل، خصوصًا على ما رأينا من خلافٍ بين الصحابة أنفسهم بين داعمٍ للخروج وكارهٍ له، ما يعني أنه يمكن رصد ثلاثة اتجاهات في الموقف من الفتن: العزلة والخروج والطاعة؛ فقد قَعَد عن الدخول في القتال بين المسلمين مطلقًا سعدٌ وابن عمر ومحمد بن مَسْلمة وأبو بكَرة وآخرون، وعارضوا الخروجَ؛ خشيةَ الفتنة. في حين رأى عبد الله بن الزبير والحسين بن علي وغيرهما الخروجَ، وتذكر كتب التراجم انزعاج الحجاج بن يوسف من تأييد بعض الصحابة الكبار للثورة على الأمويين، وأنه قال لأنس بن مالك: "جَوَّالٌ في الفتن؟! مرةً مع علي، ومرة مع ابن الزبير، ومرة مع ابن الأشعث!". وهذا الاتجاه بقي مهيمنًا على الأحداث حتى بدايات القرن الثاني الهجري، وفرض نفسه فيما بعد على نصوص الفقهاء الذي تَأَولوه واعترفوا بشرعيته، كما أن العديد من الفقهاء قد أيدوا ثورة ابن الأشعث وغيره، وهذا ما دفع عددًا من الفقهاء المتأخرين إلى الإقرار بوجود هذا الرأي وعدم التشنيع عليه، فلا نجد موقفًا حادًّا منه؛ بل نجد موقفًا متأولاً ومستسيغًا له، فالحديث هنا عن مواقف صحابة وفقهاء من خير قرون السلف الصالح، وبدا الذهبي - على سبيل المثال -  منزعجًا ومتألمًا لما حدث للحسين بن علي، ومع ذلك لم يَزد على القول: "ليته لم يخرج". فالخروج على الإمام الجائر كان مذهبًا لعدد من الصحابة ومن بعدهم من الفقهاء في القرون الثلاثة، ولذلك جاء ابن حجر فقال: "وهذا مذهب للسلف قديم، لكن استقر الأمر على تَرْك ذلك؛ لما رأوه قد أفضى إلى أشدّ منه؛ ففي وَقعة الحَرَّة ووقعة ابن الأشعث وغيرهما عِظَة لمن تَدَبر" (21)

لم تكن نصوص الفقهاء المتقدمين حاسمة بهذا الشكل في مسألة الخروج، وابن حجر هنا متأثر بالنووي الذي كان أول من حسَم في المسألة فيما نعلم؛ فإن نصوص الفقهاء السابقين عليه من الشافعية وغيرهم فيها تفصيلٌ وتركيبٌ في مسألة الخروج بسبب الظلم، وفيها بحثٌ عن سبل وإمكانات دفعه، وتقديرٌ للإمكان والقدرة ووسائل دفع الجور وغيره، ولكن النووي كان حاسمًا فقال: "وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين، وإن كانوا فَسَقَة ظالمين، وقد تَظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته، وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق، وأما الوجه المذكور في كتب الفقه لبعض أصحابنا أنه ينعزل - وحُكي عن المعتزلة أيضًا - فغَلَط من قائله، مخالفٌ للإجماع. قال العلماء: وسبب عدم انعزاله وتحريم الخروج عليه: ما يترتب على ذلك من الفتن وإراقة الدماء وفساد ذات البين، فتكون المفسدة في عَزْله أكثر منها في بقائه"(22)، ولذلك وجدنا محمد سعيد رمضان البوطي لا يستدل إلا بالنووي -وبهذا النص تحديدًا- لتحريم الخروج في الثورة السورية سنة 2011.

ولكن لو رجعنا إلى أئمة الشافعية قبل النووي سنجد الحليمي (403هـ) مثلاً يقول: إن الحاكم الجائر فيه قولان: قولٌ يرى أن الفسق لا يناقض الإمامة، ويحتج بظواهر الأخبار الحاثّة على طاعة الحكام عامة: العادل منهم والجائر. وقولٌ ثانٍ يرى أن الفسق يناقض الإمامة، فيصبح الجائر إمامًا "في صورة أَمْره وظاهرِ حاله دون إثبات أن يكون إمامًا بالإطلاق كالعادل"؛ أي فيتخرج على هذا أن الأحاديث الآمرة بالطاعة والمؤثِّمة للخارج هي قاصرةٌ على الإمام العادل.

