الفارابي وأصول الدين: تأملات في كتابه: « مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة»

Al-Farabi-.jpg

أولريش رودلف

أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة زيوريخ.

1 ـ مدخل:

لا مرية أن كتاب «مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة» يعدُّ أحد أشهر أعمال الفارابي، وقد نُشر النص ـ أول ما نُشر ـ عام 1895م، ثم أُعيد طبعه مرات عديدة، ونُقل إلى مختلف اللغات الأوروبية. وقد استَند عليه العديد من الدارسين بغاية توضيح آراء الفارابي في موضوعات مخصوصة، أو بغاية توفير نظرة إجمالية على فكره. وعلى الرغم من شهرته كأساس لأدبيات من الدرجة الثانية، فلا يستطيع المرء أن يقول: إن كتاب «المبادئ» قد فُهم الفهمَ الأليقَ به؛ وذلك لأنه تمت معالجة النص ـ في الغالب الأعم ـ على أساس أنه مصدر يتضمّن آراء. وهكذا، فإنك تَرى الواحد من الباحثين يعود إلى «المبادئ» لكي يبحث فيه عمّا قاله الفارابي بخصوص مسألة معينة، شأن آرائه في العالم ونظير أنظاره في السياسة. ولستَ تجد هذا النص يخيب آماله بالمرة؛ إذ بالفعل يتضمن النص ـ بأريحية ـ مقاطع واضحة ومركزة حول العديد من مثل هذه المسائل. لكن هذا الأمر يترك في الظل مسألة لماذا كتب الفارابي مثل هذا النص؛ أي لماذا تضمن هذا النص معالجة سهلة المأخذ لهذه الطائفة الواسعة من المسائل. ثمة اقتراحات تقدّم بها أصحابها حول هذه النقطة، غير أنها تفتقد إلى الكثير من المقدرة على الإقناع. وإنني سوف أكون منصفاً إذا ما قلت بأن الباحثين في كتاب «المبادئ» أقاموه مرجعاً يُرجع إليه، غير أنهم فشلوا في تفسيره بحسبانه عملاً فلسفياً بالدرجة الأُولى.

فيما يلي سوف أركز على النص عينه وبالخصوص سوف أعالج ثلاثة مناحٍ من هذا العمل: عنوانه وبنيته والعديد من المواضيع المنتقاة التي تحتل منزلة مرموقة في العمل مأخوذاً على وجه الجملة. وتكمن الدعوى التي أدعيها في هذه المقالة في الزعم بأن العناصر التأليفية المتنافسة ما أتت فيه على وجه الصدفة؛ وإنما الأمر بالضد من ذلك؛ ذلك أن الفارابي ألّف «المبادئ» بعناية خاصة ولغاية مقصودة، ولم يكتف بتخصيص وقت كبير لتأليفه، وإنما عاد إليه مرة أخرى بغاية تحريره. ومن هنا فإن تصنيف الكتاب وجمعه وترتيبه وتبويبه وكذا خصائصه الشكلية المميزة له كفيلان بأن يمدانا بإضاءات حول موضوعه وأن يسلطا الضوء على منزلته في فلسفة الفارابي.

2 ـ عنوان الكتاب:

خذ بنا ـ بدايةً ـ إلى عنوان الكتاب نستطلع أمره. من الملاحظ أن هذا العنوان هو العنوان الذي نادراً ما يُذكر بالكامل، وبدلاً من ذلك عادةً ما يُشار إلى الكتاب تحت مسمى «المدينة الفاضلة» أو «المدينة الفاضلة للفارابي». والحال أن اختزال الاسم شجّع ـ لا محالة ـ على الاستعمال المعتاد للتسمية في سياق موضوعاتي خاص [الفلسفة السياسية]؛ وذلك لأنه يوحي بأن العمل منذور ـ بالأَولى والأَحرى ـ إلى السياسة موقوفٌ عليها. وبالمقابل، يبدو أن هذا الأمر يؤكد أُطروحةً لطالما تمَّ الدفع بها إلى الواجهة في العقود الأخيرة، ومفادها: أن للفارابي اهتماماً خاصاً بالمسائل السياسية، بل لربما حتى كان هو «مؤسس الفلسفة السياسية في الإسلام». ولسوف نفصل القول في هذه الدعوى لاحقاً، لكن دعنا الآن نركّز على العنوان نفسه، ولنلق نظرة مقرّبة على ما يثوي أصلاً خلف فكرة أن العمل في مجمله منذور في النهاية للسياسة. الحق أن الفارابي بالفعل لا يشير إلى أنه يرغب في وصف مدينة نموذجية أو مثالية هي المدينة الفاضلة. لا ولا هو يقترح الحديث عن أهل هذه المدينة الفاضلة بالأولى؛ وإنما بالأحرى كان انشغاله منصبّاً على وصف ما الذي يعتقده أو ما الذي ينبغي أن يعتقده أهل هذه المدينة الفاضلة في شأن جملة من المواضيع سوف تتم مناقشتها في «المبادئ».

