الزواوي بغوره
ما معنى تسييس الدين؟ وما علاقته بالثورات في الحاضر الإسلامي؟ للإجابة على هذين السؤالين، يتوجب علينا النظر في أسئلة أخرى، ومنها على وجه التحديد ما الصلة بين الدين والسياسة؟ وكيف نفهم هذه الصلة ضمن السياق الذي يعرف بعودة الدين؟ وما المقصود بالحاضر عموما والحاضر الإسلامي على وجه التحديد؟ لعله من المناسب منهجيا أن نبدأ بالسؤال عن معنى الحاضر، ثم نحاول معالجة بقية الأسئلة وفقا لمبدأ الانتقال من العام إلى الخاص؛ أي الإجابة عن الصلة العامة بين السياسة والدين، وعملية تسييس الدين في (ثورات)الحاضر الإسلامي.
أولا: في معنى الحاضر
يفهم من الحاضر ما هو موجود، وما يجري حالياً، وما يحدث الآن، وما يتعلق مباشرة بوضعية أو موقف أو مرحلة معينة. وهو تعبير عن فترة زمنية مختلفة عن الماضي والمستقبل. وهذا هو الفهم المتداول للحاضر. ولكن هنالك فهم فلسفي آخر للحاضر يتعلق بالفعل أو بما هو في (حالة الفعل)، وما هو(موجود حقيقة)، وله(قوة وكثافة). والمطلوب من التحليل الفلسفي ألا يتجاهل هذين المظهرين للحاضر، أي ما هو ظاهر وما يجري حقيقة، وأن يعمل على إظهارهما وتعيينها، وأن يبين علاقتهما، وأن يبرز في الحاضر حقيقة الحاضر، وهو المعنى الذي ذهب إليه الفيلسوف الألماني هيغل، وعبر عنه بلغة مجازية قائلا: "" لا تنظر إلى الأشجار التي سقطت، وإنما استمع إلى الغابة التي تنمو"(1)
و هنالك من الفلاسفة المعاصرين من طرح سؤال الإمكانية والمقدرة الفلسفية على وصف الحاضر وتشخيصه. ومن هؤلاء الفيلسوف الفرنسي بول ريكور الذي ذهب إلى القول بأن الحاضر ينفلت منا، وأن دور الفلسفة يتمثل في مقاومة الزمن. وهذا يعني أنه استبدل الحاضر بالزمان،و ذلك من أجل إحداث نوع من الاختراق . وهو ما تؤكده القيمة الفكرية والإنسانية التي تتمتع بها النصوص الكلاسيكية التي حافظت على هويتها. و""الأعمال الفكرية الكلاسيكية هي تلك الأعمال التي تصمد بالنسبة إلي وإلى آخرين في امتحان التغيير. هذه الأعمال متاحة دائما للقراءة وإعادة القراءة. إنني أومن بهذا النوع من المعاصرة الغريبة وبحوار الموتى، إن صح القول، لكنه حوار يسيره الأحياء"(2)
وإذا كانت الفلسفة المعاصرة لها وجهات نظر مختلفة في الحاضر، فإن مختلف تحليلاتها تؤكد أن الحاضر والآني لا يملك الوسائل التي تمكنه من أن يجد في ذاته أسباب وجوده. فليس هنالك حاضر إلا انطلاقاً من حاضر أوسع يتضمن كل أبعاد الزمان، وعلى وجه التحديد بعد الماضي. ولذا فإن الأمر يتعلق دائماً ببناء معين للزمان، ورده إلى مجموعة من الطبقات التي يتكون منها وهي: الماضي، والحاضر، والمستقبل. وقد تكون هذه الطبقات مستقلة نسبياً، وقابلة لأن تلتقي، وأن تترابط فيما بينها في تراكيب من المعاني الجديدة؛ وذلك لأن كل ما هو في الحاضر ليس حاضرا، وكل ما هو في الماضي ليس ماضيا. وبهذا المعنى نفهم دعوة الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو إلى كتابة (تاريخ الحاضر)، بوصفها دعوة تطرح مشكلة علاقة الحاضر بالماضي أو بالأحرى علاقتنا بماضينا.
ضمن هذا التصور العام للحاضر يتوجب علينا أن ننظر في الأحداث التي عرفتها المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة في بداية الألفية الثالثة، وبخاصة الأحداث التي سميت بـ(الثورات العربية)(3). وقبل الوقوف عند السمات العامة لهذه الأحداث بوصفها حالة من حالات تسييس الدين، فإنه يتعين علينا الوقوف بداية عند مفهوم الثورة. فما المقصود بالثورة؟
ثانياً: في معنى الثورة
مما لاشك فيه أن ثمة حاجة فكرية ونظرية ماسة للنظر في ما يجري في العالم العربي والإسلامي باسم (الثورات العربية). ومن الطبيعي أن يختلف حول معناها وقيمتها الباحثون والمهتمون، بل إننا نرى أن الاختلاف حولها أمر مشروع لأنها تستهدف مصالح ومشاريع ورؤى فكرية وأخلاقية حول العالم والحياة. ولكن مع ذلك، فإن ثمة عناصر أساسية، لا يمكن إلا الإقرار بها، ومنها على وجه التحديد:
-
الثورة حركة تغيير، وتوصف بالتيار الدافق، والسيل الجارف، والجدول المتدفق،و الربيع. وإذا كان التغيير يتفاوت بين الثورات وبين ما تعرفه بعض البلدان العربية، فإن المؤكد هو أن هذه الحركات ذات طابع تغييري، بل وأحدثت بالفعل حركة تغيير داخلية وخارجية. لذا نرى ضرورة وضعها في سياقها التاريخي الذي يبدو لنا أنه سياق التحول الديمقراطي في مداه البعيد.
-
كان ولا يزال هدف الثورة هو الحرية ضد الاستبداد، وما تعرفه بعض البلدان العربية صريح وواضح في هذا الشأن؛ إنها حركات حرية وديمقراطية في وجه الاستبداد والتسلط.
-
لا وجود لثورة من دون قدر معين من العنف؛ لأن العنف ملازم للتغيير، والتأسيس للجديد. ولقد عرفت بعض البلدان قدراً من العنف بلغ في بعضها (ليبيا وسوريا واليمن على وجه التحديد) حد الحرب الأهلية.
-
لا وجود لثورة دون تنظيم وقيادة، ومن البيِّن أن الحالة الثورية القائمة في العالم العربي تشكو من قلة التنظيم والقيادة، بل ربما شكل هذا العامل سبباً أساسياً في فشل مشروعها برمته.