وقد قلنا: إن الإمامة مرتبطة بفكرة الجماعة، ولهذا تَدَاخل الفقهي بالكلامي والسياسي كما شرحنا، ولا يمكن فهم النقاشات الفقهية حول الطاعة والخروج من دون استحضار فكرة "الجماعة" ومقصد الحفاظ عليها بعد التجارب التاريخية المؤلمة، ولذلك تدور نصوص الفقهاء -على اختلافهم وتطاول أزمانهم- على هذا المعنى بصياغات مختلفة، فهم مُجمعون على أنه إن كانت مفارقة الإمام ونَبْذ طاعته لا تكون إلا بنَقْض الجماعة وجبَت طاعته، ولكن الإشكال قائمٌ فيما إذا أمكنَت مفارقته بغير نقْض الجماعة، فمن رأى أن الفسق يناقض عقد الإمامة قال: تجب مفارقتُه. وتبقى المسألة تقديرية على طريقة الفقهاء في البحث في المصالح والمفاسد والموازنة بينها، وهي عبارة ستتردد كثيرًا في كتب الفقهاء المتأخرين في تعليل حرمة الخروج على الجائر، ولكن البيهقي يشرح كلام الحليمي - وهما فقيهان شافعيان -  بأن "مفارقة الجماعة" معناها "أن الجمهور إذا كانوا يرون أن فسقه لا يناقض إمامته، وكان نفر يسير يرون أنه يناقضها، فهؤلاء النفر اليسير ليس لهم أن يبوحوا بما في نفوسهم؛ لأن الجمهور يخالفونهم ويردونهم عن رأيهم، فإما أن تقع الفرقة، وإما أن تصيبهم من الإمام معرة استظهارًا منه بالجمهور، فيكونوا قد تعرضوا من البلاء لما لا يطيقونه، وذلك مما قد نُهُوا عنه، وهكذا إن كان أهل الرأي يرون أن الفسق يناقض الإمامة إلا أنه لم يمكنهم أن يخالفوه؛ لأن الجند قد ألِفوه، فإن أظهروا لهم ما عندهم من الرأي اضطربوا وماجوا وثارت الفتنة، فسبيلهم أن يسكتوا أو يلزموا الجماعة" (23)

لم تكن مسألة الخروج على الإمام الجائر عقدية في ذاتها إذًا، بمعنى أنها لا تدخل في جوهر الإيمان والكفر؛ بدليل أن جماهير الفقهاء لم يكفّروا الخوارج أنفسهم وعدُّوهم متأولين، وإنما كفّرهم بعضُ أصحاب الحديث فالخروج -رغم التنفير منه ومن فتَنته بقي مسموحًا به بشروط أو ملابسات خاصة، ولم يتحول الموقف منه إلى موقف ديني مطلق متجاوز لوقائع التاريخ والسياسة، كما ذهب إلى ذلك أصحاب الحديث؛ حيث قالوا وفق نقل الأشعري: "السيف باطلٌ"؛ أي أن لديهم موقفًا مبدئيًّا معارضًا له، في حين أن البقية لم يكن موقفهم من السيف موقفًا مبدئيًّا؛ وإنما بقي مرتهنًا بمعايير المصالح والمفاسد، والموازنة بين جور الحاكم، وفتنة الخروج وما يترتب عليها في حق الجماعة، ودارت النقاشات حول ما ينقض عقد الإمامة وما لا ينقضه، ومفاهيم الكفر البواح، وبدعة الحاكم وفيما إذا دعا إلى بدعة؛ فبعضهم أجاز الخروج في هذه الحالة؛ وهناك من الفقهاء من خرج عليه بالفعل لبدعة القول بخلق القرآن وغيرها.

ولكن -وبأثرٍ من أصحاب الحديث- تعاظم الرأي القائل بإبطال السيف، حتى أصبح هو الرأي الغالب على الفقهاء المتأخرين من مختلف المذاهب، وحكى فيه النووي الإجماع، وتوارد عليه فقهاء آخرون، وما عادت المسألة تقديرية وفيها تفصيل؛ بل بات القول ببطلانها مبدئيًّا، وتواردت تعليلات الفقهاء لهذا على أنه حقنٌ للدماء، وحرصٌ على وحدة الكلمة، ودرءٌ للمفاسد والفتن التي جرت الوقائع التاريخية بها؛ أي أن الدرس التاريخي الذي وعاه المتأخرون هو التضحية بالشرعية السياسية وقيمة العدل، وملازمة الصبر على الجور لحفظ الإمامة والجماعة؛ حيث أصبحت الطاعة مقابل الجماعة، بل ذهب الفقهاء المتأخرون إلى تعظيم مقام الإمامة الذي تَحول إلى مقام مجرد وعظيم مقطوع الصلة بالاعتبارات السياسية والواقعية؛ نتيجة انشغالهم بالواجب والمثال، خصوصًا أنهم رأوا أن الإمام الأعظم "هو القائم بخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا"، وقد جربوا في محن الصراع على الإمامة والانقسام حولها وهالَهم غيابها وانقسامها وتجزؤها.

