الإسلام والدعوة والبلاغ في رسالة الإسلام

lexi-t-mt3czQ62E2M-unsplash.jpg

  عبدالرحمن السالمي

      عندما نقول: إنّ الإسلام فكرة؛ فإنّ معنى ذلك إسلام الوجه لله عزّ وجلّ وجوداً وتوحيداً وعبادة. قال سبحانه وتعالى: { له الخَلْقُ والأمر}. وقال :{ إياك نعبد. وإياك نستعين}. أما الدعوة للفكرة أو الاعتقاد، فيوضحها قوله تعالى في عدة آياتٍ؛ منها:{ شرع لكم من الدين ما وصّى به نوحاً والذي أَوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه}. فالفكرة أو الاعتقاد: الوحدانيةُ والعبادة. وهذان الركنان هما اللذان تقوم الدعوةُ إليهما من جانب الأنبياء والمرسلين. وقد أوضح -سبحانه وتعالى- معنى الدين أو الدعوة( إلى الوحدانية والعبادة) عندما قال: إنه أوصى بذلك سائر أنبيائه ورسله منذ نوح، وكان المطلوب وما يزال: إقامة الدين، وعدم التفرق. لماذا ينهى -سبحانه وتعالى- عن التفرقة والافتراق، وكيف يحصل ذلك أو يمكن أن يحصل؟ يحصل الافتراق- كما هو واضحٌ من تاريخ الدعوات- بالإخلال بشروط الوحدانية، أو الاختلال في شروط العبادة. فالمشركون قالوا عن الأوثان:{ ما نعبدهم إلاّ ليقربونا إلى الله زُلفى}، وهذا يعني أنّ العبادة أو القُرُبات إنما ذهبت لغير من يستحقُّها وهو الواحد الأحد.

      كيف ظهرت هذه الشبكة الضخمة من النظم التي عُدّت جميعاً في الأزمنة المتعددة جزءًا من الدين؟

      جاءت النظم والترتيبات من جهة البلاغ؛ فقد قال الله سبحانه وتعالى:{ولتكن منكم أُمةٌ يدْعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهَون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}. وقال صلواتُ الله وسلامُهُ عليه: (بلِّغوا عني ولو آية). ولذا فقد كثُر المتطوعون الذين أرادوا تعليم الناس دينهم، ونشْرَ الدعوة؛ استجابةً لأمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان المبلِّغون هؤلاء يُسمَّون في زمن النبي-صلى الله عليه وسلم-ومن بعده: القراء؛ لأنهم كانوا يركّزون على تعليم الناس القرآن، وتعليمهم فروض العبادة، وأخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كان خُلُقُه- كما قالت السيدة عائشة- القرآن.

      وقد واجه هذا البلاغ تحديين اثنين: تحدي تعدد الأساليب، وتعدد المعلِّمين، وتعدد المناهج. والتحدي الآخر: تحدي السلطات التي رأت أنها تملك أيضاً تكليفاً برعاية الدين بداخل دار الإسلام وخارجها. ومن الطبيعي أن ينحاز للسلطة بعض"حملة العلم" هؤلاء؛ لأنّ الدولة كانت تُعيِّنُ من بينهم القُضاة والقُصّاص وأهل الحسْبة وأئمة المساجد الجامعة. وكانت هناك فئة أُخرى من "حملة العلم" ترى رأياً في معارضة السلطات باسم الدين لاتباعها اتجاهات سياسية أُخرى. بينما أصرَّت فئةٌ ثالثةٌ على ممارسة الدعوة باستقلالية دونما تعرُّضٍ للشأن السياسي مع السلطات أو ضدَّها، فتوسعت لديها المذاهب الفقهية كل حسب اتجاهه وعقيدته، فتشاركوا فيها تمثيلاً متنوعا لكل أطياف المسلمين، فحفظت وحدتَهم وأبْقت الدين في حضن المجتمع كتاباً وسنةً، كما أثّرت التعددية الاجتهادية في الفروع وأبقت على التضامُن والمشتركات العامة للمسلمين والإسلام.