-
ليست الثورة مجرد تغيير؛ لأن التغيير لا يقطع مع مجرى التاريخ. الثورة تغيير بمعنى إحداث: ""بداية جديدة تؤدي إلى الحرية" (4) وهو ما بينته بوضوح حنة ارندت.
-
لا يمكن لنا ضمن المعطيات الحالية- أو بالأحرى ضمن حاضرنا وآنيتنا- القول بإنجاز هذه البداية الجديدة في الحاضر الإسلامي، لكن هنالك علامات أولية على هذه البداية، ولكنها لم تصل بعد إلى نقطة اللاعودة، وبخاصة في اختبار القيمتين المؤسستين لكل بداية وهما: الحرية والعدالة التي تعني المشاركة الفعلية في إدارة الشأن العام.
-
لا يمكن فصل وقطع ما يحدث في العالم العربي عما عرفه التاريخ العربي الحديث والمعاصر من تحولات، وبخاصة الحركات التحررية، والهزائم المتتالية، والحروب الأهلية المعلنة وغير المعلنة: (لبنان، اليمن، السودان، الجزائر...إلخ)،و كذلك الاحتجاجات الاجتماعية والسياسية، وبخاصة الإضرابات الاجتماعية، والمظاهرات السياسية. وعلي، يمكن القول: إن (الثورات) التي يعرفها العالم الإسلامي عموما- والعربي على وجه التحديد- تدخل ضمن سياق التحول الديمقراطي الذي يتسم في عمومه بالانتقال من الثورة على الاستعمار إلى الثورة على الاستبداد والتسلط، أو من النهضة إلى الديمقراطية.
-
الأسباب التي تقف وراء (الثورات) أو التحول الديمقراطي عديدة، يمكن إجمالها في الجانب الاقتصادي؛ حيث تشير عديد التقارير -وبخاصة تقارير الأمم المتحدة- أن العالم العربي من المناطق التي تعرف تراجعا في مختلف الميادين. ويعنينا في هذا العنصر الإشارة أولاً -وبشكل خاص- إلى ظاهرة تنامي الفقر والبؤس. ومن المعروف في الدراسات الاجتماعية والنفسية مدى ارتباط الفقر بالكرامة؛ لأن الفقر متبوع دائما بنوع من الخزي والاحتقار والإذلال. والفقير كما تصفه الدراسات الأدبية والاجتماعية شخص يتخبط في الظلام، ولا أحد يراه، إنه لا مرئي. وهنالك –ثانياً- مشكلة الشباب وصراع الأجيال. ويتميز جيل (الثورات العربية) بأنه جيل مدني حضري وليس ريفياً ومتعلم ولكنه عاطل ومهمش ومقصى من المشاركة السياسية، مع أنه يستطيع أن يتواصل مع العالم، ومع القيم العالمية. وثالثا طبيعة النظم العربية التي تتسم بالتسلط إلى حد التصلب في رفض الإصلاح الذاتي؛ حيث يضيق هامش الحرية إلى درجة الانعدام. ورابعاً هنالك هذا الشعور بالهزيمة أمام القوى الخارجية سواء على مستوى التقدم الحضاري أو على المستوى العسكري، وعلى رأسه الهزيمة أمام إسرائيل، وذلك منذ نكبة 1948، وبخاصة هزيمة 1967 التي يتفق حولها الدارسون على أنها كانت السبب المباشر لظهور ما يعرف في تاريخ الفكر السياسي العربي والإسلامي الحديث بـــــ( الإسلام السياسي).
ثالثاً: بين الدين والسياسة
لا نستطيع مناقشة موضوع (تسييس الدين) من دون أن نناقش علاقة الدين بالسياسة. وإذا كان هذا الموضوع واسعاً، ويحتاج إلى عناصر كثيرة، ويشمل مختلف الديانات الوضعية والتوحيدية؛ لأن كل دين إنما هو جملة من التدابير الميتافيزيقية والأخلاقية والسياسية، أو مجموعة من القيم المعنوية التي تعين الإنسان في الحياة والعالم، ولأن الدين يعد من أقدم أشكال التنظيم الاجتماعي الذي اعتمده الإنسان في حياته المرئية واللامرئية؛ فإننا سنكتفي بالإشارة إلى التجربة الإسلامية، بحيث نستطيع القول: إن ثمة ثلاثة مستويات يتعين علينا النظر فيها -ولو بإيجاز- قبل الفصل في موضوع تسييس الدين، ونعني بذلك أولا المستوى النظري أو ما العلاقة بين الدين والسياسة في الإسلام؟ والمستوى التاريخي أو ما التجربة التاريخية للعلاقة بين الإسلام والسياسة؟ والمستوى الواقعي أو ما تجليات هذه العلاقة في واقعنا وحاضرنا القائم؟
-
يشير المستوى الأول إلى النقاش النظري حول علاقة الإسلام بالسياسة من جهة: هل الإسلام دين ودولة؟ مصحف وسيف؟ أم الإسلام دين وعقيدة فقط، وأن الدولة والسياسة والحكم من المسائل العرضية والظرفية؟ ومن المعلوم أن هذا النقاش قد طرح منذ بداية النهضة العربية الحديثة، وذلك ضمن سياق السؤال الذي ما فتئ يتكرر بأشكال مختلفة، وهو : لماذا تقدم الغرب وتأخر المسلمون؟
و إذا كانت الأسباب كثيرة؛ فإن بعض هذه الأسباب ذات طبيعة سياسية، فرضت على النهضويين -بمختلف اتجاهاتهم- مساءلة الصلة بين الإسلام والسياسة. ومن المعلوم أن الحركة الإصلاحية في عمومها قد ذهبت إلى القول بضرورة الأخذ بالأسباب المادية للتقدم الحضاري، ولكنها تحفظت على الأسباب الثقافية، وبخاصة الأخلاقية والقيمية، ولكنها مع ذلك لم تظهر حرصاً كبيراً في موضوع الخلافة العثمانية. فباستثناء الشيخ رشيد رضا، فإن غالبية المصلحين قد وقفوا موقفاً نقدياً منها. ولقد تعزز هذا الموقف مع كتاب علي عبد الرزاق: الإسلام وأصول الحكم، هذا بالإضافة إلى التيارات التقدمية والعلمانية التي نادت بضرورة فصل الدين عن الدولة. ويمكن القول إن المفكر اللبناني عادل ظاهر قد أجمل في كتابيه : (الأسس الفلسفية للعلمانية) و( أولية العقل)
مختلف القضايا النظرية التي طرحتها مسألة العلاقة بين الدين والسياسة. ورد بشكل مفصل على الأطروحة القائلة بعلاقة الدين بالدولة، أو فكرة أن الإسلام دين ودولة.
