وليد صالح | أستاذ الدراسات الإسلامية بجامعة تورونتو ـ كندا.
حين قُتل الأب في خلاف قرويّ، قررت الأُم المفجوعة الهرب بأولادها إلى مدينة دمشق التي تقع على الناحية الأخرى من الجبال المحيطة بقرية خربة روحا البقاعية في سهل البقاع في لبنان اليوم. هذه المأساة كانت بداية رحلة حياة علمية أخذت هذا الطفل إبراهيم بن عمر ـ والذي سيعرف لاحقاً بالبقاعي نسبة إلى سهل البقاع ـ إلى مدارس دمشق والقدس الشريف والقاهرة. ولم يمض وقت طويل حتى أصبح البقاعي شخصية معروفة في الأوساط الدينية ولدى المماليك. هذا العالم القلق سوف يثير أزمات فكرية ودينية في كلّ من القاهرة ودمشق ليقضي بقية أيامه وحيداً منقطعاً عن زملائه العلماء. برهان الدين البقاعي مع صاحبيه السخاوي (ت: 902هـ/1492م) والسيوطي (ت: 911هـ/1505م) شكّلوا أهم علماء نهاية القرن التاسع الهجري في القاهرة التي كانت وقتها مركز العالم الإسلامي العلمي. وكلهم تتلمذوا على يدي ابن حجر العسقلاني (ت: 852هـ/1449م) وكانوا أعداء ومتنافسين على السمعة العلمية والصيت والوظائف. القاهرة في القرن التاسع كانت ملأى بالعلماء، والفقهاء والمحدثين والمتكلمين، كلٌّ كان ذا ثقافة وعلم وبحث، والكل كان يجري وراء وظائف المدارس، والتي كانت تمثل الجامعات في ذلك الوقت. كان الجميع يريد أن يملأ الدنيا، لكن الإحساس بثقل التراث كان منتشراً، تئط منه ظهور الجميع، فما ترك الأولون للآخرين من شيءٍ كما يقول المثل السائر. فالكل كان يبحث عمّا هو جديد ليقوله أو ليبرزه للناس لكي يقول في مقدمة كتابه: وهذا علم لم يسبقني إليه أحد من قبل.
السخاوي في طبقاته عن القرن التاسع قام بتوثيق مدى عمق القلق النفسي والقلق الإبداعي لدى هذه الطبقة من العلماء، الذين حين لم يجدوا شيئاً مهماً لقوله تنازعوا حول الوظائف وإدارة الأوقاف التي كانت تدر المال الكثير على من يديرها. أن تُعرف في هذا الجمّ أن تُصبح مقصوداً للفتوى والتتلمذ على يديك هو أمر صعب. البقاعي لم يصبح قاضياً، ولا هو أصبح كأستاذه ابن حجر العسقلاني، أستاذ الأجيال؛ أصبح شيئاً آخر، منافحاً عن الدين، آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر، أو على الأقل هذا هو التفسير لحياته الذي ادعاه هذا العالم.
بدأت الأمور بشكلٍ بسيطٍ بعد وصول البقاعي إلى القاهرة، بدأ بالتهجم والإنكار على الزيادات التي كان المؤذنون يضيفونها إلى آخر الأذان خصوصاً في صلاة الصبح، وكيف كانوا ينغمون الأذان بدل أن يصدح بلا أنغام ولا تـنميق. عليك أن تتخيل كيف كان وقع القاهرة على هذا القادم من الشام الريفيّ، وهذه مشكلة مستمرة في التاريخ الإسلامي: الأطراف، الفج العميق، الذي ينصدم القادم منها حين يأتي إلى المدن الكبرى، مدن الموسيقى والصوفيين والزوايا وبيوت الملاهي والاحتفالات الدينية. لم يعجبه هذا الأمر، هذه بدعة، وكان يرى البدع مستترة في كل ركن، وهو كثير الادعاء أن البدع قد عمّت وطافت، وأن الصوفيين قد خربوا على المسلمين دينهم. فما كان منه إلا أن قام بكتابة رسالة ضدّ هذا التشدق بالأذان، وطلب العودة إلى الأذان الرسمي. هذه الحادثة كانت فاتحة الحوادث، والتي سيسميها أعداؤه الفتن، التي انغمس بها البقاعي. وهو سيبدي في هذه الحادثة ما سيكون نمط تصرّفه في القلاقل القادمة. سيحدّد أمراً يراه منافياً للدين، أمراً يجمع عليه الآخرون ولا يردّونه، ثم يقوم بكتابة رسائل ضد ما يراه تساهلاً من العلماء وسكوتاً عن الحق، مثيراً بذلك غضبهم ومحولاً الكثير منهم إلى أعدائه. وكانت كل فتنة أشد من الأخرى حتى جاء يوم لم يعد يطيق فيه العيش في القاهرة، فرحل إلى دمشق. ولكن الأمر لم يطل حتى بدأ هناك بكتابة رسائل ضد الغزالي ليثير نقمة أصدقائه الذين رحّبوا به في دمشق.
نحن نعرف الكثير عن البقاعي ليس لدوره في هذه القصة؛ وإنما للفتنة الكبرى التي أثارها، وهي يمكن أن تُعدّ الفتنة الكبرى في هذا القرن وهي فتنة ابن الفارض وقضية الحلول. وهي فتنة أشعلت القاهرة وقسمت العلماء إلى منافحين عن ابن الفارض ورافضين له. وكان البقاعي رأس العصبة التي قادت حملة تكفير لفكر ابن الفارض، ومحاولة القضاء على ما يراه توقيراً مفرطاً في تقدير شعره وحياته وضريحه. المؤرخون ورجال الطبقات كتبوا الكثير عنه، لكن أهم مصدر لحياة البقاعي هو ما كتبه عدوّه اللدود السخاوي في كتابه الضوء اللامع، في ترجمة تطول ولا ترحم. كيف صوّر لنا السخاوي زميله البقاعي؟
ترجمة البقاعي في الضوء اللامع
هذه الترجمة هي مثال جيد لأدب الطبقات العربي الوسيط، هنا نجد ترجمة مطولة مسهبة، دامغة لا تترك صغيرة إلا نبشتها، هي اغتيال علمي لصديق دراسة، وهي تعكس مدى عمق المنافسة الأكاديمية في هذا الوقت في القاهرة. لم يخطئ البقاعي حين قال: إن السخاوي كان مهووساً به لا يكاد يترك شاردة ولا واردة إلا أحصاها. وهذه الترجمة لا قيمة لها إلا لكونها شهادة عن موقف أعداء البقاعي منه؛ أي إنها شهادة مطعون بها، ولكن تبقى أهم شهادة عن الشجار حول شخصية البقاعي بين معاصريه. ومن المؤسف أن تكون رسالة السخاوي ضد زميله قد ضاعت ولم يبق لنا إلا هذه الترجمة. تبدأ هذه الترجمة بموجز لقيمة حياة هذا العالم، فيقول السخاوي: «صاحب تلك العجائب والنوائب والقلاقل والمسائل المتعارضة المتناقضة. ويقال: إنه يلقّب بابن عويجان تصغير أعوج». بالطبع لم يقل أحد هذا سوى السخاوي، فهو كان يريد أن يلصق بصاحبه كنية تحقير وتسخيف. السخاوي لا يرعوي أن يذكّر القارئ أن البقاعي فلاح فقير لا أهل له ولا وطن، جاء القاهرة «في غاية الفقر من البؤس والقلّة والعري». لكن ما يُـظهر أن البقاعي لا باع له في العلم والتحقيق هو أنه، والادعاء للسخاوي «لا يعرف له كتاب في الفقه والنحو ولا في غيرهما»؛ أي أن البقاعي لم يكتب في العلوم الأساسية ولا قيمة لما كتب في العلوم الأخرى.
حين يقوم السخاوي بسرد التاريح الأكاديمي للبقاعي ـ على من درس والكتب التي درسها ـ يبدأ السخاوي هذا السرد بعبارة «وزعم أنه قرأ على» مشككاً بشيوخ المترجم له، وهو من أكثر أنواع التهجم قساوة؛ لأن السلاسل المشايخية في ذلك الوقت كانت مهمة جداً توازي الـ «سي ڤي» في حياتنا المعاصرة. أي أن السخاوي لا يصدق أن البقاعي قرأ ما قرأ مع من قرأ. وينهي السخاوي هذا الجزء من الترجمة بقوله: إن البقاعي ليس بعالم بل فاضل، وهو الذبح بالمدح اليسير: «وما علمته أتقن منا (تصحيف في النسخة المطبوعة لكلمة فنا، وهو الأصح) ولا بلغ مرتبة العلماء بل قصارى أمره إدراجه في الفضلاء، وتصانيفه شاهدة على ما قلته». وحين يقرّ السخاوي ان البقاعي قد قرأ ودرس على مشايخ العصر فهو يشكك في جدّيّة هذه القراءة فيصفها أنها «بالهوينا»، «ولم يمعن في ذلك»، متهماً إياه بعدم التفرغ وسطحيّة الدرس والتنقل بسرعة من كتاب إلى كتاب دون أن يكمله. بل يقوم السخاوي باتهام البقاعي بعدم دراسة كتب الحديث الستة وتضييع وقته في قراءة ما لا لزوم لقراءته. وحين يضطر السخاوي لذكر منجزات البقاعي كمرابط ومحارب يشكك في نيّته فيقول: «ورابط غير مرة والله أعلم بنيّته في ذلك». في كل هذا السيل من المعلومات عن البقاعي هناك نسيان كلي لكتاب التفسير الضخم الذي كتبه البقاعي. فالسخاوي لا يذكر أسماء كتب البقاعي، وهي قلة أمانة من جانبه.