ولتبليغ ذلك، يستعمل الفارابي تعبيرين؛ واحد هو «رأي» [جمعه: آراء]. ويشير هذا اللفظ إلى مستوى من الفهم يتنزل منزلة أدنى من مطلب المعرفة الحقة. ذلك أنه عادة ما يستعمل الفارابي لفظ «رأي» للإشارة إلى مجرد رأي أو إلى رأي بسيط (وهو يقابل لفظ «دوكسا» Doxa الإغريقي ولفظ «أوپينيو» Opinio اللاتيني). وحدُّ الرأي أنه: «ما يعتقد به شخص في أمرٍ ما على أنه هو كيت، وليس كيتاً»، وذلك من غير ما يكون هو أهلاً لتوفير الأُسس الكافية لهذه القناعة. ومن ثمة كانت للرأي قيمة إبستمولوجية [معرفية] محدودة. فمن شأن من يملك مجرد رأي ألا يكون له استيعاب فلسفي لموضوع ما يعتقده؛ لأن ما يعتقده لا يستوفي الشروط المذكورة في كتاب «التحليلات الثانية» [أرسطو]. وهو في وضع يلزم منطقياً أهل القياس الخطابي والجدلي. ويقرن الفارابي ـ على وجه الخصوص ـ هذين المبحثين، اللذين يقعان دون منزلة البرهان الفلسفي، بالدين وبعلم الكلام. ومن ثمة، فإنه من المفاجئ أن يُعمل الفارابي كلمة «آراء» في عنوان عمله: «مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة». وقد أدى هذا الأمر إلى جدل جدير بأن يؤدي إلى الحط من قيمة كتاب «المبادئ» [ما دام يُفترض أنه يتضمن مجرد «آراء»]. ولهذا السبب، فإن العديد من الشرّاح أنكروا أن يكون العمل يعبر عن قناعات الفارابي الفلسفية الحقة. وبالبدل من ذلك ـ حسب هذا التصور ـ فمن المرجح أن العمل يكمن في عرض آراء إقناعية مقبولة وقابلة للدفاع عنها، يُفترض أنها تدعم غرضاً سياسياً، وأنها سوف تكون في متناول قدرات أفهام قطاع واسع من القراء.

ومرةً أخرى يتوافق هذا التأويل مع الفكرة القائلة بأن الفارابي مفكر سياسي بالأولى وبلا مدافعة، ومرة أخرى أيضاً، فإن هذا التأويل لا يدعمه العنوان؛ فالفارابي لا يتحدّث فقط عن «آراء» في تحديده لما يتحدث عنه النص، وإنما يتحدث أيضاً عن «مبادئ». ومن ثمة يفترض في القارئ أن يفهم بأن العمل سوف يكون عملاً يتضمن ليس فقط الآراء المقبولة أو القناعات الأولية؛ وإنما بالأولى العبارات التي تتناسب مع معايير القول الفلسفي ومقتضياته وشرائطه.

ليس هناك أي موضع يستعمل فيه الفارابي كلمة «مبادئ» (جمع مبدأ) للإحالة إلى اعتقادات مؤقتة أو مشروطة؛ وإنما يحيل اللفظ دائماً بالأولى على مبادئ مطلقة لا تحتاج إلى تسويغ أو تبرير إضافيين. وتبعاً للتقليد الفلسفي، يستعمل اللفظ في سياقين اثنين: في سياق علم الوجود للدلالة على مبادئ الموجودات، وفي سياق نظرية المعرفة الحديثة للدلالة على مبادئ المعرفة. ونحن نعثر على مناقشة لمبادئ الوجود لا سيما في كتابه «السياسة المدنية». وللصنف الثاني من المبادئ صلة بكتاب البرهان حيث يتناول الفارابي التحليلات الثانية. والحال أن هذا الضرب من «المبادئ» المعرفية هو الذي له صلة بما يهمنا في هذا المقام: فللمبادئ هنا علاقة بمبادئ المعرفة أو بالفكر. وواقعة كون هذه الكلمة هي أول كلمة وردت في العنوان تعدُّ بمثابة مفتاح فهم العنوان مأخوذاً في جملته. فتحديد الفارابي لعمله بوصفه «مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة» يبدو من باب الإطناب عند أول النظر (مبادئ آراء...)، لكن في الواقع الكلمتان معاً ـ «مبادئ» و«آراء» ـ مهمتان. من جهة أولى، بإعماله لفظ «آراء» يشير الفارابي إلى أن العمل يستهدف جمهوراً واسعاً، وأن له صلة بموضوعات ذات أهمية عامة، ويعني أعضاء جماعة [أهل] يمتلكون «اعتقاداتهم» الخاصة. ومن جهة أخرى، توضح لفظة «مبادئ» أن الفارابي لم يخرج عن إطار الخطاب الفلسفي. فهو لا ينزع إلى التعامل مع هذه الموضوعات من مجرد مستوى بادئ الرأي؛ أي عن مستوى القناعة الخطابية أو الجدلية، وإنما بالبدل من ذلك، كانت بغيته توفير «مبادئ» فلسفية لكل المسائل التي تتبدى في عمله، بحيث إن على «آراء» أهل المدينة الفاضلة أن تملك معياراً راسخاً وأساساً مكيناً في المعرفة العلمية.