2. يمكن القول: إن المستوى التاريخي هو الذي يعطي لموضوع الصلة بين الإسلام والسياسة وكذلك تسييس الإسلام مسوغه وحجته وبرهانه المتمثل في الخلافة الإسلامية، وارتباطه بالمخيال الاجتماعي للمسلمين عموما، وتحويله في الحركات السياسية الإسلامية المعاصرة على وجه التحديد إلى إحدى الثوابت التي لا تقبل النقض، والحقائق المسلم بها بحيث يتم الفصل بطريقة لا تاريخية ولا عقلية بين تجربة الخلافة وبين تاريخ الحضارة الإسلامية، وعدّ الخلافة الإسلامية أصلاً وقاعدة، رغم كل تحولاتها بعد حرب (صفين)، وعد ما جرى بعد ذلك مجرد استثناء عن القاعدة. ولذا، لا تكف الحركات الإسلامية عن الدعوة إلى العودة إلى هذا الأصل، واتخاذه نموذجاً ومسوغا ودليلا على الحق والحقيقة والصلاح والفلاح في الدنيا والآخرة، وذلك على رغم تحولات التاريخ، ورغم ما يقتضيه العقل من تبدل وتغير، ورغم ما قدمه الباحثون والدارسون والعلماء وعلى رأسهم ابن خلدون، الذي فسر عملية انتقال الخلافة إلى الملك، وهي عملية ناشئة عن صراع واقتتال لا يزال العالم الإسلامي يعاني بعض مظاهرها، وبخاصة من جهة انقسام الإسلام إلى مذهبين كبيرين، المذهب السني والمذهب الشيعي. كتب ابن خلدون في نهاية: (فصل في انقلاب الخلافة إلى الملك (من مقدمته المشهورة ما نصه: ""ثم ذهبت معاني الخلافة ولم يبق إلا اسمها، وصار الأمر مُلْكًا بحتا، وجرت طبيعة التَّغلب إلى غايتها، واستعملت في أغراضها من القهر والتغلب في الشهوات والملاذ"(5)
3. يظهر المستوى الواقعي للتوظيف السياسي والإيديولوجي للإسلام وتسييس الإسلام في شكلين عامين. يتمثل الشكل الأول في علاقة النظم السياسية العربية والإسلامية المعاصرة بالدين الإسلامي، ويعكس الشكل الثاني علاقة الحركات الإسلامية المختلفة بدين الإسلام الذي حولته إلى سياسة كاملة وما يقتضي ذلك من ذرائعية ونفعية وميكيافيلية، بحيث تحول دين الإسلام إلى منطق للحساب السياسي الذي استبعد جانبه الروحي والرمزي. وعلى الرغم من الاختلاف بين الشكلين فإنه لا يمكن الفصل بينهما.
و لقد توقف العديد من الدارسين عند هذين الشكلين، وليس هدفنا أن ننظر في مقالاتهم-على الرغم من أهميتها- إلا أننا مع ذلك سنشير بشكل خاص إلى ما أنجزه رضوان السيد وفهمي جدعان من دراسات وتحليلات متميزة تراعي السياق والمعطيات الموضوعية وتقترح بدائل ممكنة.
و بناء عليه، فقد قدم رضوان السيد في تشخيصه للسياسات المتبعة تجاه المؤسسات الدينية ثلاثة نماذج أو أنماط كبرى. أطلق على الأول اسم (نمط الحفظ والاستتباع) وينطبق في عمومه على السياسات المتبعة في المملكة العربية السعودية. والنمط الثاني هو (الحياد الإيجابي والسلبي) ويخص في عمومه لبنان. والنمط الثالث هو نمط (الإقصاء والإضعاف للمؤسسة الدينية) ويظهر في الدول ذات النهج التقدمي واليساري والعسكري، ومنها الجزائر(6)
يظهر التوظيف السياسي والإيديولوجي للدين والمؤسسة الدينية معا - في الحالة الجزائرية- في الانتصار لفكرة أن الإسلام لا يتناقض ولا يتعارض مع الاشتراكية. ولو رجعنا إلى النصوص الأساسية للنظام السياسي الجزائري، ولما يعرف بالميثاق الوطني سواء تعلق الأمر بميثاق 1964، أو ميثاق 1976، أو ميثاق 1986، فإننا نجد توظيفا للإسلام يتفق والتصورات السياسية والإيديولوجية الموجهة للنظام السياسي أو للقائمين على هذا النظام. مثلاً نص الميثاق الوطني لعام 1976 على أن:
"الثورة تندرج تماما في المنظور التاريخي للإسلام؛ لأنه -في مفهومه الصحيح - لا يرتبط بنوع من المصالح الخاصة، ولا يخضع لأي كهنوت أو أية سلطة زمنية، ولهذا فلا يحق للإقطاعية ولا للرأسمالية أن تتخذ الانتماء إليه ذريعة لخدمة مصالحها وقضاء مآربها. لقد جاء الإسلام بمفهوم رفيع للكرامة الإنسانية، يدين العنصرية، وينبذ النعرة الشعوبية واستغلال الإنسان للإنسان، وإن المساواة المطلقة التي نادى بها الإسلام تنسجم وتتلاءم مع كل عصر من العصور"(7)
و لا يختلف عنه كثيرا التصور المطروح في ميثاق 1984، والذي جاء تحت مسمى ( إثراء الميثاق الوطني)(8) ولقد تعزز هذا التصور بما يمكن تسميته بالإصلاحية الجديدة؛ أي تلك الجماعة التي ورثت أفكار الحركة الإصلاحية الجزائرية ممثلة بجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
و لقد أسهمت هذه الإصلاحية الجديدة في بناء السلطة السياسية، وذلك من خلال بعض المواقع والمناصب السياسية التي شغلتها في مجالات التربية والتعليم والثقافة، وبخاصة في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية. وأصبح هؤلاء الذين تولوا مناصب سياسية يمثلون (الإصلاحية الجديدة)، ويتميزون بثقافتهم العربية أو الفرنسية، ويختلفون عن أسلافهم في كونهم أصبحوا جزءًا من السلطة الجزائرية الجديدة،و لكنهم في الوقت نفسه يمثلون استمراراً لبرنامج وتصور الحركة الإصلاحية أو جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وبخاصة فيما يتعلق بالهوية، ومكانة الدين في المجتمع.