ومن أبرز المعبرين عن هذا الدرس ابن القيم الذي يقول: "فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله؛ فإنه لا يسوغ إنكاره، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم؛ فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدهر، ... ومن تأمَّل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكر؛ فطَلَبَ إزالته فتولّد منه ما هو أكبر منه؛ فقد كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لما فتح الله مكة وصارت دار إسلام عزَم على تغيير البيت وردّه على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك - مع قدرته عليه - خشيةُ وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك؛ لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفر، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد؛ لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه"(24)

وقد أُحيي طرفٌ من هذه الجدالات في ظل الثورات العربية، فانقسم الناس إلى فريقين: فريق (من فقهاء الحركة الإسلامية) استعاد إرث الخروج وفق حساباته السياسية وتقديراته الفقهية والحركية، وفريق (من المفتين الرسميين وأمثالهم) استعاد إرث الطاعة، واستعار خطاب التحذير من الفتن والخروج على الجماعة، بعضهم هاله هذا الثوران وأرعبه، وبعضهم خشي فوَات مصالح خاصة أو كان مدفوعًا بخصومة حزبية (25)، وفريقٌ ثالثٌ سابق عليهما (من السلفيين الجهاديين) أسس منذ السبعينيات من القرن الماضي خروجه العنيف على شاكلة الفقه الخارجي القديم، رغم أنه لا يفوّت مناسبة إلا ويحاول النأي بنفسه عنه؛ مع تبنيه لأفكاره ومشابهته له في تكفير جماعة المسلمين والخروج عليهم والتسمي بالخلافة والقول بتحول دار الإسلام إلى دار كفر وغير ذلك، ولكن كان من اللافت استعادة هؤلاء الجهاديين (أي المنتسبين إليه) لواقعتين تاريخيتين لإثبات شرعية الخروج هما: حادثة خروج الفقهاء زمن بني عبيد في القرن الثالث، والتي اتفق فيها عامة الفقهاء في القيروان على الخروج على الفاطميين، وحادثة التتار الذين حكموا بنظام (الياسق) الذي وضعه جنكيز خان، والتي اشتهر فيها كلام ابن تيمية الذي أباح قتالهم مع ادعائهم للإسلام؛ لأجل ذلك الخروج عن الشريعة وتبديلها(26).

وإذا كانت تعليلاتُ الفقهاء والمتكلمين السابقين مبنية على تصور متماسك يتصل بفكرة الإمامة والجماعة وتجلياتها الفقهية والكلامية كما سبق، فإن تعليلات المعاصرين المعارضين للخروج والثورة أخذت صيغًا مختلفة، تتشابه في بعض الأحيان مع طريقة أصحاب الحديث، كما رأينا مع علي جمعة في مصر (في بعض فتاويه؛ لأن له آراء وفتاوى متناقضة) ومحمد سعيد رمضان البوطي في سوريا وغيرهما، في حين لجأ بعضٌ آخر إلى اللجوء إلى منحى ذي مسحة أخلاقية شكلانية، وهي تقديم السلم على العدل لدرء الفتنة (كما نجده مع عبد الله بن بيه) من دون وعي بعمق المأزق أو وجود تنظير أخلاقي كافٍ للمأزق الذي تعيشه الأمة والدولة في الزمن الحاضر، ولكن بعضًا ثالثًا لجأ إلى منحى صوفي (الصوفية السياسية)، فرأى أن المسألة "إيمانية" عقدية؛ ذلك أن العدل اليقيني هو في الآخرة، وأن الدنيا دار ظلم وابتلاء، وأن الظلم فتنة يجب الصبر عليها بوصفها ابتلاء من الله، وأن محاولة تغيير الظلم هو خروج على أقدار الله وخلل في الإيمان بعدله (حمزة يوسف وغيره).

أما الخطاب المؤيد للثورة فقد تفاوت بين الاستعانة بإرث الخروج التاريخي على تنوعه وبين خطاب العدالة والحريات الحديث، مع الاتكاء على بعض منجزات الفكر السياسي الحديث في المعارضة السياسية والثورة، ولكنه لم يخلُ من الاضطراب في الملاءمة بين إرثه الفقهي والفكر الحديث، وكان مدفوعًا برؤى حزبية ضيقة مع قصورٍ عن درْك تعقيدات الواقع السياسي وتأزمه.