لا يكتفي السخاوي بهذا القدر من الحكم على خُلق البقاعي؛ بل يزيد أن البقاعي كان هو سبب المصائب التي أصابته فيقول: «أهلكه التيه والعجب وحب الشرف والسمعة، بحيث زعم أنه قـيّم العصريين بكتاب الله وسُنَّة رسوله»، رامياً الشكّ على ادعاء البقاعي أن كل ما قام به هو بسبب غيرته على الكتاب والسنة، وأن ما كان يقوم به كان أمراً بالمعروف ونهياً عن المنكر. ويضيف السخاوي متسائلاً: كيف يدعي أنه (أي البقاعي) «لا يخرج عن الكتاب والسُّنَّة بل هو مطبوع بطباع الصحابة مع رميه للناس بالقذف والفسق والكذب والجهل، وذكر ألفاظ لا تصدر من عاقل، وأمور متناقضة، وأفعال سيئة، وحقد تام». إن البقاعي يخرج من هذه الترجمة كمسخٍ، فلا هو بعالمٍ ولا هو بتقيّ ولا هو بناصح. ولا يكتفي السخاوي بحكمه على البقاعي؛ بل يورد أقوال علماء آخرين دانوه، وقالوا بمثل ما قال السخاوي، فينقل عن بعضهم أنهم قالوا: إن حياة البقاعي كلها عبارة عن حكايات «تسوّد الصحائف وتبيّض النواصي»، بحيث إنه كان مصيبة على كل بلد يسكنه، «ما سكن في بلدٍ إلا أقام بها شروراً وشحنها فجوراً». ولولا رحمة الله لأهلك العباد، «ولولا أعاذنا الله تعالى به من شدة طيشه وإعجابه برأيه لسعّر البلاد وأهلك العباد». ويزيد السخاوي أن أحد السلاطين المماليك قال: إن البقاعي ذو حقد كامل على البشرية، بحيث إنه قال: «لو نفست للبقاعي لأخرب الدنيا». أما عن فتاواه ومعارضته حكم العلماء الآخرين فالسخاوي كان متيقناً من أن الغرض من ذلك كان طمع البقاعي بأن يولّى منصباً قضائياً يقول: «ولم يكن له في شيء من ذلك غرض معين؛ إنما كان غرضه بالخلاف رجاء يرتب عليه ولايته القضاء».
والترجمة لا تكتفي بتسويد سمعة البقاعي الأخلاقية؛ بل يتهمه السخاوي بعدم الكفاءة العلمية؛ بحيث إنه لا يحق له تعليم العلوم التي كان يعلّمها خصوصاً علم القراءات. ويتهمه أيضاً بسرقة كتاب من معلمه عن القراءات. ويضيف السخاوي أن البقاعي كان مصحِّفاً لا دراية له بالتواريخ والتراجم، وكتبه ملأى بالتصحيف والتحريف والأخطاء. والسخاوي يتهمه بعدم الإخلاص لأساتذته ومكره وطعنه بالظهر لأصدقائه؛ بحيث إنه «ما علمت (أي السخاوي) أحداً سلم من أذاه لا الشيوخ ولا الأقران ولا من يليهم من كل بلد دخله بالنظم والشعر حتى من خوّله في النعم بعد الفاقة والعدم».
هذا الذي سردت من هذه الترجمة هو نزر يسير من قَبْص حصى. هذه المبالغة في شتيمة البقاعي تمدد عبر صفحات وصفحات، وهي من أجمل ما كتب بين أعداء في السلك الأكاديمي، وهي تعكس كره السخاوي لمنافسه وعمق الخلاف بينهما. فالسخاوي لم يكن فقط كارهاً للبقاعي بل كان متتبعاً لكل شاردة منه، عالماً بكل ما كتبه البقاعي وما قام به وما حكاه، بحيث إن هذه المعرفة العميقة تعطي بُعْداً اجتماعياً للترجمة، فهي تعكس التتبع الفكري الذي كان الجميع يقوم به، مَنْ دَرَسَ مع مَنْ، مَنْ يروي عن من، مَنْ يوظف على ماذا، ومن يولّى القضاء، مَنْ يراسل من. ففي لحظة حقد مفزعة يقوم السخاوي بسرد رسالة سرية أرسلها البقاعي إلى أصدقائه في القاهرة يطلب معروفاً، وهي رسالة لا نعرف كيف وقع عليها السخاوي، وهو يوردها ليعكس عمق خداع البقاعي وسخفه وتيهه. هذه الترجمة هي مثال رائع أيضاً للحرية الفكرية التي كان أصحاب كتب الطبقات يتمتعون بها، وهي أيضاً تعكس الواقع الحقيقي لحياة علماء المسلمين، المليئة بالجميل والقبيح. وأنت حين تقرأ دراسات حديثة عن العصور الوسطى تقرأ مقالات طوباوية طاهرية تنزه هذه الأجيال عن حقيقة حياتهم، وتسردها لنا كأنهم ملائكة نزلت من السماء بلا أوساخ ولا مطامع. لكن الواقع أن كلّاً من هؤلاء العلماء كان يعيش في واقع حقيقي لا طوباوي. كانوا يقرؤون القرآن وعينهم على وظيفة هنا ووظيفة هناك، مجبولين على حب الآخرة والدنيا بالقدر نفسه. وهم ـ مع كونهم علماء ـ كانوا لا يتوّرعون من أن يكيدوا كيداً ويحقدوا حقداً.
إن أهم ما في هذه الترجمة أنها تعكس عمق الخلاف على شخصية ونتاج البقاعي، وهو إن لم يصل إلى درجة ابن تيمية في قلب الدنيا على معاصريه فإنه تمكّن من إبقاء القاهرة ودمشق منشغلة به وبآرآئه دافعاً زملاءه للرد عليه ومتابعة ما يقوم به. الترجمة مع طولها ناقصة؛ لأنها لا تخبرنا عن حادثة ابن الفارض بشكلٍ مسهبٍ، ولا يبعد ان يكون السبب حسداً من السخاوي؛ لأنه كان ممن يجد شعر ابن الفارض مقلقاً. لكن الترجمة تورد لنا معلومات مهمة عن علاقة البقاعي مع شخصية مغربية خلافية، مثيرة للجدل، وهو أبو الفضل المغربي المشدالي، وهو كان يقول بقاعدة تفسيرية حديثة، والسخاوي كان مقتنعاً بأن هذه القاعدة التأويلية كانت السبب في جرأة البقاعي وكتابته كتابه الكبير في التفسير. وتخمين السخاوي ليس كل الحقيقة لكن التقاء البقاعي بالمشدالي سبب من عدة أسباب دفعت البقاعي إلى كتابة تفسيره. هذه الشخصية كانت شخصية كارزمية أتت إلى القاهرة لبضع سنين، وكان له حلقة من التابعين والبقاعي كان أقرب الناس إليه. والمعلومة الأخرى التي يوردها السخاوي هي أن البقاعي كان عالماً بعيد السبر لتاريخ التفسير نابشاً عن مفسرين نسيهم معاصروه، وهو أنقذهم من النسيان والضياع (إن بعض المؤلفات لهؤلاء المفسرين الموجودة الآن في مكتبات إسطنبول وباريس هي من مكتبة البقاعي الخاصة، وهي نسخ وحيدة لهذه المؤلفات).
سأنهي هذا السرد لحياة البقاعي كما أوردها السخاوي بتحليل معالجة السخاوي لشعر البقاعي، فالبقاعي كان شاعراً مرهفاً ذا عبارة ساحرة، وقد أقـرّ له الجميع بذلك، والبقاعي ترك كتابة الشعر حين بدأ بكتابة التفسير تقرباً إلى الله وفدية منه في سبيل العلم. والسخاوي كان مضطراً أن يذكر هذه الناحية من حياة البقاعي، فالكره لا يعني عدم الشموليّة. السخاوي يورد قطعة شعرية للبقاعي يرثي فيها نفسه قبل موته، والمقطوعة رقيقة عذبة ومؤثرة، وهي كما يبدو كانت متداولة بين العلماء لجمالها. وهو يورد قول عالم آخر ممن كان يعتقد بأن القطعة جيدة بحيث إنها لا يمكن أن تكون للبقاعي، فيقول السخاوي: إن القاضي عزّ الدين الحنبلي كان «يستكثرها عليه، ويقول: لعله ظفر بها لغيره». السخاوي يضيف ما يوحي أنه ترفع عن هذا الاتهام ليورد سبباً أكثر دمغاً وأكثر بشاعةً، فيقول: «وأقول: كأنه لمزيد حبّه في مدح نفسه انبعثت سجيته لها». البقاعي في هذه الترجمة رجل نكرة، مدعي العلم، خائن، خادع لا خصال تنجيه ولا سجية تغفر له، وحين يحلّق في سماء الإبداع فالسبب أناني. حتى أجمل شعره في رثاء نفسه نابع من حبّ الذات التي كانت الميزة الوحيدة التي تمحورت حياته عليها.