و يتمثل الشكل الثاني في تسييس الدين ما يعرف بـ(الإسلام السياسي) الذي يعد مظهراً مفرطاً من مظاهر تسييس الدين؛ لأنه عمل على إعادة أسلمة المجتمعات المسلمة، ولأن بعض اتجاهات هذا الإسلام السياسي عدّ المجتمعات الإسلامية المعاصرة مجتمعات (جاهلية) يجب أسلمتها من جديد. ولقد اتخذت هذه الأسلمة مظاهر عديدة تبدأ من اللباس والكلام ولا تنتهي عند حد معين، بحيث أصبحت تشكل نوعاً من الحركة الشمولية المطلقة، التي تحاول إعادة تشكيل الفرد المسلم في كل كبيرة وصغيرة، وفي كل حركاته وسكناته. واتخذت وسائل تبدأ بخطب نصية وحرفية مستغلة إلى أبعد الحدود حكم التكفير في حق مخالفيها من المسلمين وغير المسلمين، ومستخدمة العنف الرمزي والمادي بجميع أنواعه، لتنتهي بأفعال إرهابية لم تشهدها البشرية، بحيث فرضت بمنطقها العدمي حالة استثنائية لم تعرفها المجتمعات الإسلامية والعالمية على حد سواء.
و إذا كان المجال لا يسمح بمناقشة مفصلة لهذا الموضوع؛ فإنه من الضروري الإشارة إلى ظهور حركات دينية إسلامية على رأسها حركة الإخوان المسلمين وحزب الدعوة الشيعي، اللذين ذهبا -بحسب فهمي جدعان- إلى أن الخلاص"" لا يجيء إلا من باب (الدولة الإسلامية)؛ أي من باب (السياسي) النضالي"(9) ومن ثم، فإن الخلاص لا يأتي إلا من خلال (تغيير الأنظمة الجائرة المستبدة")، والعمل على استبدالها بالنظم الإسلامية وتأسيس هوية خاصة وخالصة، وذلك بالاعتماد على المجابهة والعنف طريقة ووسيلة. ومع الإقرار بالاختلاف في مستويات الحركات الإسلامية السياسية، إلا أنها تتميز بثلاث خصائص أساسية هي: الاستخلاف، والتكليف، والحاكمية، وذلك قصد تحقيق الخلاص بواسطة التغيير.
و يعدّ هذا الخلاص نوعاً من التحريف، وذلك بحكم صدوره عن ظروف تاريخية:
"" تخرج عن حدود الغائية الكبرى والمركزية التي أرادها الإسلام لنفسه، وذلك لأنه دين قد جاء رحمة وهدى للعالمين بالحكمة والموعظة الحسنة، ولأنه شرع يتوخى أولاً وأخيراً وبإطلاق تحرير الإنسان من العبودية وإقامة مبدأ (العدل) على الأرض"(10)
ولذا فإن مقالة الإسلاميين تعدّ مقالة القلة في مقابل (التيار الأغلبي) أو التيار الحضاري، وتصطدم بالدولة الوطنية، والتيارات الليبرالية، والعلمانية، والبيئة الدولية الراهنة. وأدت إلى إشاعة صورة عن الإسلام والمسلمين قوامها: ""نزعة عدوانية تدميرية تنشر في كل مكان أسباب التوجس والخوف والحذر والكراهية لكل ما يرتبط بالإسلام والمسلمين""(11)
و لقد وصف رضوان السيد هذه الحالة المتمثلة في التوظيف السياسي والإيديولوجي للدين من قبل السلطات وتسييس الدين من قبل الجماعات الإسلامية أو الإسلام السياسي بالانفجار، أو كما قال:
""انفجار الدين بأيدي السلطات والمؤسسات الدينية والعلماء والمثقفين والمجتمعات، وهو انفجار -كما قلت- توالت فصوله منذ السبعينيات بمصر، وإلى القاعدة، وطالبان أفغانستان، وطالبان باكستان، فإلى الزرقاوي وداعش. وقد صارت هذه الظاهرة المهولة تهديدا حقيقيا لديننا ولأمتنا ولدولنا ومجتمعاتنا"(12)
مؤكداً في السياق نفسه على أن هذه الحركات الدينية -وبخاصة (الجهادية) أو (الإرهابية) -كانت أكثر عنفاً في البلدان ذات النمط الثالث؛ أي نمط الإقصاء والإضعاف.
و تعدّ التجربة الجزائرية مثالاً للتوظيف السياسي والإيديولوجي للدين ولتسييسه في الوقت نفسه. وإذا كنا قد أشرنا سابقاً - ولو بإيجاز- إلى عملية التوظيف الإيديولوجي؛ فإن عملية تسييس الدين في الجزائر ارتبطت بموقف (جمعية القيم) التي شكلت أول تعبير صريح عن الإسلام السياسي في الجزائر المعاصرة،و ذلك عندما حصرت موقفها النظري من الإسلام في الجانبين الأخلاقي والسياسي، وموقفها العملي في معارضة اختيارات السلطة الجزائرية الجديدة، وعملت على تحويل الهوية إلى موضوع سياسي، بحيث لم تجعل الإسلام عنصرا من عناصر الهوية، أو رافداً من روافد الإصلاح، كما فعلت الحركة الإصلاحية أو الإصلاحية الجديدة، وإنما حصرت مختلف مظاهر الهوية في الإسلام من حيث هو حكم أو سياسة أو تدبير لمختلف شؤون الإنسان. وبذلك أحدثت نقلة نوعية في الخطاب الإسلامي الحديث والمعاصر مقارنة بالحركات الإصلاحية والسلفية الحديثة والمعاصرة. وظهر ذلك جليا في مختلف خطاباتها.
ولعل أول مظهر لهذا التحول ما نقرأه عند أحد مؤسسي جمعية القيم وهو عبد اللطيف سلطاني الذي نشر كتاباً بعنوان دال: المزدكية هي أصل الاشتراكية، حيث قال: ""إذا قلنا: إن الإسلام دين ونظام فهو كذلك؛ ذلك أن ما في الإسلام من تشريع وأحكام يتناول حياة المسلم في جميع أطوارها"(13)
و بالنظر إلى طابعها السياسي فقد لجأت السلطة الجزائرية إلى حلها في عام 1966، وذلك بمناسبة اعتراضها على إعدام سيد قطب من قبل السلطة في مصر. ولكن في الوقت الذي منعت فيه السلطة الجزائرية جمعية القيم، فإنها قد حاولت احتواء بعض عناصرها داخل مؤسسات الدولة وأجهزة الحزب، كما حاولت تبني خطابها عن انحطاط القيم الأخلاقية، وذلك بمناسبة نزاعها مع بعض الزوايا والطرق الصوفية، وبخاصة الطريقة العلوية في عام 1968، بحيث اعتمدت على خطابي جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أو الحركة الإصلاحية وجمعية القيم،و ذلك كله في سياق تعيين وتحديد مكانة الإسلام في الدولة ودوره في المجتمع.