3 ـ بنية الكتاب:

تتبدى عن هذا الفهم للعنوان مسألة: أيّ الموضوعات هي التي سوف تُتَعهد بالتناول الفلسفي الموعود؟ وهو ما يقودنا إلى نقطتنا الثانية: اعتبار مجموعة من الموضوعات التي لها تعالق في «المبادئ»، وكيف يمكن التعرف على هذه الموضوعات. البادي أن الفارابي نفسه نذر وقتاً وفكراً كبيرين لإرساء بنية العمل. وهذا ما يوحي به ـ على الأقل ـ واقعُ كون تأليف النص يبدو أنه استقام ليس على أقل من ثلاث مراحل. وتبعاً لمصادرنا فإن الفارابي أنتج ـ أول ما أنتج ـ نصّاً موصولاً، ثم بعد ذلك قسمه إلى تسعة عشر باباً. ولقد عاد ـ بعد ذلك بمدة ـ إلى النص، ووضع آنذاك قسمة أخرى للنص قسّمه بمقتضاها إلى ستة فصول إضافية.

وإذا ما نحن أخذنا هادياً لنا هذا التحرير النهائي للكتاب، فإننا نجد أنفسنا أمام بنية «المبادئ» التالية:

I ـ    الموجود الأول (الفصلان 1 ـ 2).

II ـ   مراتب الموجودات (عالم ما فوق فلك القمر) (الفصل 3).

III ـ  عالم ما تحت فلك القمر (الفصول 4 ـ 9).

IV ـ  النفس البشرية (الفصول 10 ـ 15).

V ـ   المدينة الفاضلة (الفصول 15 ـ 17).

VI ـ  آراء مضادات المدينة الفاضلة (الفصلان 18 ـ 19).

لكن علينا أن نتذكر هاهنا أن التقسيم إلى ستة فصول يمدنا فقط بانطباع عام عن العمل معتبراً في جملته. والموضوعات الحقة للنصِّ تنبع فقط من قراءة مفصلة له. ومن شأن قراءة كهذه أن تبدي أنه بينما فصلان (الفصل 1 و 2) لهما صلة بموضوع واحد موصول؛ فإن باقي الفصول (الفصل 4 و 5) لهما صلة بطائفة متنوعة من الموضوعات. وهاهنا نعرض إطلالة مفصلة تبرز هذا التنوع:

بنية «المبادئ»:

I ـ الموجود الأول

صفاته؛ نعني الكمال والوحدانية والعلم (الفصل 1).

كونه علة كل شيء، بما في ذلك عدله (الفصل 2).

II ـ III ـ العالم

صدور عالم ما فوق فلك القمر (الفصل 3).

عالم ما تحت فلك القمر، طبيعته الحدوثية وتكونه من المادة والصورة (الفصلان 4 ـ 5).

بنية عالم ما فوق فلك القمر (الفصلان 6 ـ 7).

تأثير عالم ما فوق فلك القمر على عالم ما تحت فلك القمر وصدور الأسطقسات والنباتات والحيوانات والبشر (الفصل 8).

الكون والفساد في عالم ما تحت فلك القمر (الفصل 9).

IV ـ البشر

النفس ومنزلتها وقواها (الغاذية والمدركة والمتخيلة والناطقة والنزوعية): تعاون الملكات للحصول على العلم (الفصل 10).

الجسد وأعضاؤه؛ التوالد (الفصل 11).

القوة الناطقة: الموضوعات المعقولة والعقول؛ الإرادة والاختيار بوصفهما سببين محركين للفكر؛ السعادة بحسبانها الغاية القصوى للنفس الناطقة (الفصل 13).

الخيال: صفاته وطبيعته؛ النبوة (الفصل 14).

V ـ المدينة الفاضلة

ضرورتها، بنيتها، مؤسسها (الرئيس الأول: الفيلسوف ـ النبي)، الرئيس الثاني، واختلافاتها عن مضاداتها المدن الجاهلة والضالة (الفصل 15).

الثواب والعقاب في الحياة الآخرة: السعادة الأبدية بوصفها غاية وعاقبة أهل المدينة الفاضلة، والعقاب الأبدي أو التدمير بحسبانه عاقبة أهل مضادات المدينة الفاضلة.

الفلسفة والدين: وجودهما عند أهل المدينة الفاضلة؛ الحقيقة الفلسفية ومثالاتها الدينية (الفصل 17).

VI ـ آراء أهل المدن الجاهلة

مختلف أنواع الضلالات (الفصلان 18 ـ 19).