.......

هوامش:

  1. أستاذ المنهجية والأخلاق بمركز التشريع الإسلامي والأخلاق، ، جامعة حمد بن خليفة - قطر.
  2. الطبري، تاريخ الرسل والملوك، بيروت: دار التراث العربي، ج4، ص279.
  3. الطبري، تاريخ الرسل، ج7، ص262.
  4. ابن خلدون، ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر، تحقيق خليل شحادة، بيروت: دار الفكر، 1988، ج7، ص28
  5. ابن حجر، فتح الباري، تحقيق محب الدين الخطيب، بيروت: دار المعرفة، ج13، ص31.
  6. ابن كثير، البداية والنهاية، بيروت: دار إحياء التراث العربي، 1988، ج8، ص174.
  7. انظر: ابن قدامة المقدسي، المغني، القاهرة: مكتبة القاهرة، 1968، ج8، ص526.
  8. البغدادي، الفرق بين الفرق، بيروت: دار الآفاق الجديدة، 1977، ص12.
  9. الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، تحقيق هليموت ريتر، ط3، فيسبادن، ألمانيا: دار فرانز شتايز، 1980، ص2-5.
  10. أبو حاتم الرازي، كتاب الزينة، تحقيق سعيد الغانمي، بيروت: دار الجمل، 2015، ج1، ص484.
  11. البغدادي، الفرق بين الفرق، ص14-15.
  12. الشهرستاني، الملل والنحل، القاهرة: مطبعة البابي الحلبي، ص20، 26.
  13. الشهرستاني، الملل والنحل، ص22.
  14. انظر: رضوان السيد، الفتنة وأخواتها في النص والوعي والتاريخ، مجلة التسامح، سلطنة عمان، العدد 21، سنة 2008، ووردت حكاية عجيبة فيها: "كَتَب الله على أمة محمد خمس صلوات، وخمس فتن أَوَلا أسميها لك؟ قلت: بلى قال: أمسك، إحداها موت نبيكم صلى الله عليه وسلم، واسمها في كتاب الله بغتة. ثم قَتْل عثمان واسمها في كتاب الله الصماء، ثم فتنة ابن الزبير واسمها في كتاب الله العمياء، ثم فتنة ابن الأشعث واسمها في كتاب الله البتراء، ثم تولى وهو يقول: بقيت الصيلم". انظر تفاصيله في: عمر بن أحمد بن العديم (660هـ)، بغية الطلب في تاريخ حلب، تحقيق سهيل زكار، بيروت: دار الفكر، ج5، ص2226-2227
  15. العجلي، تاريخ الثقات، دار الباز، 1984، ج1، ص431.
  16. انظر: هاني المغلّس، الطاعة السياسية في الفكر الإسلامي، بيروت: المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2014، ص270-271.
  17. أبو حاتم الرازي، كتاب الزينة، ج1، ص483-484.
  18. أبو يعلى، طبقات الحنابلة، تحقيق محمد حامد الفقي، بيروت: دار المعرفة، ج2، ص40.
  19. يقول ابن القيم في مبدأ الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر الذى اشتهر به المعتزلة: "مضمونه الخروج على أئمة الجور بالسيف، وخلع اليد من طاعتهم، ومفارقة جماعة المسلمين". ابن القيم، طريق الهجرتين وباب السعادتين، القاهرة: دار السلفية، ص385.
  20. أبو الحسن الأشعري، مقالات الإسلاميين واختلاف المصلين، ص451-452.
  21. ابن حجر، تهذيب التهذيب، الهند: مطبعة دائرة المعارف النظامية، الهند، ج2، ص288.
  22. النووي، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، بيروت: دار إحياء التراث العربي، ج12، ص229.
  23. البيهقي، شعب الإيمان، تحقيق عبد العلي عبد الحميد حامد، الرياض: مكتبة الرشد، 2003، ج10، ص12.
  24. ابن القيم، إعلام الموقعين عن رب العالمين، تحقيق محمد عبد السلام إبراهيم، بيروت: دار الكتب العلمية، 1991، ج3، ص12.
  25. شرحت ذلك في دراستي: معتز الخطيب، الفقه والدولة في الثورات العربية: معضلة الفقيه في ظل الدولة الوطنية الحديثة، مجلة تبين، المركز العربي، الدوحة، عدد 9، 2014.
  26. أوضحت تفاصيل هذا المعنى في كتابي الذي تحت الطبع بعنوان: العنف المستباح: الشريعة في مواجهة الأمة والدولة، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث، 2017.

 

 

 

 

أخبار ذات صلة