على أن ما يجب لفت الانتباه إليه هو أنه إذا كان النهج الاشتراكي المتبع في سبعينيات القرن العشرين قد تمكن من تقديم حلول للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية، فإن مرحلة الثمانينيات قد عرفت اضطرابات اجتماعية وسياسية ناتجة عن الأزمة الاقتصادية والاجتماعية للنظام، والمتمثلة عموما في ارتفاع الديون الخارجية، وتراجع أسعار البترول، وازدياد النمو السكاني الذي بلغ ضعفين مقارنة بالسبعينات، مع نسبة عالية من فئة الشباب التي تعاني البطالة والتهميش وفقدان السكن. ولقد ازدادت هذه الوضعية حدة مع عامل خارجي تمثل في انتصار الثورة الإيرانية في عام 1979، وما أدى إليه من إعادة النظر في النماذج التنموية، وبخاصة ما تعلق بالنموذج الاشتراكي، وإمكانية قيام (الحل الإسلامي).
أدت أحداث أكتوبر1988 - التي لا يزال البحث قائما في معرفة أسبابها الحقيقية- إلى ظهور أحزاب سياسية متعددة من بينها الأحزاب الإسلامية. والحق أنه إذا كان ثمة نقاش حول إسهام الإسلاميين في هذه الأحداث من عدمه، فإن كل الأدلة تشير إلى أنهم استفادوا منها استفادة كبرى، وهو ما تكرر بمناسبة (الثورات العربية) أو(الربيع العربي) في 2011. ومن بين العناصر الأساسية التي أسهمت في عملية التسييس، نشير إلى الآتي:
-
شكلت المساجد مركزا لتشكيل النخب الإسلامية السياسية، وفضاء لتكثيف عمليات التسييس، بحيث تحول المسجد من (دار للعبادة) إلى دار( للتعبئة السياسية والحزبية). وطرح هذا التحول مسألة سياسية وقانونية يتعين على الدولة والمجتمع في العالم الإسلامي معالجتها ألا وهي: ما مكانة المسجد في المجتمع الإسلامي الحديث؟ وما وظيفته في عصرنا الذي يتسم بالتعدد والتنوع والاختلاف؟
-
ظهور خطباء ودعاة وأئمة مستقلون عن المؤسسة الدينية أو وزارة الشؤون الدينية والأوقاف، اختاروا التوجه إلى المجتمع بخطاب ديني مناهض للخطاب الإصلاحي للسلطة القائمة. وهو ما يطرح مسألة التكوين العلمي والديني والتربوي للقائمين على الشأن الديني. فهل يتعين على الدولة أن تتولى هذه العملية، أم تترك الأمر للمجتمع، وللحركات الفاعلة فيه؟
3 . على الرغم من أن هؤلاء الخطباء ينتمون إلى التيار الإسلامي في عمومه، ويهدفون إلى إقامة الدولة الإسلامية؛ فإنهم يختلفون في توجهاتهم التي يمكن حصرها على الأقل في نهاية الثمانينات بالنسبة للجزائر في ثلاثة اتجاهات هي:
-
اتجاه الجزأرة، أي أولئك الذين ينتصرون إلى الخصوصية الجزائرية، سواء أكان ذلك تحت تأثير تعاليم مالك بن نبي أم وفقا لاجتهاداتهم الخاصة.
-
الاتجاه الأممي ويمثله تيار الإخوان المسلمين في الجزائر، وعلى رأسه حركة مجتمع السلم(حمس).
-
. الاتجاه الجهادي الذي مثله في البداية حركة مصطفى بويعلي الذي قاد عصيانا مسلحا ضد الدولة، ثم ظهر ما يعرف بالأفغان الجزائريين؛ أي أولئك الذين عادوا من أفغانستان بعد أن خاضوا حربا ضد الروس أو الاتحاد السوفيتي سابقا، وشكلوا جناحا قويا في الجبهة الإسلامية للإنقاذ، ومنها كل الجماعات الإرهابية.
ومع أن الدستور الجديد المعتمد في عام 1989 -الذي أقر بالتعددية السياسية- لا يسمح بتشكيل أحزاب سياسية على أساس ديني أو عرقي أو لغوي؛ فإنه - وبمفارقة ظاهرة- كان أول حزب اعتمده هو حزب إسلامي وهو حزب: (الجبهة الإسلامية للإنقاذ)، وذلك في مارس 1989، تلاه في المرتبة الثانية حزب يقوم على أساس لغوي، وهو: (حزب التجمع الثقافي الديمقراطي). وكان التفسير الغالب لهذه المفارقة في هذا الوقت هو أن السلطة قد عمدت إلى هذه الخطوة بغرض التحالف أو الاحتواء أو تطبيق سياسة (فرق تسد)!.
و كما هو معلوم، فقد أخفقت هذه السياسة، وذلك بالنظر إلى ما أدت إليه من عنف بلغ عند بعض المحللين درجة الحرب الأهلية، وراح ضحيته آلاف المواطنين، وشهد أعمالا إرهابية وإجرامية لم يسبق لها مثيل، وخسائر مادية جسيمة، وآثاراً نفسية واجتماعية وسياسية عميقة، بحيث اصطلح على سنوات 1990-2000 بـ(العشرية الحمراء)، و(المأساة الوطنية)، وهو ما أدى بالسلطة السياسية إلى اعتماد سياسة المصالحة الوطنية التي وظفت كذلك نوعا من الإسلام الصوفي المرتبط تاريخيا بالزوايا، وذلك كمحاولة لتقديم خطاب ديني قادر على تجاوز حالة الفرقة والانقسام والحدة والتعصب والعنف. وهو ما يعني -مرة أخرى- إجراء نوع من التوظيف السياسي للإسلام.