ومن ثمة فإن النص يتناول طائفة واسعة من الموضوعات، بحيث ننتقل بالترتيب من الموجود الأول [العلة الأولى] إلى العالم، فالبشرية، فقوى النفس البشرية المتنوعة ثم النبوءة والجماعة، نزولاً إلى آخر الأشياء؛ أي إلى الحساب الذي ينتظر الإنسان في الحياة الآخرة. والحال أن هذا الغنى في الموضوعات المتناولة يبعث على العجب ويثير الاستغراب؛ ذلك أنه يطرح مسألة أي نوع من التأليف هو «المبادئ»، وفيم يبحث الفارابي بالذات؟ وما هي الغايات المعرفية التي كانت تدور بخلده ويتغياها؟ وما هي البواعث أو النماذج التي حركته إلى أن يختار بالضبط هذا الضرب من المواضيع؟

الذي عندي أن هذه التساؤلات لم تلق لحد الآن أجوبة مقنعة؛ وذلك لأنه لم يتم أبداً تحليل بنية «المبادئ» ومنزلتها في التراث الفلسفي، فنحن لا نعثر على أي عملٍ آخر في التراث يمكن أن نقارن به نصّنا هذا. وهذا الأمر لا ينطبق على أعمال كتبت باللسان العربي فحسب ـ قبل وأثناء زمن حياة الفارابي ـ وإنما ينسحب أيضاً على التراث الإغريقي الكلاسيكي والقديم المتأخر. لا ولا الأمر مفاجئ إذا ما نحن فشلنا في العثور على أشباه لهذا النص ونظائر، وذلك لأن بنية «المبادئ» وتصور موضوعاتها على الجملة تفشل في استيفاء المعايير والأنماط والأنواع المكرسة في الكتابة الفلسفية. فلا يعالج الفارابي هنا موضوعاً خاصاً، ولا فرعاً من فروع الفلسفة أو مبحثاً من مباحثها، لا ولا هو يراعي التمييز الشائع بين الفلسفة النظرية والفلسفة العملية. وبالبدل، أنت تجده يمزج بين طائفة من المسائل منتزعة مما وراء الطبيعة ومن الطبيعة ومن السياسة ومن الأخلاق، وذلك كله من غير إيلاء عناية ـ أيّاً كانت ومن أي قبيل ـ إلى مجالات أخرى شأن المنطقيات أو الرياضيات التي لم يشر إليها أبداً.

لربما علينا إذن أن ننظر في نماذج خارج حدود الأدبيات الفلسفية الضيقة. وقد تمَّ تقديم اقتراح مثمر من لدن ريتشارد فرانك، وإن كان لم يفصّل القول فيه تفصيلاً: علينا أن نبحث بدل ذلك كله في التقليد الكلامي، أو لنكن أكثر دقة، علينا أن نبحث في المبحث المسمى أصول الدين؛ فلهذا المبحث قواعده الخاصة ومواضعاته المخصوصة، وهي تتضمّن طائفة معينة من الموضوعات هي: الله وصفاته، البشر وأفعالهم، الإمامة، ومصير الإنسان في الحياة الآخرة. وهي الموضوعات الحقَّة، وفق تعابير أخرى، التي أبرزها الفارابي في مبادئه.

علينا إذن أن نتوسم أنه يوجد بعض التعالق بين بنية «المبادئ» وتركيبة الموضوعات المعالجة في أصول الدين. وهذا لا يعني أن بمكنتنا أن نعيِّن كتاباً أصولياً بعينه يعد بمثابة أنموذج قُدَّ عليه كتاب الفارابي؛ ذلك أن معرفتنا بسياقه الفكري أدنى من أن تفي بهذا الغرض. وما نعرفه هو أن الفارابي كان على دراية حسنة بعلم كلام زمانه، أو على الأقل بالتصورات التي كان يشهدها علم الكلام ببغداد في أيامه. كما أننا نؤكد ونتحمل مسؤولية ذلك أنه كان على دراية جيدة بأعمال المعتزلة. لكن، لأنه لا عمل بقي من هذه الأعمال، فإنه يستحيل القول بكل تأكيد: ما الذي كان بإمكانه أن يكون قد اطلع عليه من هذه الأعمال.

فإذن؛ لئن كان علينا أن نحصل على أساس للمقارنة؛ فإن علينا أن نستند إلى تلك النصوص المعاصرة لفترة الفارابي التي نعرفها والتي يمكنها أن تزودنا على الأقل بانطباع عام على أصول الدين المعاصرة. دعنا نبدأ هذه الجولة القصيرة بعمل لأبي الحسن الأشعري (ت. 324 هـ/935 م). لقد كان الرجل معاصراً للفارابي، وكان ـ شأنه في ذلك شأن الفارابي ـ يشتغل بالعراق. وبطبيعة الحال، لا يتضمن هذا الأمر القول بأي تآثر بين الرجلين؛ إذ في الواقع ـ بقدر ما نعلم ذلك ـ فإن الرجلين لم يكونا على أية معرفة بعضهما ببعض. وللأسف، فقد فُقدت أعمال الأشعري المهمة؛ لكن ـ ولحسن الحظ ـ وصلنا بقلمه كتاب: «اللمع في الردّ على أهل الزيغ والبدع» الذي سلط الضوء على بعض سمات الخطاب الكلامي في تلك الفترة. وشأنها في ذلك شأن النظرة التي كنا قد ألقيناها على كتاب «المبادئ»، فإن النظرة الموجزة التالية على بنية كتاب اللمع ومحتوياته ونظام حججه كفيلة بتعريفنا على هذا العلم:

I ـ الله

وجوده: دليل أساس حدوث الأشياء في العالم (الفصول 3 ـ 6)

صفاته.