البقاعي وأثره العلمي
إن حكم السخاوي على البقاعي لم يكن له أي تأثير على الاستقبال العلمي للبقاعي؛ فصيت البقاعي وأثره لم يعتمدا على هذا الحكم الدامغ، بل على مؤلفات البقاعي وهي كثيرة ومتوافرة. إن العلاقة الحميمة للبقاعي بقضايا متعددة مثل فتنة ابن الفارض، واتهامه ابن العربي بالزندقة، وتكفيره للغزالي قد أبقت اسمه حيّاً في التاريخ الإسلامي وفي الأكاديميا الغربية. إن أوّل دراسة عن البقاعي والتي كتبها الأستاذ الجامعي هومرين الأمريكي كانت عن دوره في فتنة ابن الفارض التي حدثت في القاهرة على فترات متفاوتة، وكانت أشد حلقاتها حين بدأ البقاعي بكتابة رسائل ضد ابن الفارض. ولقد عرض الأستاذ هومرين بالتفصيل لهذه الرسالة في كتابه عن ابن الفارض، وعرضي هنا يعتمد اعتماداً كلياً على دراسته. والرسالة سماها البقاعي «صواب الجواب»، واتهم فيها شعر ابن الفارض بكونه مليئاً بفكرتي الحلول، والاتحاد، ووسمهما بأنهما يعارضان القرآن وسُنَّة النبي، ومن يعتقدهما يكون كافراً من أهل الشرك. ورفض البقاعي في هذه الرسالة التبريرات التي كانت سائدة بين العلماء المسلمين في فهم شعر ابن الفارض بقراءته قراءة تأويلية غير تكفيرية. ورفض البقاعي التوقير الذي أسبله علماء المسلمين على ابن الفارض بوسمه أنه من الأولياء والصالحين. وقامت الدنيا ولم تقعد بعد هذه الرسالة، وانبرى المنافحون عن ابن الفارض، وكتبت رسائل مضادة، كان من أبرز هؤلاء المنافحين السيوطي نفسه وبدر الدين بن غرس (ت: 894هـ/1488م). وهذا لم يفزع البقاعي، فقام بكتاب رسالة ضد هذه الرسائل، واشتعلت القاهرة لمدة سبعة أشهر، وبدأ المتنافسون بكتابة رسائل هزلية خصوصاً ضد البقاعي لموقفه، وكانت رقعات من الشعر تكتب وتعلّق على ضريح ابن الفارض مدافعة عنه ومتهجمة على البقاعي. لكن الأمر كانت له عواقب سياسية، فالأمير المملوكي برقوق (قبل أن يصبح سلطاناً) كان من أبرز الممولين لضريح ابن الفارض، والتهجم على ابن الفارض وتكفيره وتحقير موقريه كان بالضرورة اعتداء على سمعة ومكانة وعقيدة الأمير برقوق.
لم يطل الأمر حتى تدخل السلطان قايتباي، وطلب من كاتب سرّه أن يوجه سؤالاً يستفتي فيه الشيخ زين الدين زكريا الشافعي ـ أهم عالم شافعي في القاهرة ـ عن مكانة وكيفية فهم شعر ابن الفارض. وكان الجواب أن لا شيء في هذا الشعر يوجب رفضه؛ لأنه في الحقيقة على كلام أهل التصوف، ولكل أهل، لغة وهذا لا يعني أن هذا الكلام مؤيد لمذهب الحلول والاتحاد، ومع أن بعض الكلمات توحي بذلك لكن هذا مما لا يفهمه غير أهل التصوف. والسؤال والجواب كانا بحيث إن سمعة ومكانة ابن الفارض أُعيد لهما شرعيتهما، وكان مصير كل من هاجم ابن الفارض إما العزل عن منصبه أو أهين من بقية العلماء. والبقاعي خسر هذه المعركة، وتحوّل عليه بقية العلماء، فغادر القاهرة إلى دمشق مهزوماً.
البقاعي مفسراً
إن المكانة الحقيقة للبقاعي ليس في دوره كمنافح عن السنة أو عن العقيدة الإسلامية بل؛ في مكانة كتاب التفسير الضخم الذي كتبه، وقضى 23 سنة في كتابته وتنقيحه وتبييضه. وعنوان الكتاب «نظم الدرر في تناسب الآيات والسور»، والكتاب طبع في الهند في 22 مجلداً وحقق تحقيقاً علمياً. ولقد أعيد إصدار هذه الطبعة بالتصوير في مصر وهي النسخة المتوافرة، ثم أخذت طبعة الهند وطبعت في بيروت بطبعة غير علمية وبلا القراءات من المخطوطات الأخرى ولا الحواشي. إن عدم وجود قانون عربي موحّد للطباعة والنشر قد أدى إلى تكاثر «التحقيقات» المسروقة في العالم العربي، وكل إعادة صف لحروف كتاب لطباعته بشكلٍ يختلف عن التحقيق المسروق هو منبع لأخطاء طباعية وسقطٍ وحذفٍ بحيث إن من الأفضل أن يعاد تصوير النسخة الأولى من التحقيق، ولكن هذا يعني كشف سرقة السارق الذي يدعي أنه يقوم بتحقيق جديد. فلقد كانت معظم الطبعات المهمة يعاد تصويرها كما هي. لكن هذا الأمر من الأمور اليسيرة في الواقع الأكاديمي العربي. على الأقل الآن النسخ المحققة تحقيقاً علمياً أصبحت متوافرة على شبكة الإنترنت وهو من أهم التطورات في العالم الأكاديمي العربي.
ونظم الدرر هو كتاب حدث، ونقطة تحول في تاريخ التفسير في العالم الإسلامي لسببين سوف أذكرهما في معرض هذا المقال. والكتاب كتب نتيجة وظيفة البقاعي كمفسر للقرآن في أحد المساجد في القاهرة (مسجد الظاهر). وكانت له دروس أسبوعية وكان أيضاً نتيجة لاحتكاك البقاعي وتأثره بمعلمه أبي الفضل المغربي المشدالي (ت: 864هـ/1450م) الذي كان له الفضل الكبير في تغيير نمط تأليف كتابه. والمشدالي هذا كان سياحاً من المغرب العربي (من الجزائر)، جاء للمجاورة في القاهرة، وأمضى بضع سنين في القاهرة، وتجمعت إليه الناس، وأُخذ عنه العلم. وكان المشدالي صاحب نظرية تأويلية جديدة في القرآن الكريم، وسماها «قاعدة كلية»، وكانت هي المفتاح الذي اعتقد المشدالي أنه من خلالها يمكنك أن تفهم نظم القرآن، وسبب ترابطه (علم المناسبات) بالشكل الذي انزل فيه من الله.
والقاعدة ـ بحسب البقاعي نقلاً عن المشدالي ـ كالآتي: «الأمر الكلي المفيد لعرفان مناسبات الآيات في جميع القرآن هو أنك تنظر الغرض الذي سيقت له السورة، وتنظر ما يحتاج إليه ذلك الغرض من المقدمات، وتنظر إلى مراتب تلك المقدمات في القرب والبعد من المطلوب، وتنظر عند انجرار الكلام في المقدمات إلى ما يستتبعه من استشراف نفس السامع إلى الأحكام واللوازم التابعة له، التي تقتضي البلاغة شفاء العليل يدفع عناء الاستشراف إلى الوقوف عليها. فهذا الأمر الكلي المهيمن على حكم الربط بين جميع أجزاء القرآن، وإذا فعلته تبيّن لك إن شاء الله وجه النظم مفصلاً بين كلّ آية وآية في كل سورة، والله الهادي»؛ والسخاوي قام بنقل هذه القاعدة أيضاً في معرض ترجمته للمشدالي، فالقاعدة كانت حديث الناس في القاهرة، وكان السخاوي مستخفاً بها، ومتهماً إياها بتضليل البقاعي.
في رمضان سنة 860هـ/ أغسطس 1456م أنهى البقاعي دورة كاملة من تفسير وتدريس القرآن في مسجده في القاهرة، وبدأ في «كرّة ثانية» من إعادة تفسير القرآن الكريم. وبعد مرور سنة على دروسه الجديدة ـ وكان قد انتهى من تفسير سورة البقرة ـ اكتشف قاعدة المشدالي في المناسبات وبدأ بتطبيقها، وحين تيقن أن هذه طريقة لم يسبق إليها قرر حينها ان يكتب هذه الدروس وينقحها، ويخرجها ككتاب جديد جاعلاً علم المناسبات الأساس الجديد لمنهجه. والبقاعي في تاريخه الذي لم يبيض ولم ينشر نشراً تاماً «إظهار العصر لأسرار أهل العصر» ترك لنا الكثير من المعلومات عن كيفية كتابته لهذا التفسير. فلقد وصف لنا مرة كيف أصيب بعقدة الكتابة، أو ما يُسمى في الانجليزية «سد الكاتب»، وكيف كان مشتت الفكر، وكيف تعامل مع هذه المعضلة، فيقول: «وكنت في الجمعة التي قبل هذه مشتت الفكر فلم يفلح لي في المسودة بشيءٍ وكانت عادتي أن آخذ معي جزءًا من تفسير القاضي نصر الدين البيضاوي وأصلي الجمعة في جامع الظاهر ثم أصعد الميدنة بعد الصلاة فأطالع الآية إلى أن أفهمها ثم أنظر في تلك الأماكن المنفتحة والأشجار والمياه بالبصر والبصيرة في مناسبتها إلى أن ينفتح لي، فلما كانت الجمعة التي وافقت السادس والعشرين اجتمع لي فكر فوصلت إلى قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ﴾[الحج: 41]».
البقاعي في هذا المقطع وفي مقدمة تفسيره يصف كتابه كالرديف لتفسير البيضاوي، وهو من أوائل الأدلة التي عثرت عليها لاستعمال علماء السُّنَّة كتاب البيضاوي وابتعادهم عن الكشاف للزمخشري، وإن كان هذا هو حالة نادرة بعد. ولكن الأهم في هذه المقدمة هو شرح البقاعي لنظريته في التفسير، وفي إيراده أسماء العلماء والمفسرين الذين أخذ عنهم واتبعهم في كتابه.