و إذا كانت هذه الأفكار الخاصة بالتوظيف والتسييس تنطبق على التجربة الجزائرية؛ فإن عملية تسييس الدين تشمل مختلف البلدان الإسلامية والعربية، وذلك بحكم التشابه بين النظم السياسية، ودرجات التفاعل العالية بين الحركات الإسلامية التي لا تؤمن في عمومها بفكرة الوطن الواحد، وتعمل على الانتشار الأممي والعالمي. لذا نستطيع القول: إن عملية تسييس الدين في (الثورات العربية)قد تميزت بجملة من السمات، أهمها:
-
لو رجعنا إلى الأحداث الأولى لهذه الثورات لاستوقفتنا المظاهرات الجماهيرية التي اتخذت من يوم الجمعة يوما للتظاهر والتجمع في الساحات العامة بغرض التنديد بالاستبداد والفساد والمطالبة بالعدالة وتغيير النظام. ومما لاشك فيه أن يوم الجمعة يحمل دلالة دينية معلومة، ولكن مع ذلك فإن هذه المظاهرات لم تحمل شعارات دينية محددة، وإنما كانت الشعارات المترددة سواء في ساحات اليمن أو مصر أو تونس أو ليبيا أو سورية تتمثل في العدل والحرية والكرامة. وهذا يعني إنه على الرغم من أن يوم التظاهر كان يوما دينيا أو على الأقل يحمل رمزية دينية فإن المطالب كانت سياسية واقتصادية واجتماعية. وعليه، فإن هذه المظاهرات الأولى كانت تمثل -في تقديري- نوعا من الاستمرار الذي عرفته حركات المقاومة والتحرر من الاستعمار، وذلك من جهة أن الدين كان يمثل نوعا من اللغة المشتركة بين مختلف فئات المجتمع، رغم الفوارق والاختلافات في المطالب والجهة التي تتوجه إليها تلك المطالب.
2 . بات من المؤكد أن قوى دينية إسلامية منظمة على رأسها حركة الإخوان المسلمين قد استغلت الطابع العفوي وغياب التنظيم والقيادة لهذه المظاهرات والاحتجاجات من أجل تحويلها عن مسارها الديمقراطي لصالح برنامجها السياسي الحزبي. وهو ما أدى إلى حالة من الصراع الحاد المصحوب بالاستقطاب والمنذر بانفجار المجتمع. وتعدّ الحالة المصرية والليبية والسورية علامة على هذا التسييس المفرط. وإذا كان المجتمع المصري قد تمكن في المرحلة الثانية من ثورته من الوقوف ضد عملية (التسييس المفرط للدين)؛ فإنه قد وقع من جديد في أحابيل النظام التسلطي، ولم ينجُ المجتمع الليبي والسوري من هذا الاستقطاب الذي أدى إلى حرب أهلية. ولم تنفلت من هذه العملية إلا الثورة التونسية التي غلبت مبدأ الوحدة والمصلحة العامة والديمقراطية.
3 . بلغ تسييس الدين في تجارب الثورات العربية درجة قياسية، وأفرز تنظيمات إرهابية ذات توجهات عدمية قاتلة، أصابت بشرورها مختلف المجتمعات الإسلامية والعالمية، وأصبحت تشكل خطراً يهدد وحدة المجتمعات الإسلامية بشكل خاص، ويقدم صورة مشوهة حول دين الإسلام تغذيها وسائل إعلام منحازة تهدف إلى إشاعة الكراهية والعنصرية تجاه الإسلام والمسلمين عموما.
4 . يتميز الطابع العدمي لهذه الجماعات التي تمثل التسييس المطلق لدين الإسلام بسمات خاصة مقارنة بالعدمية الفلسفية والسياسية. لقد عرف التاريخ البشري أشكالا من العدمية بدءا بالعدمية اليونانية المتمثلة في الشك المطلق، وانتهاء بالعدمية السياسية والأخلاقية التي عرفها العصر الحديث، وأصبح لها رموزها: النازية والفاشية في السياسة. وعبرت عنها النزعة الفوضوية، التي مثلها باكونين الذي نقل العدمية من حالة النقد الجذري للقيم إلى حالة الإرهاب العملي، معتمدا في ذلك على قاعدة مؤداها (تدمير أكثر ما يمكن وبأسرع ما يمكن).
وفي تقديري فإن كل المؤشرات (القتل، الذبح، التفجير، التعذيب، التدمير، الخطاب) تؤكد أن الجماعات الإسلامية الإرهابية أمثال (القاعدة) و(داعش)، إنما تحركها هذه النظرة العدمية، معتمدة في ذلك على عملية تحويل الدين إلى إيديولوجية خلاصية تستبدل بالعالم القائم عالما آخر. وتقتل ذاتها كشرط أولي لبناء الذات في عالم آخر، بحيث تحول الموت عند هؤلاء الشباب -الذين يمثلون في كل الأحوال جيلا بعينه له صوره المثالية وطوباويته الخاصة- ليس ذلك القدر الخارجي أو الداخلي الحتمي الذي يصيب كل كائن حي، وإنما أصبح الموت وسيلة للتحول وتحقيق الذات؛ أي أصبح طلب الموت من أجل عالم متخيل باسم (الجنة) أو (عالم كامل). وهذا هو المعنى الجديد لهذه العدمية، ففي الوقت الذي تنكر فيه العدمية النظرية سواء الفلسفية أو الجمالية أي عالم متعال؛ فإن العدمية الجديدة التي يعرفها العالم الإسلامي تؤكد - بمفارقة واضحة - عن ذلك العالم اللامرئي، وتجعل منه حقيقة أرضية مرئية. وكل ذلك بدافع تحقيق تصور طوباوي للدولة، أو بالأصح «دولة الخلافة»، أو «الدولة المستحيلة» كما سماها بعض الباحثين، ناشرة الفوضى واليأس حيثما حلت، وباحثة عن بطولة زائفة يعززها الإعلام المعولم والمؤدلج الذي لا يسمح بالتمييز بين الحقيقي والافتراضي، والواقعي والخيالي.
5 . استغلت القوى الأجنبية حالة التسييس المفرط لدين الإسلام لتفرض بطرق مختلفة سياساتها على الدول الإسلامية. ولقد أصبحت بعض الدول منقوصة السيادة، وبعضها معدوم السيادة، وقد يؤدي إلى إعادة تقسيم جديد لبعضها. وهذا يعني أنه في الوقت الذي كان ينظر فيه لعملية تسييس الدين على أنها تشكل مخرجا للمجتمعات الإسلامية وبديلا سياسيا بل وحضاريا، فقد تحولت إلى مأزق شامل.
رابعاً: في البدائل الممكنة
لا يمكن في تقديري الحديث عن البدائل الممكنة لعملية الحد من التوظيف السياسي والإيديولوجي للدين وتسييسه ما لم نطرح الموضوع في السياق الفكري والثقافي العام، والذي يمكن إيجازه بما اصطلح عليه بـ(عودة الدين) في زمن ما بعد الحداثة.