عدم شبهه المخلوقات، وحدانيته، إنكار جسميته، الاستطاعة (الفصول 7 ـ 9)، استطراد حول قيمة وصلاحية النظر العقلي (الفصلان 10 ـ 11).

العلم والإرادة (الفصول 27 ـ 48).

شمول إرادته كل شيء (الفصول 49 ـ 67).

رؤية الله يوم القيامة (الفصول 68 ـ 81).

II ـ الله وأفعال البشر

القدر وخلق الأفعال المكتسبة من لدن البشر (الفصول 82 ـ 121).

استطاعة البشر الفعل (الفصول 122 ـ 164).

عدل الله (الفصول 165 ـ 179).

III ـ الإيمان والمعصية (الفصول 180 ـ 185).

IV ـ الوعد والوعيد (الفصول 186 ـ 192).

V ـ الإمامة (الفصول 193 ـ 200).

وثمة كتاب ثان سوف يكون مفيداً لما نحن بشأنه، وهو كتاب «التوحيد» لأبي منصور الماتريدي (ت: 333 هـ/944م). وهذا الكتاب كتب أيضاً أيام الفارابي، وذلك على الرغم من أنه كتب ببلدٍ بعيدٍ عن بغداد، لأن الماتريدي لم يكن يحيا ببغداد وإنما بسمرقند. وقد حفظ كتاب «التوحيد»، لكن فقط في مخطوط واحد. ومن ثمة، لا يمكن أن نكون متأكدين من أن الشكل الذي وصلنا عليه يمثل النسخة الأصلية في كل تفاصيلها (مثلاً، يغيب فيه فصل خاص بالإمامة).

ويجدر بنا هاهنا أيضاً أن نصف بنية العمل:

بنية كتاب التوحيد

I ـ باب العلم (ص 3 ـ 21).

II ـ العالم: بنيته وخلقه (ص 25 ـ 33).

III ـ الله.

أدلة وجوده (ص 34 ـ 36).

صفاته بما في ذلك رؤية الله يوم القيامة (ص 37 ـ 134).

نقد الأنظار المخالفة (ص 135 ـ 168).

IV ـ النبوة (ص 271 ـ 340).

V ـ الله وأفعال البشر.

أفعال الله (ص 343 ـ 351).

أفعال الخلق (351 ـ 457).

شمول فعل الله لكل شيء (ص 458 ـ 514).

VI ـ الذنب والعقاب في اليوم الآخر (ص 517 ـ 598).

VII ـ الإيمان (ص 601 ـ 642).

والمثال الثالث نستقيه من أبي المعالي الجويني (ت 458هـ/1085م). وقد كتب الرجل ما كتبه في أواسط القرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي. لكنه ـ مع ذلك ـ سوف يخدم هذا المثال ما نحن بشأن التدليل عليه، لأنه كان لا يزال يقتفي أثر التقليد الكلامي القديم المسمى على العادة باسم «طريقة القدماء». والحال أنه على الأقل هذا هو حال الكتاب الذي سوف يعنينا هنا، وهو كتاب «الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد»:

بنية كتاب الإرشاد

I ـ أحكام النظر وحقيقة العلم (3 ـ 16).

II ـ حدث العالم: بنيته وخلقه (ص 17 ـ 27).

III ـ الله.

أدلة وجوده (ص 28 ـ 29).

صفاته (ص 30 ـ 164).

جواز الرؤية على الله تعالى (ص 166 ـ 186).

IV ـ الله وأفعال البشر.

خلق الأعمال (ص 187 ـ 214).

الاستطاعة (ص 215 ـ 256).

فعل الله لما هو عدل (ص 257 ـ 301).

V ـ
النبوات. ويتضمن طائفة من المواضيع مستملاة من السمعيات، مثل الأجل والرزق (ص. 302 ـ 370).

VI ـ الحياة الآخرة.

حقيقة وجودها (ص 371 ـ 380).

الثواب والعقاب (ص 381 ـ 395).

VII ـ الإيمان والتوبة (ص 396 ـ 409).

VIII ـ الإمامة (ص 410 ـ 434).