إن أوّل ما يبدأ به البقاعي في تفسيره هو تأكيده للقارئ أن كتابه لا يكرر ما قد سلف، بل هو كتاب حدث جديد، والمقدمة لا تخلو من آفة العلماء في هذا القرن القلق: التكبر والتباهي بإحداث علم جديد، فيبدأ حديثه فيقول: «وبعد، فهذا كتاب عجاب، رفيع الجناب، في فن ما رأيت من سبقني إليه، ولا عول ثاقب فكره عليه، أذكر إن شاء الله مناسبات ترتيب السور والآيات. أطلت فيه التدبر، وأنعمت فيه التفكر لآيات الكتاب؛ امتثالاً لقوله تعالى: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُواْ الْأَلْبَابِص: 29]». ثم يقوم البقاعي بتعريف معنى علم المناسبات فيقول: «وعلم المناسبات، الأهم، من مناسبات القرآن وغيره: علم تعرف منه علل الترتيب. وثمرته: الاطلاع على الرتبة التي يستحقها الجزء بسبب ـ ما له: بما وراءه ـ وما أمامه من الارتباط والتعلّق الذي كلحمة النسب». ثم يسهب فيقول: «فعلم مناسبات القرآن علم تعرف منه علل ترتيب أجزائه، وهو سر البلاغة لأدائه إلى تحقيق مطابقة المعاني لما اقتضاه من الحال، وتتوقف الإجادة فيه على معرفة مقصود السورة المطلوب ذلك فيها. ويفيد ذلك معرفة المقصود من جميع جملها، فلذلك كان هذا العلم في غاية النفاسة وكانت نسبته من علم التفسير نسبة علم البيان من النحو». ويسرد بعد هذا التعريف أسماء العلماء الذين قد تحدثوا أو كتبوا عن هذا العلم، وأولهم أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي الأندلسي (ت: 708هـ/1308م) في كتابه «البرهان في ترتيب سور القرآن»، والزركشي في كتابه «البرهان في علوم القرآن» وفخر الدين الرازي في تفسيره.
إن البقاعي يجمع هنا بين علماء مشهورين وبين علماء نُسوا ولم يُذكروا حتى أبرزهم البقاعي نفسه، وهو كان دارياً بهذا العمل الأركيولوجي الأرشيفي، ففي كتابه «مصاعد النظر للإشراف على مقاصد الصور» تناول هذه الناحية من عمله العلمي، فذكّر قراءه أنه هو من نبش عن ابن الزبير الأندلسي. ولكن الشخصية الأهم التي أنقذها البقاعي من النسيان كانت أبا الحسن الحرالي (ت: 637هـ/1239م) وهو كان من متصوفي الأندلس، وهو وإن كان مقدراً مجللاً في المغرب الإسلامي؛ فإن سمعته في المشرق العربي كانت سيئة، فالذهبي وابن حجر العسقلاني أدانا فكره، ووصفاه بأنه كان «فلسفي التصوف». ولكن أول من تهجم على الحرالي كان ابن تيمية نفسه. والسخاوي في ترجمته للبقاعي لام البقاعي لتأثره بالحرالي؛ ولكن هذا لم يفزع ولم يردع البقاعي؛ ففي مقدمته لتفسيره يتفاخر البقاعي بأنه استفاد من كتب الحرالي، والقطعة مهمة وتستحق النقل هنا:
«وانتفعت في هذا الكتاب كثيراً بتفسير على وجه كليّ للإمام الرباني أبي الحسن علي بن أحمد بن الحسن التجيبي الحرالي ـ بمهملتين مفتوحتين ومدّ وتشديد اللام ـ المغربي نزيل حماة من بلاد الشام، سمّاه «مفتاح الباب المقفل لفهم القرآن المنزل»، وكتاب «عروة» لهذا المفتاح (والاسم الصحيح للكتاب عروة المفتاح)، يذكر فيه وجه إنزال الأحرف السبعة وما تحصل به قراءتها، وكتاب «التوشية والتوفية» في فصول تتعلّق بذلك. وقد ذكرت أكثر هذا الكتاب في تضاعيف كتابي هذا معزواً إليه في مواضع تليق به. ثم بعد وصولي إلى سورة الأنفال ملكت جزءًا من تفسيره فيه من أوله إلى ﴿ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آَدَمَ وَنُوحًا وَآَلَ إِبْرَاهِيمَ وَآَلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ في [آل عمران: 33] فرأيته عديم النظير. يسّر الله الاطلاع على بقيّته بحوله وقوّته. هنا نرى ناحية أخرى من البقاعي وهي تتبعه لمصادر عدّها مهمة، وأيضاً كونه محباً للكتب مجمعاً لها، وقد ترك مكتبة كبيرة، أورثها لأخص تلاميذه، والكثير من هذه الكتب ما زالت متوفرة في مكتبات العالم، خصوصاً في إسطنبول وباريس، حيث ترى تملك البقاعي لهذه الكتب بخط البقاعي.
إن قلق البقاعي من أن يكون قد سُبق إلى الكتابة عن فن التناسب في علم التفسير كان واضحاً من قصة رواها في مقدمة كتابه، حين قيل له: إن ما يفعله قد فُعل من قبل، وإن هناك مفسراً قد كتب في هذا العلم واستفاض، فحين علم البقاعي هرع باحثاً عن هذا الكتاب، وقرأه مخبراً القارئ أن الخبر عارٍ من الصحة، وأن كتابه لم يكتب مثله فيقول: «وبعد أن وصلت إلى سورة الكهف ذُكر لي أن تفسير ابن النقيب الحنفي ـ وهو في نحو ستين مجلداً ـ يذكر فيه المناسبات، وفي خزانة جامع الحاكم كثير منه، فطلبت منه جزءًا فرأيت الأمر كذلك بالنسبة إلى الآيات لا جملها وإلى القصص لا جميع آياتها، ومن نظر في كتابي هذا مع غيره علم النسبة بينهما، والله الموفق».
والبقاعي يعتقد أن فنه يفتح باباً جديداً لإثبات إعجاز القرآن، وهو في ذلك لا ينفكّ يزكّي نفسه، وهو يريد من القارئ أن يعي أن الأمر شاق جداً، وهو يقدّم دفاعاً رائعاً عن أسلوبه بحيث يخبر القارئ أن ما رأى هو من إعجاز وتناسب القرآن أصبح جليّاً بديهيّاً بعد شرحه وتوضيحه، وهذا ـ يعتقد البقاعي ـ هو أكبر دليل على عمق وصحة ما يقوم به فيقول: «وعلى قدر غموض تلك المناسبات يكون وضوحها بعد انكشافها. ولقد شفاني بعض فضلاء العجم، وقد سألته عن شيء من ذلك فرآه مشكلاً، ثم قررت إليه وجه مناسبته وسألته هل وضح له؟ فقال: يا سيدي كلامك هذا يتسابق إلى الذهن. فلا تظن أيها الناظر لكتابي هذا أن المناسبات كانت كذلك قبل الكشف لقناعها والرفع لستورها، فربَّ آية أقمت في تأملها شهوراً».
إننا الآن بحاجة إلى من يدرس معنى التناسب وعلم التناسب عند البقاعي، فالسرد الذي أوردته الآن لا يخبرنا كيف قدمت هذه القاعدة فهماً أو فتحاً جديداً في تقديرنا للقرآن. ونحن بحاجة إلى أمثلة من التفسير نفسه وليس فقط من تنظير البقاعي في المقدمة؛ لترينا كيف تقوم هذه النظرية بشرح ما غمض أو ما لم يكن واضحاً من القرآن. ولقد صدر كتاب للباحث مشهور مشاهرة وعنوانه «التناسب البياني عند الإمام البقاعي: دراسة بلاغية»، وهناك أيضاً كتاب باللغة التركية لنكاتي كارا عن منهج البقاعي التفسيري، وكلا الكتابين بحاجة إلى من يراجعهما ويعلم القارئ العربي بما قالاه. وهذا المقال هو عرض لهذه النظرية وليس تحليلاً، وهو ما يتطلب كتاباً مفصلاً وتقييماً مطولاً.
البقاعي والتوراة والانجيل: أو الثورة الثانية في كتاب نظم الدرر في تناسب الآيات والسور
إن كتاب «نظم الدرر» للبقاعي ليس فقط كتاباً عن المناسبات في القرآن، بل هو أيضاً أوّل كتاب تفسير في العالم الإسلامي ـ وللأسف ما زال وحيداً في هذا الشأن ـ استعمل فيه المفسر المسلم كتب أهل الكتاب؛ أي كتب التوراة اليهودية وكتب الأناجيل للنصارى، لتفسير ما جاء في القرآن عن أهل الكتاب من قصصهم وأحوالهم وعاداتهم وطقوسهم. هذا الانفتاح، ـ وهو انفتاح بلا وجل وبلا مواربة ـ كان حدثاً دينياً غير مسبوق في تاريخ التفسير الإسلامي. ونحن نرى الإرهاصات الأولى لهذا البرنامج التفسيري في بداية الكتاب حين يقوم البقاعي بربط رسالة القرآن بالرسالات النبوية الأولى، فهو يرى أن الأمور بدأت في التوراة، وكملت ووصلت الكمال والإعجاز في القرآن. فمثلاً نراه يجادل أن ما هو موجود في التوراة والإنجيل هو موجود في القرآن وأكثر منه فيقول: «ففي التوراة أحكام الله على عباده في الدنيا بالحدود والمصائب والضراء والبأساء، وفي القرآن منها ما شاء الله وما يظهره الفِقه من الحدود، ومعارف الصوفية من مؤاخذة المصائب. وفي الإنجيل أصول تلك الأحكام والإعلام بأن المقصود بها ليست هي بل ما وراءها من أمر الملكوت، وفي القرآن منها ما شاء الله مما يظهره العلم والحكمة الملكوتية. وفي الزبور تطريب الخلق وَجْداً انصرافٌ عن أنفسهم إلى ربهم، وفي القرآن ما شاء الله مما تظهره الموعظة الحسنة. ثم أنهى الأمر والخلق من جميع وجوهه، فصار قرآناً جامعاً للكل متمماً للنعمة مكملاً للدين و﴿ حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ المائدة: 3].(بُعثْتُ لأتمم مكارم الأخلاق ) ﴿ وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى ﴾[النجم: 42]».
