إفشاء السلام والإسلام

زينب الكلبانية

تحدث الكاتب عبدالحميد عشاق في مقاله المنشور بمجلة التفاهم بعنوان: "بذل السلام للعالم...رؤية فقهية مقاصدية" عن القراءة الواعية لمجمل الأحداث التي يشهدها العالم الإسلامي والعربي منذ سنوات، وما رافقها من تدافع وصراع خارجين عن سنن العقل والحكمة، وقواعد العيش المشترك.وأكد أن الحاجة ماسة أكثر من أي وقت مضى إلى الاهتمام بقضايا ثلاث وبحثها:

أولاها: التنويه بالمنظور الإسلامي للسلم من حيث أبعاده المحلية والكونية، كما أصلته نصوص الوحي المبارك ومثلته سيرة المصطفى، ابتغاء بيان حقيقة هذا المنظور، وإزالة ما لحقه من غبش وغموض.وثانيتها: بيان أولوية مقصد السّلم في سُلّم المقاصد الشرعية على أساس كونه الباب الواسع لحفظ سائر المقاصد الكلية التي ينشدها الناس. وثالثتها: تحديد آليات حفظ السّلم على الصعيد الداخلي والخارجي، وهذا من القضايا العملية المهمة الجديرة بعناية الباحثين والدارسين؛ ذلك أن بناء الدولة والحفاظ على تماسكها واستقرارها يتم بالمحافظة على أمنها الداخلي والخارجي؛ فالأول يحميها من الثارات والحروب الأهلية، وهذا يقتضي الاهتمام بمصالح مواطنيها، وصون حقوقهم، وترسيخ مبادئ الانتماء والعدالة والإنصاف. والثاني يحميها من عواقب العدوان الخارجي، وغوائل الحروب العبثية المدمرة، وهذا يقتضي بناء علاقات متينة مع سائر الدول عن طريق العهود والاتفاقات البينية، وعقود التبادل الثقافي والاقتصادي، وتوسيع دوائر الدبلوماسية والشراكة الاستراتيجية.

إن المنظور الإسلامي للسلم هو من عزائم الأحكام في الإسلام لأنّ الأصل في العلاقة بين الأفراد والجماعات هو السلم والرضا والاختيار والتعاون، وهو أصل كُلي لا يجوز العدول عنه أو الخروج عليه إلا في حالات مخصوصة وفق ميزان الضرورة الملتجئة، وهذا ما تعضده نصوص القرآن المجيد والسنة النبوية.

عندما نتتبع مفهوم السلم في القرآن يتبين لنا أنه مفهوم شامل ومتكامل، فالإسلام ينشد السلام في صلة الفرد بنفسه، وصلته بالجماعة من حوله، وصلته بالموجودات وسائر الكائنات، كما ينشده في العلاقات بين الشعوب والأمم. وتبعا للنظرة الكلية للتصرف النبوي التشريعي، نجد أنه كان يغلب دائما خيار السلم على خيار الحرب، وبناء على ذلك استنتج ابن تيمية قاعدة كلية بديعة بقوله: "وكانت سيرته أن كل من هادنه من الكفار لا يقاتله، وهذه كتب السيرة والحديث والتفسير والفقه والمغازي تنطق بهذا، وهذا متواتر من سيرته، فهو لم يبدأ أحدا من الكفار بقتال".

تابع عبدالحميد عشاق حديثه عن الحديث عن أولوية مقصد السلم في سلّم المقاصد، وأن السلم مقصد أعلى من التشريع وهو حاضنة الكليات الخمس من مقاصد الشريعة، وهذا ما نبّه إليه الشيخ محمد الطاهر في تقسيمه المصالح باعتبار تعلقها بعموم الأمة أو جماعاتها أو أفرادها إلى كلية وجزئية، ومثّل لما يعود على جميع الأمة بحماية البيضة، وحفظ الجماعة من التفرق والتنازع والاختلاف، وحفظ الدين من الزوال، وحماية الحرمين، وحفظ القرآن من اندراس الحفظة.