      لقد أمكن إذن -من طريق إبقاء الدين في حضن المجتمع- تجاوُز الكثير من عثرات الانقسام حول السلطات، وحول اختلاف العلماء. إنما كيف واجه البلاغ التحديين الثالث والرابع: التحدي الثالث هو تحدي الإيمان والعمل. والتحدي الرابع: التنظيمات الضخمة نتيجةً لاتّساع حضارة الإسلام، وصيرورتها حضارةً عالمية.

      في جانب التحدي الثالث: كان ذلك أمراً شديد الصعوبة؛ لأنه يتصل بالاعتقاد؛ فقد ذهب معظم المتكلمين والفقهاء إلى التلازم بين الإيمان والعمل، فقالوا: إنّ الإيمان اعتقادٌ بالجنان، وقولٌ باللسان، وعملٌ بالأركان؛ لكنهم اختلفوا في مدى الاختلال الذي يطرأ على الإيمان إذا طرأ اختلالٌ على العمل؛ أبو حنيفة وحده قال: إنّ الإيمان تصديق، ولا تأثير للعمل فيه أوعليه، أما كل الآخرين فتراوحت مذاهبهم بين التفسيق والتكفير،  ولم تجد المشكلة حلاً عبر العصور، وأحسب أنّ جزءًا من  مشكلة الغلوّ والتكفير اليوم سببها سوء استخدام هذا المفهوم،  ففي كل فترة تظهر جماعات تقول بالربط المحكم بين الإيمان والعمل، وتقاتل الناس على الدين دون حق؛ لأنّ دين الحق هو دين جماعة المسلمين.

      أما التحدي الرابع فيتمثل في ضخامة النظم، وضخامة مطالب التطبيق، فهذه التنظيمات والأعراف الأخلاقية والفقهية والإدارية، والتي ظهرت عبر العصور، اعتبرها كثيرون جزءًا من الدين، وهي في الحقيقة جزءٌ من التدين. وقد ثار عليها الإصلاحيون والأُصوليون بعدِّهم إياها تقاليد فاسدة أو متجمدة، لكنهم أحلُّوا محلَّها إستراتيجية التأصيل، وقد ترتبت على ذلك أنظمة هجينة، صارت تدعي العصمة والمناعة، وتخالف معنى الدعوة والبلاغ. إنه ليس هناك أفظع على الناس ودينهم من الاعتقاد كلَّ الوقت أنّ الشريعة(= الدين) غير مطبَّقة، وأنه لا بد من تطبيقها،  وهذه مُغالطةٌ كبرى؛ لكنها صارت اعتقاداً لدى فئاتٍ واسعةٍ من المسلمين، ولا بد من نقدها ودحضها ليسلم على الناس دينهم وجماعتهم وإسلامهم.

      لا بد من أجل استعادة السكينة في الدين من العودة إلى أصل الفكرة والدعوة والبلاغ. والدعوة دعوة إلى الوحدانية والعبادة. وتتسع العناية في البلاغ إلى استخلاف الإنسان لإعمار الكون. وقد انتشر البلاغ في العالم، وصار المسلمون جزءًا من مجتمع  العالم وحضاراته ونظامه. والمشكلات الحاصلة هي عبارةٌ عن خليط من موروثات التجربة، ومن متغيرات العالم الواردة. وقد انصبّ الاجتهاد في البلاغ في الأزمنة الحديثة أولاً على تجاوُز مواريث التجربة باتجاه التجديد والتلاؤم. لكن الصراعات الأخيرة ناتجة عن أمرين اثنين: جذريات التغيير العالمي، أو تغيُّر فقه الحياة وترتيبات العيش، والأمر الآخر: عدم قدرة الأجيال الشابة من المسلمين أو بعضها على التلاؤم. فلا بد من أجل " حفظ الدين على أُصوله المستقرة" من العودة إلى أصول البلاغ، بلاغ الدعوة الإبراهيمية.

 

أخبار ذات صلة