4 ـ حجة كتاب الملة

كما تُظهر هذه الإطلالة الموجزة؛ فإن ثمة تشابهات عميقة بين هذه الأعمال. وهذا ينطبق ـ بطبيعة الحال ـ على كتب الكلام، إلا أنه ينطبق ـ مع بعض التحويرات ـ على كتاب «المبادئ». ها هنا أيضاً نعثر على مناقشة لكل المواضيع الرئيسة المعتبرة في أصول الدين. وهذه المواضيع ـ ونحن نعيد ذكرها ها هنا مرة أخرى ـ هي الله والعالم والبشر والمعرفة والفعل البشريين والنبوة والجماعة ومصير الإنسان في الحياة الآخرة. ويبدو أن القول بأن هذه التشابهات مجرد اتفاق في الآراء أمر عسير التصديق. وإنما ـ وعلى الضد ـ يوحي بأنه لما كان الفارابي قد تصوّر عمله قبل وضعه؛ فإنه قد قَدَّه ونضده وأنشأ بنيته على مثال كتب أصول الدين. وما كانت هذه الحجة بالحجة الوحيدة المعزولة المنفردة، وإنما ثمة حجة قوية من موضع آخر في كتابات الفارابي تشجعنا على أن نرى ترابطاً وثيقاً وتعالقاً شديداً بين «المبادئ» وكتابات أصول الدين، وهذه الحجة يقدمها لنا الفارابي نفسه؛ وذلك لما تناول ليس فقط موضوعات مألوفة في السياقات الكلامية؛ وإنما أيضاً فكّر تفكيراً بيّناً صريحاً في الصلة بين الأعمال الفلسفية والأعمال الكلامية.

وما حدث هذا الأمر في كتاب «المبادئ»؛ وإنما حدث في كتاب «الملة». وهنا يفسر الفارابي تفسيراً موسعاً ما الذي يسم ملة فاضلة، وما الدور الذي تلعبه هذه الملة في المدينة. والحال أن هذا التفسير يرتهن إلى مناقشته التمهيدية ـ في افتتاحية العمل ـ لمفهوم «الملة». وهذا القسم التمهيدي يوفر لنا عدداً من الملاحظات تكتسي بالنسبة إلينا أهمية خاصة في هذا المقام. وتبدأ التمهيدات بالعبارة التالية: «الملة هي آراء وأفعال مقدّرة مقيَّدة بشرائط يرسمها للجمع رئيسهم الأول». ويعود إلى هذا الفكرة ـ فيما بعد ـ عندما يقيم التمييز التالي: «والآراء التي في الملة الفاضلة منها آراء في أشياء نظرية وآراء في أشياء إرادية». وفيما يتلو يفسر هذا الأمر تفسيراً أكثر عيانية، مشيراً إلى جملة من المسائل التي تجد أجوبتها داخل الملة، واللائحة أطول ـ شيئاً ما ـ لكنها تبرز تلخيص الموضوعات التي تتبدى عنها. وكما أشرنا إلى ذلك ـ من قبل ـ فإن اللائحة تنقسم إلى قسمين: آراء ذات طبيعة نظرية، وأخرى ذات صلة بالمسائل العملية.

وينتمي إلى الآراء النظرية:

I ـ وصف الله.

وصف الموجودات الروحانية، بما يتضمّن الحديث عن أفعالها.

II ـ III ـ خلق العالم وبنيته.

خلق مختلف الأجرام المادية.

نظام الأشياء والعناية بها.

صلة الأشياء المادية بالله وبباقي الموجودات الروحانية.

IV ـ خلق بني الإنسان.

روح بني البشر وقدرتهم على الفكر.

النبوة والوحي.

السعادة بوصفها ثواباً في الحياة الآخرة، والشقاوة بوصفها عقاباً في الحياة الأخرى.

هذا بينما الآراء العملية لها صلة بِـ:

V ـ الأنبياء والملوك والرؤساء، الماضي والحاضر، السلف والخلف.

مرويات عن أعمالهم وسيرهم الصالحة.

VI ـ الرؤساء الفجار وأهل الضلال، الماضي والحاضر.

مرويات عن أفعالهم الضالة.

مصيرهم في الحياة الآخرة، ومصير أهل المدن الذين اتبعوهم.

تبدو هذه اللائحة من الموضوعات وكأنها جدول مضامين «المبادئ»، وهذا يؤكد ما أوحت به من قبل مقارنتنا لها مع الأعمال الكلامية: إن شكل وتصور «المبادئ» قد حددتهما أجندة المناقشات الكلامية على ذلك العهد. وبطبيعة الحال، فإن هذا لا يعني أن «المبادئ» هي ـ في حد ذاتها ـ مؤلف كلامي. إن حقيقة كون الفارابي قد تعامل مع أهم مسائل الدين ليست تتضمّن القول بأنه تبنى مناهج علماء الكلام وانشغالاتهم. وهذا الأمر يمسي أوضح وضوحاً مباشراً بقدر ما نقرأ قراءة متقدمة في القسم المفتوح المتعلّق بالدين في كتاب الملة.

ذلك أنه قيل بإن الآراء التي تنتمي إلى الملة يمكن أن تحدد على ضربين: إما عن طريق عبارات تتطابق مع الواقع وتحيل إلى الأشياء ذاتها، وإما عن طريق عبارات تعدُّ مثالات وأشباهاً ونظائر لهذه العبارات الأولى. وفي الحالة الأولى تكون للعبارات صلة بالحق مباشرة. وفي الحالة الثانية تكون لها صلة فحسب بمثال الحق. لكن الضربين من العبارة مطلوبان لتجنب أن تسقط الملة في الضلالة. ومن ثمة، فإن على الملة الفاضلة أن تقدّم لنا دوماً مدخلاً إلى الحق وإلى مثال الحق معاً. ولا يمكننا الحديث عن الحق اللهم إلا حين نعلم شيئاً معيناً علم اليقين، وذلك سواء على أساس معرفة أولية أو عن طريق البرهان.