وهو ما يفرض الإشارة سلفاً إلى علاقة الحداثة بالدين، وذلك بسبب اتصال ما بعد الحداثة بالحداثة، سواء فهمنا مما بعد الحداثة حقبة تاريخية، أو حركة نقدية جديدة. وإذا كان من الصعب منهجياً ومعرفياً وضع تعريف جامع لمصطلحي الحداثة وما بعد الحداثة؛ وذلك لما يتسمان به من لبس وتعدد واختلاف؛ فإنه من الضروري أن نشير - على الأقل - إلى أن الحداثة تعني انبثاق الذاتية والعقلانية، وأنها تفيد تاريخيا ظهور حضارة جديدة بدأت مع نهاية القرن الثامن عشر، وتميزت بحدثين أساسيين هما: الثورة الصناعية والثورة الديمقراطية (14). وأن الانتقال من مرحلة العصور القديمة إلى عصر الحداثة يتفق وانبثاق ذات إنسانية واعية ومستقلة بذاتها، ومعتزة بانتصاراتها العلمية، وسيطرتها على الظواهر الطبيعة والإنسانية.
ولذا فقد تميزت علاقتها بالدين، وبخاصة علاقتها بالدين المسيحي، بالصراع والمنافسة والنزاع بل والإقصاء والاستبعاد، وذلك بحكم أن المسيحية الكاثوليكية قد ذهبت مذهباً مناهضاً للتنوير والحداثة، ولأن الحداثة بطبيعتها تتميز بما بينه عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر بعمليات العقلنة لمختلف فضاءات الوجود الإنساني وهو ما وصفه بنزع الغلالة السحرية عن العالم (désenchantement) (15).
ولكن الحداثة في ذاتها قد عرفت تحولات ثقافية وفكرية، وبخاصة بعد الحرب العالمية الثانية، وهو ما تشير إليه ما بعد الحداثة بوصفها حركة ثقافية تشكك وتعيد النظر في قيم الحداثة، وبخاصة التشكيك في العقل وقدرته. ولذا فإن ما يميز ما بعد الحداثة مقارنة بالحداثة هو عودة الدين مصحوباً بنزعة عدمية أو وثنية جديدة (neo-pain) بحسب بعض الدراسات(16) . هذا من جهة، أما من جهة أخرى فإن المسيحية ذاتها قد عرفت تحولات في علاقتها بالحداثة، وتم التعبير عنه- ضمن تاريخ الكنيسة الكاثوليكية- بالفاتيكان الثاني(17)، حيث تم الإقرار بأن العلمانية (laïcité) والعلمنة (sécularisation) لا تعني الإلحاد، وأن فصل الكنيسة عن الدولة قد يكون وسيلة مناسبة لضمان الكلمة الحرة للكنيسة. بمعنى أن المسيحية قد دخلت في نوع من التعاون والحوار مع الحداثة. ولقد عبر عن هذه الحالة الفيلسوف الفرنسي مارسال غوشيه خير تعبير عندما قال: ""إن المسيحية هي ديانة الخروج من الدين"(18).
و إذا كان هذا السياق العام ينطبق على التاريخ الغربي؛ فإن آثاره -كما هو معلوم- قد أصابت مختلف المجتمعات والثقافات بدرجات مختلفة، وبخاصة مجتمعاتنا الإسلامية التي تعرف تسييسا مفرطا للدين. وهو ما يطرح سؤال البدائل أو المخارج الممكنة من هذه الحالة التي بات الجميع يشعر بمخاطرها. وثمة بلا شك آراء عديدة حول هذا الموضوع، يمكن إجمالها في العناصر الآتية:
-
يرى فهمي جدعان أنه من الضروري إحداث نقلة في الفكر الإسلامي، تنقله من مبدأ تطبيق الشريعة إلى مبدأ مقاصد الشريعة وغائية العدل والمصلحة والرحمة، وذلك بالاستناد إلى مرجعية إسلامية، تمثلها مجموعة مهمة من علماء الإسلام منهم، الماوردي، والغزالي، والشاطبي، والعز بن عبد السلام..الخ. وأنه على الرغم من أن الخطاب الإسلامي لا يزال يغفل عن واقعة جوهرية، وهي " أن التجربة الرسالية هي تجربة فذة بالمعنى الدقيق للكلمة؛ أي أنها تجربة معززة بالوحي نفسه، وأنها بذلك تفارق كل المفارقة أي تجربة إنسانية"(19) فليس المطلوب هو تكرار تلك التجربة، وإنما المطلوب هو التجديد. من هنا، فإنه لن يكون هنالك أي مخرج ما لم يتحول نظام الإسلام السياسي إلى الديمقراطية من حيث بما هي تقنية، ومن حيث هي قيمة وثقافة لها فضائلها الخاصة.
-
من جانبه، يرى رضوان السيد أن المطلوب ليس فقط إحداث إصلاح المؤسسات الدينية أو الخطاب الديني؛ وإنما إنجاز إصلاح سياسي، وذلك بإقامة الدولة المدنية؛ لأن ""الدولة تعمل على إدارة الشأن العام، أو أنها -كما حددها الفقهاء الحنابلة- السياسة العادلة، والقيام على الأمر كما يصلحه؛ بحيث يكون حال الناس أو الرعايا أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد "(20)
-
يجب علينا أن نعرف أن التوظيف السياسي والإيديولوجي للدين إنما هو تعبير عن حاجة النظم السياسية والقوى والفئات الاجتماعية، والحركات الدينية للتعبير عن مصالحها، وتحقيق غاياته. ولا يخفى على أحد أن بعض المفكرين قد حول الدين إلى نوع من الإيديولوجية، ومن هؤلاء -على سبيل المثال وليس الحصر- سيد قطب، وأبو الأعلى المودودي، وعلي شريعتي، ومالك بن نبي...إلخ رغم التباينات والاختلافات فيما بينهم.
-
لا يمكن تصور حالة ينعدم فيها توظيف الدين في المجتمع بشكل مطلق؛ ذلك أنه حتى المجتمعات المعلمنة تعرف حضورا معينا للدين، بل نستطيع القول: إن من معاني عودة الدين هو عودته إلى المجال العام، وذلك ليس فقط بسبب ظاهرة الهجرة، أو الجاليات المسلمة، أو الجماعات العدمية، ولكن بسبب ما تواجهه المجتمعات الحديثة من غياب في المعنى، ومن تنامٍ في المطالب والحقوق الثقافية، ومنها المطالب الدينية. ثم إن توظيف الدين يحضر في عدد من المناسبات الحيوية، وبخاصة في حالة الأزمات و التضامن والمصير المشترك. وعليه، فإن المطروح في تقديري هو درجات التوظيف، بحيث بلغ هذا التوظيف أعلى درجاته في المجتمعات الإسلامية، وذلك من قبل جماعات دينية ذات منزع عدمي متخذة من العنف الأعمى وسيلة لتحقيق أهدافها، وذلك تحت ذريعة تحقيق شريعة الله.