وهو يعيد الكرة، ويؤكد أن القرآن هو كمال هذين الكتابين، فحين يتكلم عن حروف القرآن ومعانيها يقول: «فأدنى الحروف هو حرف صلاح الدنيا، فلها حرفان: أحدهما: حرف الحرام الذي لا تصلح النفس والبدن إلا بالتطهير منه لبعده عن تقويمها. والثاني: حرف الحلال الذي تصلح النفس والبدن عليه لموافقته لتقويمها. وأصل هذين الحرفين في التوراة وتمامها في القرآن». وهو يضيف أن الأمر كذلك في حرف صلاح المعاد، ويضيف البقاعي أن «أصل هذين الحرفين في الإنجيل وتمامهما في القرآن»، والأمر كذلك في الحرفين المتبقيين: «أصل هذين الحرفين في الكتب المتقدمة كلها وتمامها في القرآن». إن أهم ما يلفت النظر في هذه المقاطع هي التعامل المتساوي مع كتب أهل الكتاب، فنحن هنا لا نرى حديثاً عن تحريف وتزوير هذه الكتب بل عن مطابقتها ما في القرآن من معانٍ وقيم؛ فهي البداية، والقرآن هو النهاية في امتداد زمني وفكري.
إن أول ما نصادف كتاب التوراة في تفسير البقاعي هو حين يفسّر البقاعي قصة خلق آدم في سورة البقرة، فبعد أن ينتهي من سرد التفسير الذي نعرفه ونتوقعه، يبدأ البقاعي بهذه العبارة: «ورأيت في ترجمة للتوراة وهو أولها: خلق الله ذات السماء وذات الأرض وكانت الظلمة، فقال الله: ليكن النور، فكان النور، فأراد أن يفرق بين النور والحِنْدِس فسمى النور نهاراً والحِنْدِس ليلاً. ثم قال: ليكن جلد وسط الماء ويميز بين الماء الأعلى والماء الأسفل....». ويتابع البقاعي ناقلاً من سِفْر التكوين وهو الكتاب الأول من الكتب الخمسة المنسوبة إلى موسى لدى اليهود (وهي ما يسمى التوراة خصوصاً)، وهو ينقل ثلاثة فصول إلى آخر موت آدم بعد طرده وزوجه من الجنة. وينهي البقاعي هذا المقطع المطول بقوله: «هذا نص التوراة». فالبقاعي ينقل نقلاً حرفياً عن التوراة في اللغة التي ترجم منها إلى العربية دون تعديل أو تقصير. إن القارئ المسلم سوف يواجه قصة الخلق ـ خلق السموات والأرض، خلق آدم وحواء وطردهما من الجنة ـ كما سردتها التوراة. إن هذه القصة لم يوردها البقاعي ليفندها أو ليكذبها، بل أوردها كتفسير مفصل لقصة خلق العالم المختصرة التي ترد في القرآن.
هذا الاعتماد على كتب أهل الكتاب لتفسير بعض آيات القرآن أثار زوبعة كبيرة في القاهرة، وأصبحت هذه فتنة أخرى أثارها خصوم البقاعي هذه المرة ضده. فلقد قام أعداء البقاعي باتهامه بالكفر وموالاة غير المسلمين، بل قاموا باتهامه أنه يريد «إظهار التوراة وإخفاء القرآن»، وازداد الأمر استفحالاً حين طالب بعضهم بإحراق الكتاب، بل زادوا في تسفيههم للكتاب والاستهزاء به وبمؤلفه، فقالوا: «إنه ليس فيه إلا التوراة والإنجيل». وانقسمت القاهرة إلى مؤيد له وإلى معارض له. ولكن الأمر أخذ منحًى جديداً حين انبرى السخاوي متهجماً على البقاعي وكتب رسالة في رفض النقل من الكتب القديمة، وكان تدخّل السخاوي في هذا السجال الحافز الأكبر للبقاعي لكتابة رسالة يدافع بها عن نفسه، وعن تفسيره، وبالخصوص عن استعمال التوراة والإنجيل في تفسير القرآن. والبقاعي تمكن من تجنيد معظم علماء القاهرة الذين هبوا للدفاع عنه، فكتبوا الفتاوى مدافعة عن الرجوع إلى التوراة والإنجيل ومدحوا كتابه وذبوا عن مكانته العلمية. ومن الضروري أن نلحظ أن البقاعي في هذه الفتنة كان ما زال مبجلاً محترماً من الجميع، وذلك أن فتنة ابن الفارض لم تكن قد حصلت بعد.
إنه من الأسف الشديد أن كتاب السخاوي «الأصل الأصيل في تحريم النقل من التوراة والإنجيل» قد فقد أثره، وإني أناشد الباحثين العرب البحث عن هذا الكتاب. ولقد حاولت عبثاً ان أجد نسخة لهذا المؤلَّف، ولقد زعم بعض الباحثين أنه رأى نسخة من الكتاب في دار الكتب في القاهرة وقام بنقل بداية الكتاب، ولقد قمتُ بالبحث عن هذه المخطوطة لكن دون جدوى. إنما لوفرة حظنا فلقد حفظت لنا مخطوطات كتاب البقاعي «الأقوال القويمة في حكم النقل من الكتب القديمة». وقمتُ في سنة 2008 بتحقيق الكتاب تحقيقاً علمياً مرفقاً بدراسة مسهبة للبقاعي وللمخطوطات ولمحتواه وصدر عن دار بريل الهولندية. وإني سأقوم بنشره في دار نشر عربية ليصبح الكتاب متوفراً للمسلمين في الوطن العربي. وقمت بدراسة محتوى الرسالة في مقال مطول نشر في المجلة الأمريكية Speculum، وقمت أيضاً بكتابة مقال عن منهج البقاعي في الاستشهاد بالتوراة. وكتبت مقالاً آخر عن منقولات البقاعي من الأناجيل الأربعة. إن هذه الدراسات مع تحقيق المخطوطة قد وثقت مرحلة مهمة من النتاج الفكري الإسلامي. وهي لحظة تاريخية مهمة تُظهر أن المسلمين كانوا قادرين على الاستفادة ودراسة كتب الأديان الأخرى.
فلنعد إذن إلى نقولات البقاعي عن التوراة والأناجيل في تفسيره. إن البقاعي قام بنقل صفحات وصفحات من التوراة والأناجيل والزبور (أو ما يسمى كتاب المزامير في العربية الحديثة) في كتابه حين واجه قصصاً من التوراة والأناجيل. إن هذه النقولات كانت بحيث إنها غيرت من محتوى وفهم المسلمين للقرآن. فما لمح له القرآن من قصص اليهود والمسيحيين قام البقاعي بتفصيله نقلاً عن التوراة والأناجيل. فلقد ضربت مثلاً لقصة خلق الكون وخلق آدم، فهي مذكورة في القرآن ولكن دون تفصيل، وهي مذكورة في التوراة بشكل مسهب، فقام البقاعي حين ذكر قصة خلق آدم بذكر القصة بكاملها من التوراة.
ولكن قبل الخوض في الموضوع بتفصيل علينا أن نسأل أنفسنا سؤالاً: ما هو مستوى معرفة البقاعي العلمية بالتوراة والأناجيل؟ أو كيف اكتسب عالم مسلم ـ والمسلمون لا يقرأون ولا يدرسون التوراة والأناجيل ـ معرفته؟ وهل هذه المعرفة هي معرفة موضوعية، وهل هي كافية لكي يقوم البقاعي باستعمال المادة بشكل صحيح؟ يبدو أن البقاعي قد صادف نسخة في سوق الوراقين في القاهرة لكتاب التوراة في ترجمة عربية في حروف عربية، فاشتراه وبدأ بقراءته. ثم نراه التقى أحد أفاضل اليهود العالمين بديانتهم، وهو من فرقة الأحباريين الربينيين وهي الفرقة الأكثر تواجداً من اليهود. وهذا العالم اليهودي جلب للبقاعي النسخة العربية المعتمدة لدى هذه الطائفة، وهي الترجمة التي قام بها سعيد الفيومي أحد أهم أحبار اليهود. والبقاعي لم يكتف بهاتين الترجمتين (ويبدو أن الترجمة الأولى التي وجدها البقاعي في سوق الكتب كانت الترجمة المعتمدة لدى اليهود القرائين، وهي فرقة صغيرة يهودية كانت متواجدة في القاهرة وفلسطين) بل قام باقتناء نسخة من نسخ النصارى وهي نسخة تحتوي على ترجمة لكتب اليهود المعتمدة (أي ما يُسمى العهد القديم) وكتب النصارى المعتمدة خصوصاً الأناجيل الأربعة. وهذه النسخة هي نسخة مسيحية وهي نسخة مترجمة عن النسخة اليونانية القديمة ونسخ الأناجيل اليونانية. وهذه النسخة النصرانية تسمى السبعينية، لأن هناك خبراً أن سبعين عالماً قام بترجمتها كل لوحده دون معرفة الآخر وحين قورنت ترجماتهم اكتشف أن جميع الترجمات كانت متطابقة، فعرف الجميع أن الله قد كان وراء هذا التوفيق، واعتمدت النسخة كأنها النسخة الأُم من التوراة لدى النصارى المتكلمين باليونانية. إذن البقاعي كان لدية ثلاث نسخ للتوراة (أي كتب اليهود) وترجمة واحدة للأناجيل الأربعة. والبقاعي يخبرنا عن هذه النسخ وعن رأيه في قيمتها بعد أن ينقل لنا قصة الخلق من التوراة. فهو في هذا الأمر حريص على أن يخبر القارئ أنه عالم بمصادره، متحكم في هذه الكتب، عريق في معرفته، وهو أيضاً لديه مصادر من العالم اليهودي الذي كان يحاوره ويعلمه عن دين اليهود.