وينتقل الفارابي من هذا إلى القول بإن الملة الفاضلة تحاكي الفلسفة؛ وذلك لأنهما معاً يتضمنان جزءًا نظرياً وجزءاً عملياً، والفارق بينهما يكمن فقط في الطريقة التي بوفقها يعبّران عن المسائل التي تظهر في الجزأين معاً. تتضمّن الفلسفة ـ سواء في المسائل النظرية أو في المسائل العملية ـ براهين وكليات، هذا بينما الملة لا يمكنها أن تقدم براهين، ولا يمكن أن توفر كليات إلا على نحو محدود. ومن ثمة تكون الملة في الجزأين معاً تابعةً للفلسفة.

5 ـ الموضوعات الكلامية في «المبادئ»

يمكن أن تنتهي حجتي هنا فتقف عند هذا الحد لا تتعداه؛ ذلك أنه بعرضنا لهذه المادة المستقاة من كتاب «الملة» اتضح ما الذي تصورناه في ذهننا عن هذا العمل في «مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة»: مهمته تناول أجندة علم الكلام والتعامل مع موضوعاته التي يهتم بها علماء الكلام والمؤمنون. لكن، علينا ألا نقوم بذلك فحسب من وجهة النظر الكلامية المحدودة؛ وإنما على أساس الكليات والمبادئ التي تكتشف في الفلسفة. وبدهيّ أن هذا الأمر يضع «المبادئ» على ضوء جديد ومعتبر بالنسبة إلى موضوع العمل ومنطقه الداخلي. الآن يظهر النص لا باعتباره عملاً شعبياً تبسيطياً، لربما مع تنازلات قدمت لجمهوره الواسع؛ وإنما بحسبانه عملاً أُلِّف بعناية شديدة تهدف إلى تناول طائفة واسعة من المسائل التي نبعت من أصول الدين، لكن على أساس اعتبار للمبادئ الأولى ومن وجهة اعتبار نظرية.

ولئن كان ذلك كذلك؛ فإن المسألة التي تتبدى الآن هي معرفة ما إذا كانت التوازيات بين «المبادئ» والنصوص الكلامية التي تمت مناقشتها من ذي قبل محصورة فحسب في مسائل البنية؛ ذلك أنه ولئن كان الفارابي قد قصد حقيقةً الانخراط في نقاش مع علم أصول الفِقه؛ فإنه كان عليه آنها أن يكون قد تأثر لا فحسب بالمسائل التي أثارها علماء الكلام؛ وإنما أيضاً بالحلول التي قدّموها إلى هذه المسائل. والحق أنه لا يمكن الجواب عن هذه المسألة بكل تفصيل داخل إطار الورقة الحالية، إنما في إطار بحثٍ آخر خاص وموسع في هذا الأمر. لكن في السياق الحاضر ينبغي لنا أن نوفر بعض الإشارات التي يمكن أن تساعد على مثل هذا البحث. ثمة في الواقع مقاطع عديدة في «المبادئ» توحي بأن الفارابي كان بالفعل معنياً عنايةً مباشرةً بالأنظار الكلامية، وسوف أقدم هنا مثالين مختصرين، يُفهم كل واحد منهما على أنه انخراط في المواقف التي يتبناها علماء الكلام.

نجد المثال الأول في مقدّمة العمل، في سياق مناقشة الموجود الأول. من الأكيد أن هذا النقاش مدين بعمق إلى التراث الفلسفي، فالكثير مما قيل فيه يمكن أن يربط بقوة بالمصادر الأفلاطونية المحدثة أو بالأرسطية. وهو الأمر الحاصل مثلاً في الادعاءات القائلة بأن الموجود الأول كامل وأبدي لا يمسّه تبدل («المبادئ» 1 ـ 1 ـ 1)، وكذلك في توصيف الموجود الأول بأنه عقل («المبادئ» 1 ـ 1 ـ 6 و 1 ـ 1 ـ 14) ومعشوق أول (1 ـ 1 ـ 15). لكن على مدى هذا الحجاج الطويل يتقدّم الفارابي بأفكار يصعب ربطها بالتقاليد الفلسفية، ويبدو أنها آنس ما تكون بسياق علم الكلام. ولا يتعلّق الأمر فحسب بمناقشة الصفات الفردية للموجود الأول (مثلاً: العلم والحكمة والحقيقة والحياة (1 ـ 1 ـ 7/13))، وإنما يتعلّق أيضاً بمقطع يشدد فيه الفارابي على أن الموجود الأول دائماً عَدْلٌ في صدور الأشياء عنه وفي فرضه النظام عليها (1 ـ 2 ـ 2). فالأمر الأول يذكرنا بالنقاشات حول الصفات الإلهية التي خاضها علماء الكلام بحماسة كبرى، والثاني يذكرنا بمسألة ما إذا كان ينبغي أن نسمي الله «عادلاً» وبأي معنى (التعديل والتجوير).