-
مما لا شك فيه أن ثمة تفاوتا بين ثقافة المجتمعات وبخاصة ثقافتها السياسية. ومعلوم أن المجتمعات الإسلامية لا تزال تعتمد في التعبير عن ذاتها وعن مطالبها على اللغة الدينية، سواء في مخاطبتها للغير -وبخاصة عندما يتعلق الأمر بالعلاقة مع الأجنبي في صورة الاستعمار أو الاحتلال أو الغزو- أو في بعض مطالبها الاجتماعية تجاه حكامه ونظمها السياسية بشكل عام.
-
إن توظيف الدين يطرح بحدة ضرورة طرح مسألة مكانة الدين في المجتمع، وإخضاعها للمناقشة العقلانية التي تأخذ بعين الاهتمام الظاهرة الدينية في كليتها. ومما لاشك فيه أن المجتمعات الإسلامية لا يزال الدين يحتل فيها مكانة مركزية، ويقوم بوظائف أساسية، وذلك على الرغم من عمليات التحديث والعلمنة التي تعرفها المجتمعات الإسلامية بدرجات متفاوتة. وهنا، يتعين علينا أن نميز بين العلمنة من حيث هي عملية موضوعية تسم عصرنا وزماننا، وتؤدي إلى التمييز بين المجالات، وبين العلمانية من حيث هي فصل الدين عن الدولة.
-
معلوم أن ثمة اتجاها في الفكر الإسلامي عموما، وفي الفكر العربي على وجه التحديد يرى أن الحل الأمثل للحد من توظيف الدين وتسييسه على حد سواء إنما يكمن في اتخاذ العلمانية- من حيث هي فصل بين الدين والدولة- نظاما سياسيا. ولكن هذا التيار يواجه أشكالا من النقد، لا يتسع المجال لعرضها ومناقشتها، ومنها على وجه التحديد عدم إدراكه لخصوصية المجتمعات الإسلامية والديانة الإسلامية في الوقت نفسه، وعدم تحوله إلى تيار جماهيري، إذ لا يزال القائلون بالعلمانية نخبة سياسية أو ثقافية، لا تمتلك الأرضية الاجتماعية لتحقيق هذا المطلب. وعليه، فإن العلمانية -من حيث هي حل لتسييس الدين في المجتمعات الإسلامية في المدى المنظور- لا تزال برنامجا مؤجلا، رغم كل عمليات العلمنة التي تعرفها المجتمعات الإسلامية. ولذا، فإن فكرة الدولة المدنية تكتسي في السياق الحالي الذي تعرفه المجتمعات الإسلامية جدارتها وفائدتها بل ومصداقيتها.
-
تقتضي مسألة تسييس الدين أولاً، والتوظيف السياسي والإيديولوجي ثانياً، أمراً حيوياً؛ ألا وهو ضرورة تفعيل دور الفكر النقدي الذي يحلل ويشخص ويقف عند التناقضات والمخاطر التي تمثلها هذه المسألة على حياة ومصائر المجتمعات الإسلامية. ولا يتأتى ذلك إلا بإشاعة حرية التعبير، وضمان الحد الأدنى من حقوق الإنسان والديمقراطية.
.........................................................
هوامش:
(1)ery, Hegel et le présent, in, Cahiers philosophiques, n° 13, 1982, p.7-19.
(2) مجموعة من الفلاسفة، مسارات فلسفية، ترجمة محمد ميلاد، دار الحوار،اللاذقية- سورية، 2004،ص 193.
(3) أطلق على هذه الأحداث تسميات عديدة، و كل تسمية تتضمن بالضرورة موقفا نظريا و سياسيا. و من هذه التسميات نشير إلى: ( الربيع العربي، الاحتجاجات الاجتماعية، الانتفاضات العربية، الاضطرابات العربية، الحروب الأهلية العربية،،،إلخ).
(4) حنة ارندت، في الثورة، ترجمة عطا عبد الوهاب، المنظمة العربية للترجمة، بيروت-لبنان، 2008، ص 39.
(5) ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون، مهد لها، و نشر الفقرات الناقصة من طبعاتها و حققها، و ضبط كلماتها، وشرحها،و علق عليها،و عمل فهارسها، الدكتور علي عبد الواحد وافي، الجزء الثاني، دار نهضة مصر للطبع و النشر، القاهر، مصر، (د.ت)، ص 603.
(6) رضوان السيد، سياسات الدين في أزمنة التغيير، محاضرة بمركز الملك فيصل للدراسات الإسلامية، الرياض، 14/9/2014.
(7) جبهة التحرير الوطني، الميثاق الوطني، 1976، مصلحة الطباعة للمعهد التربوي الوطني، الجزائر 1976، ص26.
(8) جبهة التحرير الوطني، الميثاق الوطني، 1986، مصلحة الطباعة للمعهد التربوي الوطني، الجزائر 1986، ص34- 36.
(9) فهمي جدعان، في الخلاص النهائي، مقال في وعود الإسلاميين و العلمانيين و الليبراليين، دار الشروق للنشر و التوزيع، عمان،الأردن، 2007، ص 89.
(10) المرجع نفسه، ص 95.
(11) المرجع نفسه، ص 104.
(12) رضوان السيد، مرجع سبق ذكره.
(13)عبد اللطيف سلطاني، المزدكية هي أصل الاشتراكية، دار الكتاب الجديد، الدار البيضاء، 1974، ص 227.
(14) . Claude Geffre, La modernité, un défi pour le christianisme et l’islam, in, Théologiques, Vol.9, N°2, 2001, p.138.
(15). E.Poulat, Catholicisme et modernité: Un procès d’exclusion mutuelle, in, Conclicum, N°2244, 1992, p.25-31.
(16) . Claude Geffre, La modernité, un défi pour le christianisme et l’islam, op-cit., p.140.
(17) المقصود بذلك هو المجمع الكنسي الكاثوليكي الثاني الذي افتتحه يوحنا الثالث و العشرين في العام 1962 و اختتم أعماله في العام 1965 من قبل بولس السادس. و يعد من الأحداث الكبرى في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، و ذلك نظرا لانفتاحه على الحداثة و التقدم العلمي، و قبوله بمبدأ فصل الدين عن الدولة.
18)) Marcel Gauchet, Le désenchantement du monde: Une histoire politique de la religion, Paris, Gallimard, 1985,p.27.
(19) المصدر نفسه، ص 318.
(20) المصدر نفسه، ص 318.