إن معرفة البقاعي بكتب اليهود والمسيحيين كانت عميقة، موضوعية ومدهشة. فلنذكر أشهر المواضع في القرآن ارتباطاً بالتوراة، وهي الآية 105 من سورة الأنبياء: ﴿وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ ﴾. فالقرآن يخبرنا أنه ينقل وَحْياً كُتِبَ في الزبور. لقد بقي الأمر مستغلقاً على العلماء المسلمين المفسّرين حين فسّروا هذه الآية؛ إذ أي منهم لم يعرف ولا كان قادراً أن يخبرنا أين من الزبور أخذت هذه الآية؛ وهل هي حقّاً من الزبور الذي في يد اليهود، حتى جاء البقاعي فقام بإخبار القارئ المسلم في أي مزمور من مزامير داود توجد هذه الآية (مزمور 37، الآية 29)، وقام بنسخ المزمور للقارئ كي يطلع على كل المزمور. إن البقاعي قد فتح باباً كان مغلقاً على المسلمين، وهو الاطلاع على كتب أهل الكتاب للاستفادة منها ولإلقاء أضواء جديدة على القرآن الكريم.
أو لنأخذ مثلاً تفسيره لسورة يوسف. فالبقاعي قام بنقل كل قصة يوسف من التوراة مضيفاً إياها إلى التفسير الإسلامي المتوارث عن هذه القصة. والأمر ليس اجتراراً لما يعرف بالإسرائيليات، بل هو محاولة للقفز فوقها، وللعودة إلى الجذور التي أخذت منها الإسرائيليات، والعودة إلى المصادر الأولى لدى اليهود والمسيحيين. والبقاعي يحاول أيضاً أن يفهم بعض التعاليم اليهودية، فيحاول أن يخبر القارئ عن أهمية حفظ يوم السبت عند اليهود، ولماذا هو يوم راحة وعبادة. وهو في كل هذا يبتعد عن السب والتهكم، بل يرى في هذه الطقوس فرائض من الله فرضها الله على غير المسلمين لما يوافق زمانهم وشرعهم ولحكمة إلهية. فاليهود هم أهل وحي وأهل كتاب وأهل الأنبياء. والبقاعي في كل هذه الأمور يحاول أن يرى التوراة والأناجيل ككتب منزلة من الله، وهو كثير المراجعة للقصص بحيث يحاول أن يتقبلها كما هي من دون أن يتنازل عن أي من معتقداته الإسلامية. فخذ مثلاً حين كان يقوم بنقل قصة موسى مع قومه حين عاد من الجبل ليجدهم قد اتخذوا العجل الذهبي وعبدوه. فالبقاعي حين كان ينقل هذه القصة تورع عن نقل بداية الفصل 32 من سفر التكوين؛ لأنه يصور هارون منخرطاً في عمل العجل الذهبي، فيقول البقاعي: «وإنما لم أسق نصّ التوراة عن هذا بلفظه؛ لأن في أول عبارته ما رأيته غضاً بالنسبة إلى مقام هارون (ع) ، وحاشاه مما يوهم نقصاً، فجوزت أن يكون مما بدلوه. ثم تأملت ما رواه النسائي وأبو يعلى وابن أبي حاتم وابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما في حديث الفتون فوجدته ليس بعيداً من تأويله، وقد ذكرت محل الحاجة منه في سورة طه، والله الموفق». فنحن نرى في هذا النصّ كيفية مناولة البقاعي للتوراة، فعندما خشي أن يكون ما يوجد هناك معارضاً لعصمة الأنبياء تورع عن نقله معتقداً أنه من المحرف والمغير من الكتب، ولكنه عاد وفهم هذا النص التوراتي على وجه آخر في ضوء حديث الفتون الصحيح، وعاد وقبل نص التوراة على أنه يمكن فهمه وتأويله من دون رده واتهامه بأنه محرف.
الكلمات العشر، أو الوصايا العشر كأنموذج لمعالجة البقاعي للمعتقدات اليهودية:
أبدى البقاعي اهتماماً كبيراً بالآيات التوراتية التي تذكر الوصايا العشر، وهو في ذلك يبدي تفهماً كبيراً لمكانة هذه الآيات في الديانة اليهودية وكيف بُـني عليها صرح اليهودية. والبقاعي لا يشدد على أهمية هذه الوصايا العشر لليهود فقط بل هو يقيم ترابطاً بينها وبين القرآن. والبقاعي يستخدم هذه الوصايا ليبرهن أن التوراة ليست كلها محرّفة ولا يجوز تدنيسها ولا تحقيرها، وهو يتساءل غير مصدق: كيف يمكن لأي مسلم أن يرفض قدسية وإلهية هذه الوصايا فيقول منافحاً عنها وعن التوراة: «لأنه لا يخفى على أحد أن ـ مسلماً فضلاً عن عالم ـ لا يقول إنه يستنجي بنحو قوله في العشر الكلمات التي صدرت بها الألواح قال الله جميع هذه الآيات كلها: أنا الربُّ إلهك الذي أصعدتك من أرض مصر من العبودية والرق، لا تكن لك آلهة غيري، لا تعملن شيئاً من الأصنام والتماثيل التي مما في السماء فوق وفي الأرض من تحت ومما في الماء أسفل الأرض، لا تسجدن لها ولا تعبدها؛ لأني أنا الربُّ إلهك إله غيور. لا تقسم بالربِّ إلهك كذباً؛ لأن الربُّ لا يزكي من حلف باسمه كذباً، أكرم أباك وأمك ليطول عمرك في الأرض التي يعطيكها الرب إلهك. لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد على صاحبك شهادة زور». فالبقاعي هنا يورد هذه الوصايا ليقول لنا من يردها؟ ومن لا يقول: إنها من الله تعالى؟ فلا المسلم العادي ولا العالم يرفض كونها من الله تعالى؛ فهي بدعوتها إلى الوحدانية والورع والتقوى أقوى دليل على أنها من الله.
وفي معرض تفسيره للآيات 151 ـ 153 من سورة الأنعام وهي لنذكر القارئ، تقول: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾.يقول البقاعي: إن هذه الآيات الثلاث هي بمثابة الكلمات العشر من التوراة وافية بها، جاعلاً هناك تماهياً بين آيات القرآن والوصايا العشر. ثم يقوم البقاعي بإجراء معادلة بين الوصايا العشر في التوراة وبين الفاتحة فيقول: «فذلكم وصاكم به كما وصى بني إسرائيل في الفصل الذي نِسْبته من التوراة كنسبة أم القرآن من القرآن، وذلك هي الآيات العشر التي هي أول ما كتبه الله لموسى (ع) ، وهي أول التوراة في الحقيقة؛ لأنها أول الأحكام، وما قبلها فهو قصص، وحاصل هذه العشر آيات: الربُّ إلهك الذي أصعدك من أرض مصر من العبودية والرق لا يكونن لك إله غيري، لا تُقسم باسمي كذباً، احفظ يوم السبت، أكرم والديك، لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد بالزور، لا تمدّن عينيك إلى ما في أيدي الناس. فالمعنى: ذلك وصيناكم به كما وصينا بني إسرائيل به في العشر الآيات وبعض ما آتينا موسى من التوراة». فنرى هنا أن البقاعي يرى أن هناك دلالة في القرآن إلى الوصايا العشر الموسوية. ثم يقدّم تأويلاً آخر، فيتابع «ويجوز أن يكون التقدير: لكون هذه الآيات محكمة في كل الشرائع لم تنسخ في أُمة من الأُمم ولا تنسخ، وصاكم به يا بني آدم في الزمن الأقدم، ولم يزدد الأمر بها في التوصية إلا شدة». فالبقاعي هنا يقول: إن هناك أسساً أخلاقية قانونية عالمية إنسانية تشترك فيها جميع الرسالات النبوية إلى جانب التوحيد، وهي هذه الكلمات العشر التي لم تنسخ ولا تنسخ. وهو في هذا القول يرى أن أم القرآن هي كأم التوراة. ويضيف البقاعي: كما أن القرآن؛ تفصيل لأم القرآن؛ أي سورة الفاتحة، فكذلك التوراة تفصيل للوصايا العشر، فيقول: «كما أن القرآن تفصيل لكل شيءٍ من الجوامع السبع التي حوتها أم القرآن الحاوية لمصالح الدارين»، كذلك التوراة هي تفصيل للوصايا العشر.