ويظهر المثال الثاني بدوره هذه التشابهات الحاصلة مع علم الكلام، وذلك في أثناء مناقشة الفارابي لأهل المدينة في الفصول الأخيرة من كتاب «المبادئ». ويبدأ بوصف عميق للمدينة الفاضلة (V. 15.1 ـ 14)، وينتقل إلى مناقشة الضلالات التي تتبع في مختلف المدن الجاهلة والضالة (VI. 18.1 ـ 19.9). ومرة أخرى، كل هذه المناقشة ينبغي أن تنظر في اصطلاحاتها إلى الميراث الفلسفي للفارابي؛ نقصد الأفكار الموروثة عن التقليد الأفلاطوني والتي تعود إلى كتاب «الجمهورية». غير أن الفارابي لا يكتفي فحسب باجترار آراء أفلاطون في الدولة. وبالبدل من ذلك، يدخل منظوراً جديداً غير متوقع، وذلك بتوليفه بين معالجة مختلف المدن وبين مسألة الحياة الآخرة. ونفيد منه أن أولئك الذين يحيون في المدينة الفاضلة فقط تحصل لهم السعادة، بينما أهل المدن غير الفاضلة عليهم أن يتوقّعوا انقطاع وجودهم بالتمام، أو تلقّي مختلف صنوف العذاب (V. 16). ومرة أخرى، لا يبدو مثمراً أن نحاول تفسير هذا الأمر على ضوء قاعدة التقليد الفلسفي، لكن هذا بالذات ما علينا أن نأخذه بعين النظر أكثر فأكثر بالرجوع إلى السياق الكلامي. فبالنسبة إلى عالم كلام، يبدو من البدهي النظر إلى مختلف المدن في ضوء مسألة الخلود، مثلما يبدو من البديهي بالنسبة إلى عالم كلام أن يقصر الخلاص على جماعة واحدة (جماعته هو بالذات)، التي وحدها تملك الحق، بينما يسلط العذاب خارجها على أولئك الذين ارتكبوا مختلف الضلالات وألوان الهرطقات أو الخروج عن الملة. وهذا بالذات هو الموقف الذي تبناه الفارابي. وفق هذا المنظور للمرء أن يتحدث عن نقل مباشر قام به الفارابي للعبارات الكلامية وعن تبنّيه إياها لحسابه الخاص. على أنه لا سبيل هنا إلى إنكار أن المعيار الذي على ضوئه يقايس الفارابي بين المدن يبقى في النهاية معياراً فلسفياً؛ إذ يصنف مختلف المدن لا كما يفعل عالم الكلام بحسب محافظتهم على «استقامة» آرائهم ومعتقداتهم أو «ضلالها»، وإنما بالأولى بقدر ما يحققون المعرفة وتكون حياتهم متناسبة مع المعايير الأخلاقية.

6 ـ خاتمة

يمكن تمديد لائحة الأمثلة الاستشهادية هنا بكل يسر وسهولة، ذلك أن كتاب «المبادئ» يتضمّن مقاطع عدة ترتبط، على نحو مباشر أو غير مباشر، بمواقف تم اتخاذها ضمن علم الكلام الإسلامي. لكن، تقدّم بنا القول الكافي للدفاع عن دعوانا، والتي لم تكن تحليل مقاطع خاصة من كتاب «المبادئ» أو التعليق عليها، وإنما فهمه في جملته وتحديد سياقه المناسب. وهذا السياق ـ كما رأينا ـ توفّره لنا أعمال في أصول الدين. وأنا أؤكد هنا من جديد على أن دعواي ليست هي أن كتاب «المبادئ» كتاب في علم الكلام، وإنما ثمرة نقاشنا هي أن الفارابي ألف عمله كمؤلف فلسفي، لكن مصيره كان أن سعى إلى التعامل تعاملاً شمولياً مع موضوعات وتحديات مستمدة من المنظومة الكلامية.

لقد عَنَّت لنا هذه الخاتمة بدءًا من جوانب متعددة «للمبادئ»، وبدءًا من استحضار شهادة كتاب «الملة»، تماماً مثلما بدءًا من مقارنة ذلك العمل بالعديد من الأعمال التي ألفها علماء الكلام؛ وذلك على مستوى البنية وعلى مستوى المحتوى سواء بسواء. وعلينا أن ندلي بتأكيد ختامي يخص قصد الفارابي في هذا العمل، وذلك بالنظر إلى طول عنوان العمل وطابعه غير المعتاد. هب أننا نقلنا اصطلاحات هذا العنوان إلى تعابير لغة علم الكلام الإسلامي، آنها سوف يقابل تعبير «أهل المدينة الفاضلة» الأُمة، في الوقت الذي سوف يقابل فيه تعبير «آراء أهل المدينة الفاضلة» الملة. ولئن صح هذا الأمر؛ فإن مبادئ آراء أهل المدينة الفاضلة لن تكون شيئاً آخر عدا نسخة من مبادئ الدين (أصول الدين).

أخبار ذات صلة