ويعود البقاعي إلى الوصايا العشر في معرض تفسيره للآية 145 من سورة الأعراف التي نصها: ﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ﴾. فيقول البقاعي معلّقاً على هذه الآية: « أي: بعظمتنا عرّفها لعظمتها تنبيهاً على أنها لجلالة ما اختصت به كأنها المختصة بهذا الاسم، وأعظم من هذا جعل قلب النبي الأُمي لوحاً قابلاً لما يلقى اليه جامعاً لعلوم الأولين والآخرين. أي يحتاجه بنو إسرائيل، وذلك هو العشر الآيات التي نسبتها إلى التوراة كنسبة الفاتحة إلى القرآن؛ ففيها أصول الدين وأصول الأحكام والتذكير بالنعم والأمر بالزهد والورع ولزوم محاسن الأعمال والبعد عن مساوئها، ولذا قال مبدلاً: أي على وجازتها بما كانت سبباً لكل شيء؛ أي لأنها مع كونها أُمهات وجوامع مفصلة ترجع إليها بحور العلم وتنشق منها ينابيعها».
البقاعي بهذه المقارنة بين الفاتحة والوصايا العشر يشرح أهمية الوصايا العشر، ويقرب من فهم المسلمين تعاليم اليهودية، ويقارب لهم أهميتها لليهود وللمسلمين. فالقرآن يدل على هذه الوصايا، والقرآن يحوي الوصايا، وهناك علاقة وثيقة بين الوصايا والفاتحة. والبقاعي يرى أيضاً في الجملة الأخيرة من هذه الآية: إنها ترمز إلى ما يعدّه «بدائع من التوراة»، فيقوم بنقل قطعة كبيرة جداً من سفر التثنية من الفصل الثامن حتى منتصف الفصل الحادي عشر (إلى الآية 9). وكأن القرآن يرمز بقليله إلى كثير التوراة. إن هذا النقل من التوراة هو لإظهار الترابط بين ما يوحيه الله من القرآن وما أوحاه في التوراة.
ان هذه الأمثلة هي قليل مما يوجد في هذا التفسير الضخم، الذي يعد مفخرة للمسلمين في انفتاحهم وتقرّبهم إلى الأديان الأخرى. فالبقاعي قد قام بنقل الكثير من التوراة وعرف به المسلمين، واستعمله لتفسير الكثير من جوامع القرآن. والمثل الأخير الذي أشير اليه في هذه العجالة هو تفسير البقاعي للآيتين 175 ـ 176 من سورة الأعراف، وهاتان الآيتان اعتبرهما المفسرون على أنهما تلميح لقصة بلعام بن باعوراء. وفي العادة ما يقوم علماء التفسير بسرد هذه القصة اعتماداً على الإسرائيليات، ولكن البقاعي قرر عدم ذكر القصة المتوارثة بين المسلمين وقام بنقلها مباشرة من التوراة من سفر العدد 22 ـ 24، متخلياً بذلك عن الاعراف التفسيرية بين المفسرين المسلمين وراجعاً بالقصة إلى أصولها التوراتية.
كتاب الأقوال القويمة لحكم النقل من الكتب القديمة
إن اعتماد البقاعي على التوراة والإنجيل لتفسير بعض آيات القرآن أثار كما أوردت لغطاً كبيراً في أوساط بعض العلماء في القاهرة، وكان السخاوي رأس من قاد الحملة على البقاعي، وكتب رسالة في تحريم النقل من الكتب القديمة. ولكن البقاعي قام بحملة مضادة للدفاع عن نفسه جنّد فيها أهم قضاة مصر في زمنه، وحشداً كبيراً من العلماء الذين كتبوا فتاوى دفاعاً عنه. ولقد قام البقاعي بجمع هذه الفتاوى وضمها إلى كتابه الذي أراد منه أن يبرهن أن الشريعة الإسلامية قد سمحت بالنقل عن اليهود. ولقد قمت كما ذكرت بإصدار تحقيق علمي للكتاب، ونشرته مع مقدمة مستفيضة تتحدّث عن الكتاب وأهميته. وسوف تصدر نسخة أخرى من الكتاب من دار نشر عربية ليصبح في متناول الجميع.
وكتاب الأقوال القويمة يعدّ أهم مراجعة لمكانة كتب أهل الكتاب من المنظور الإسلامي. والكتاب جمع معظم ما كتب عن التحريف وعن حكم وقراءة كتب أهل الكتاب. إنه يعدُّ أيضاً أكبر مصدر لتاريخ التعامل الإسلامي مع التوراة والإنجيل. والكتاب مؤلف من ديباجة ومقدمة وثمانية فصول وخاتمة طويلة. والخاتمة نفسها منقسمة إلى قسمين كبيرين. قسم يدافع فيه البقاعي عن تفسيره كتفسير لم يسبق إليه، والقسم الثاني يقوم بمقابلة بين تفسير البقاعي لسورة الكوثر وتفسير ابن النقيب.
ففي الديباجة يخبرنا البقاعي أنه كان عرضة لتهجم زملائه من فقهاء الشافعية؛ لأنهم كانوا مصابين بداء الحسد. ويخبرنا البقاعي أنه أحوج إلى تصنيفه «وقد كان الزمان غنيّاً عنه بعد ما مرّت دهور وهي خالية منه. وما صنع لأجله قد صنع مثله في كتب الأئمة وسلف الأُمة. أحوجني إليه من قعدت به الرتبة السنية والهمة العلية فصار يعلي نفسه بالغض من الأفاضل والرفع من الأرذال والأسافل. فصنعت هذا الكتاب لحزم ما زوره من الحساب وقرره من التكذاب وقدره من فظيع الارتكاب». فالبقاعي سيبني دفاعه عن النقل من الكتب القديمة على أدلة من القرآن والسُّنَّة، ولأن كل عالم قبله قد قام بالنقل منها في كتبه.
وفي المقدمة يصور البقاعي نفسه أنه عالم ذائع الصيت عالم له مكانته، وأن أعداءه أناس «لم يشتهر أحد منهم عند الناس بديانة ولا أمر بمعروفٍ ولا نهي عن المنكر في وقت من الأوقات ولا عفة ولا أمانة». والبقاعي يتهم هؤلاء الأعداء بأن لا باع لهم في العلم، «وليس له من التمكن في الفضائل ما يفهم به مقاصد الكتاب»، ويعني بالكتاب تفسيره الضخم. والبقاعي يتهم أعداءه أنهم لا يجرؤون على نشر كتاباتهم «وأما ما أكتبه أنا فمع الناس لا يتحاشى من إظهاره لأحد من الناس». وهؤلاء الأعداء لا هَمّ لهم إلا معارضته لغرض المعارضة لا دفاعاً عن حق أو دين. والبقاعي كان يريد أن يناظر معارضيه؛ لكنهم رفضوا طلبه، «وكانوا كلما طلب منهم الاجتماع مع أحد من جماعتي للكلام معهم في بيان الحق في ذلك حادوا ومالوا عن ذلك وماروا. فعلم كل ذي عقل أنهم على باطل، لا يستندون في قولهم ذلك إلى عقل ولا نقل؛ بل لا يقول بقولهم إلا متهم على دين الإسلام متعصب لبعض طوائف الكفار». والدليل الأكبر الذي يورده البقاعي في كتابه في الدفاع عن منهجه هو في الفصل الأول من كتابه، حيث يورد كلام مشايخ الإسلام في تفسيره «نظم الدرر» مدحاً وافتاءً. ويورد البقاعي فتاوى من 14 عالماً كل منهم كان علماً ومقصداً في القاهرة، ومن بين هؤلاء قاضي القضاة لكل من الشافعية والحنفية والحنبلية والمالكية في القاهرة المملوكية، مبيّناً بذلك أنه مؤيد من أهم القضاة في البلاد، وهؤلاء الأربعة كانوا أهم من يمكنه أن يصدر فتاوى، وأن يحكم على عدل وعلم وشرعية عالم آخر. ولكن أهم من دافع عن البقاعي كان الكافياجي، سليمان بن محمد (ت: 879هـ/1474م)، وكان من أهم علماء القاهرة وأكثرهم علماً وفضلاً. والكافياجي يدافع دفاعاً مسهباً عن البقاعي في معرض فتوى مفصلة يشرح فيها لماذا كان أسلوب البقاعي في النقل من الكتب القديمة عملاً شرعياً بل عملاً يندب إليه. ويخلص الكافياجي إلى القول: «والحاصل أن نقل سفر من أسفار التوراة والإنجيل وغيرهما على ما ذكرنا جائز شرعاً لا شبهة قادحة فيه وإن كانت منقدحة في الأوهام». وكيف يرفض هذا المنهج وقد روي عن النبي (ص) «بلغوا عني ولو آية وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج». ثم يضيف: إن أهل التحقيق من المحدثين قالوا «في بيان هذا الحديث: المراد منه ههنا هو التحديث عنهم بالقصص والحكايات؛ لأن في ذلك عبرة وعظة لأولي الألباب». والكافياجي يرى «أن نقل شيء من التوراة والإنجيل أو غيرهما يجوز في التأليفات في هذا الزمان لغرض من الأغراض المعتبرة كالاعتبار والاتعاظ، وإن لم يجز الاستدلال بها على الأحكام والأصول على ما نصَّ به العلماء في الكتب». فالكتب القديمة نوردها للاعتبار وللقصص. والكافياجي يذكّر القارئ أن البيضاوي قد نقل عن الإنجيل في معرض تفسيره لقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ ﴾ [البقرة: 26] فقال البيضاوي: «مثّل في الإنجيل غلّ الصدور بالنخالة، والقلوب القاسية بالحصاة، ومخاطبة السفهاء بإثارة الزنابير»، ثم يعود الكافياجي ليقول إن مثل هذا موجود في كتب التفاسير كالكشاف للزمخشري، والتفسير الكبير للرازي، وفي كتب الحديث كصحيح البخاري وغيرها من الكتب. والنقل عن كتب أهل الكتاب وقع أيضاً في كتب الكلام ككتاب الصحائف والمواقف وفي كتب أصول الفقه ككتاب البزدوي.
إن الحجة الأكثر إثارة للانتباه التي أوردها الكافياجي دفاعاً عن النقل من الكتب القديمة هي حجة الإجماع السكوتي، وهي مقولة أن المسلمين الآن بكافتهم تقوم بهذا العمل وهذا أكبر دليل أن المسلمين أجمعوا على هذا العمل فيقول: «إن نقل القصص والأخبار من التوراة وغيرها قد شاع بين الناس شيوعاً لا خفاء فيه، فقد حلّ محلّ الإجماع السكوتي. ولهذا وقع كثيراً في كتب السلف بلا إنكار عليه، كما وقع في هذا العصر في هذا التأليف المسمى بنظم الدرر في تناسب الآيات والسور». والكافياجي يورد ما يوحي أن المتهجمين على البقاعي كانوا يعتمدون على حجج كلامية، والكافياجي يرى في هذا تطاولاً من المتكلمين على شرع الله؛ لأن الشرع يشرعه الفقهاء وليس المتكلمين فيقول: «فإن قلت فكيف تقبل هذه الدعوى منك ههنا وقد ذكر في بعض كتب علم الكلام أن الكتب السماوية قد نسخت تلاوتها وكتابتها؟ قلت لا استبعاد ههنا على ما ذكرنا فيما قبل من التفصيل والتحرير فيحمل على ما ذكرنا ههنا على نسخ كتابة التوراة الدالة على الأحكام المناقضة لأحكام شريعتنا لا على نسخ كتابة التوراة الخالية من الدلالة عليها. فيحصل الجمع بينهما على ما ترى. وأنت تعلم أن العمدة والمدار في أمثال هذا إنما هو قول الفقهاء المحققين لا قول المتكلمين؛ لما تقرر أن صاحب البيت أدرى بما فيه».
والبقاعي يقوم في الفصل الثالث بإيراد جميع الأحاديث الدالة على أن النبي (ص) قد أباح قراءة كتب اليهود، فيورد حديث الزنا، حين جاء اليهود إلى النبي يحتكمون إليه في قصاص الزاني والزانية، فأمرهم النبي أن يحكموا بما في التوراة من الرجم، وأمر بإحضار نسخة من التوراة. وللحديث روايات متعددة يذكرها البقاعي. لكن الخبر الأهم الذي يعتمده البقاعي يبقى حديث: «حدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج». والفصل الخامس يكرسه البقاعي لكتب الفقه والأقوال الواردة هناك التي قد توحي أن النقل من الكتب القديمة كان مكروهاً. وهو في نظري أهم فصل في الكتاب؛ لأنه واضح أن الحكم الشرعي المتوارث كان يوحي بعدم السماح بتناول هذه الكتب وتركها وشأنها في يد اليهود والمسيحيين. والبقاعي عليه أن يواجه هذا التورع في الكتب الفقهية من درسِ أو قراءةِ كتب أهل الأديان الأخرى. والواضح ان البقاعي كان يريد أن يفتح الباب أمام علماء المسلمين لدراسة وقراءة الكتب القديمة. وهو يرفض قول من قال: إن من أسلم من أهل الكتاب هم أولى بإخبارنا عن كتب ملتهم التي كانوا عليها. فهو يرى أن الراسخين بالعلم من علماء المسلمين هم أقدر وأجدر من غيرهم بقراءة هذه الكتب.
والفصل السادس يورد سرداً مفصلاً لكل كتاب في التراث الإسلامي نقل نقولاً عن كتب أهل الكتاب، وهو يمثل وثيقة تاريخية لما كان منتشراً في القاهرة وبين أيدي العلماء في القرن التاسع من التراث الإسلامي. ويبلغ مجموع الكتب المذكورة في هذا الكتاب للبقاعي 111 كتاباً، وهو عدد ضخم من الكتب في رسالة قصيرة كهذه. إن أهمية كتاب البقاعي إذن ليست فقط في موضعها ولكن أيضاً بأنها توثق لنا مكتبة صغيرة من الكتب التي كانت متوافرة في القاهرة. انه لمن المستحب أن نعيد بناء ما كان موجوداً من الكتب لدى البقاعي للتعرف على عالمه. والفصل الثامن من الأقوال القويمة في حكم النقل من الكتب القديمة هو بحث فيما بدل في الكتب القديمة. وهو فصل كنا نتوقع أن يبدأ البقاعي به كتابه، ولكن تأخيره إلى آخر الرسالة كان لكي يبرهن البقاعي هذه القاعدة: إن أي عالم مسلم يستطيع أن يستخدم كتب أهل الكتاب إن أصبح عالماً في هذه الكتب، فالعالم بهذه الكتب هو من يستطيع أن يحكم عليها وأن يستعملها. وأن لا شيء في هذه الكتب محرم على المسلمين، فجميع ما في الكتب هو مادة للبحث والحكم، ولا حكم بلا دراية بها. إن البقاعي في آخر الأمر لا يرى أن الشرع يقف عائقاً أمام أي عالم مسلم يريد البحث والدرس والقراءة.
المصادر:
وأورد هنا أهم ما كتب البقاعي وأهم الدراسات عنه:
إن أهم مصدر لمؤلفات البقاعي هو فهرسة كتب البقاعي التي طُبعت في السعودية بعنوان: «فهرست مصنفات البقاعي عن نسخة منقولة من خطه»، تحقيق محمد الإصلاحي (الرياض، 2005).
أهم مؤلفات البقاعي المطبوعة:
نظم الدرر في تناسب الآيات والسور (الهند، حيدرآباد، 1969 ـ 1984) 22 مجلداً. أُعيد تصويرها في القاهرة، وسُرقت في بيروت.
النكت الوافية بما في شرح الألفية، تحقيق ماهر الفحل (الرياض، 2007) مجلدان.
عنوان الزمان بتراجم الشيوخ والأقران، تحقيق حسن الحبشي (القاهرة، 2004) 5 مجلدات.
مصاعد النظر للإشراف على مقاصد السور، تحقيق عبد السامي حسين (الرياض، 1987) 3 مجلدات.
إظهار العصر لأسرار أهل العصر، تحقيق محمد العوفي (الرياض، 1992) 3 مجلدات، وهو تحقيق ناقص؛ لأن المخطوطة مسودة بخط البقاعي، وهو لم يبيضها، ولذلك هي ملأى بالحواشي والزيادات التي لم يحققها المحقق.
الأقوال القويمة في حكم النقل من الكتب القديمة، تحقيق وليد أحمد صالح (ليدن، بريل، 2008) وهي تحت العنوان الآتي بالانجليزيية:
-
In Defense of the Bible: A critical Edition and an Introduction to Al-Biq`i’s Bible Treatise
أهم الدراسات عن البقاعي:
تحوي كل من هذه الكتب المحققة أعلاه ترجمات للبقاعي، وهي ـ مع إسهابها ـ لا تعي عمق أهمية البقاعي، وهي لا تهتم بما كُتب في الغرب عن البقاعي. إن عدم تواصل الأكاديميين العرب مع المنتوج الغربي عن الإسلام وعلمائه لهو مشكلة المشاكل في الأكاديمية العربية.
عن فتنة التوراة والانجيل انظر هذه الكتابات بالانجليزية:
-
Walid A. Saleh, «A Fifteenth-CenturyMuslim Hebraist: Al-Biqai’s Bible Treatise and His Defence of Using the Bible to Interpret the Qur’an,» Speculum, 83 (2008): 629-54,
-
Id. «Sublime in Its Style, Exquisite in Its Tenderness:’ The Hebrew Bible Quotations in al-Biqai’s Qur’an Commentary,» in Adaptations and Innovations, ed. Tzvi Langermann and Joseph Stern, Paris, 2007, 331-47.
-
Id.In Defense of the Bible: A Critical Edition and an Introduction to al-Biqāʻī’s Bible Treatise, Leiden, 2008, 1-48.
عن فتنة ابن الفارض انظر:
Th. Emil Homerin, From Arab Poet to Muslim Saint: Ibn al-Fāriḍ, His Verse, and His Shrine, Columbia, 1994, 55-75.
عن فتنة الغزالي انظر:
Eric L. Ormsby, Theodicy in Islamic Thought: The Dispute over al-Ghazālī’s «Best of All Possible Worlds», Princeton, 1984, 135-60.
عن تهجمه على ابن العربي انظر:
Alexander D. Knysh, InbʻArabī in the Later Islamic Tradition: The Making of a Polemical Image in Medieval Islam, Albany, 1999, 209-23.
عن البقاعي كمؤرخ انظر:
Li Guo, «Al-Biqā’ī’s Chronicle: A Fifteenth Century Learned Man’s Reflection on his Time and World,» in The Historiography of Islamic Egypt (C. 950‑1800), Hugh Kennedy, ed., Leiden, 2001, 121-48.
Id. «Tales of a Medieval Cairene Harem: Domestic Life in al-Biqā’ī’s Autobiographical Chronicle,» Mamlūk Studies Review, 9, no. 1 (2005), 101-21.
ولقد ذكر مؤلف البقاعي عن الحب العذري في كتاب:
Lois Anita GiffenوTheory of Profane Love Among the Arabs: The Development of the Genre (Albany, 1971), pp. 41-42.
عن منهج البقاعي في التفسير انظر:
مشهور مشاهرة، التناسب القرآني عند الإمام البقاعي: دراسة بلاغية (الأردن، 2001).
محمود سعد، الإمام البقاعي: جهاده ومنهاج تأويله بلاغة القرآن الكريم (القاهرة، 2002).
وهناك كتاب في اللغة التركية
Necati Kara, BİKÂÎ veTefsîrįndekįMetodu, Van, 1994.