ويمكن القول: إن السلم باعتبار تعلقه بحفظ النظام وتأمين معايش الناس، هو أول مقاصد الشريعة على صعيد النظام الاجتماعي العام؛ إذ لا يتصور تحقيق مقصد آخر كالعدالة والحرية والكرامة والمساواة والتنمية إلا ببسط الأمن ونشر لوائه، فمن هذا الوجه قُدّم هذا الحق على سائر الحقوق لتعلقه بعموم الأمة، وأولوية حقها في الحياة – الذي هو من أخطر الحقوق – والكون في معايشها آمنة مطمئنة.

غير أن السلم لا يشتد عوده إلا في حصون العدالة، وكذلك العكس، فبينهما تلازم مستمر طردا وعكسا؛ أي كلما امتد سلطان العدل امتد ظل السلم، وكلما تقلص سلطان العدل تراجع ظل السلم، وتفتقت مكانه ثغرات الخلل والهرج. وعليه، فإن المس بهذا المقصد مس بالقوام الضروري الذي يختل به نظام الحياة العام، ويتسبب في زعزعة الاستقرار وترويع الآمنين، وهذا أمر تعدّه الشريعة حرابة وإفسادا في الأرض يستوجب أشد العقوبة.

وأضاف الكاتب حديثه عن وسائل وآليات حفظ السلم، وذلك بالتأمل في الهدي النبوي إذ يتبين أن أهم الوسائل والآليات التي تنجع في بناء السلم ونشره واستتبابه هو العمل على عقد اتفاقيات الأمن والسلم الاجتماعي، والتعاهد على احترامها وصونها من مختلف النقوض الواقعة أو المتوقعة.

إن أول ما سمعه الناس من النطق النبوي الشريف في المدينة قوله: "أيها الناس؛ أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا الأرحام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام". ففي هذا الخطاب النبوي إعلان عن المعالم الكبرى للدين، ومقاصده العالية التي كان السلم أبرز أصولها، وأظهر سماتها، بدلالة تعلق ثلاثة أرباع الدين بالعمل الصالح المتعدي النفع، ولا يخفى وجه إسهام ذلك في تحقيق السلم الأهلي أو الداخلي.

وأما آليات السلم الخارجي فهي عن طريق عقد المعاهدات، وهي الاتفاقات أو العهود أو المواثيق التي تبرمها الدولة المسلمة مع غيرها من الدول في حالي السلم والحرب، وتسمى المعاهدة في ظروف الحرب موادعة أو مصالحة أو مسالمة، يُقرر بمقتضاها الصلح على ترك الحرب.

وإذا كان الإسلام ينطلق من أن الأصل في العلاقات العامة السلم، فإن حال النزاع والحرب أمر طارئ يجب دفعه بأي وسيلة، ومن أنجع تلك الوسائل وسيلة الصلح. وقد أثبتت المواثيق والمعاهدات قدرتها على نشر السلم وتثبيته وبسطه، وهذا ما شهد به غير واحد؛ ومنهم المستشرق توماس أرنولد في كتابه "الدعوة إلى الإسلام"، حيث لاحظ أن أهم فترة انتشر فيها الإسلام هي فترة السلم التي تلت صلح الحديبية بين قريش والمسلمين، وأن من دخل الإسلام خلال تلك الفترة – التي دامت سنتين – أكثر ممن دخله في المدة التي تقارب من عشرين عاما منذ بزوغ الإسلام حتى ذلك الصلح.

ختاما، إن عقد المعاهدات من الأمور التي مهدت للدولة النبوية الفتية سبيل التغلغل في شبه جزيرة العرب، فإن المسلمين ما كان لهم أن ينشروا الدعوة نحو اليمن ونحو الشام لولا أن جنابهم أصبح آمنا بفضل مصالحة جيرانهم من عرب الجزيرة وقبائلها.

وإن عظمة النبي بدت في إمضاء المعاهدات والمواثيق الكثيرة، وإدارته الحكيمة لمختلف الأزمات والنزاعات، وتعامله بحنكة وبصيرة مع التقاليد والقواعد العرفية العربية؛ كالجوار والانتماء، ومراعاة حرمة المواقيت الزمانية والمكانية، وبعث الرسل والكتب، فكل ذلك وغيره انتهجه النبي واستثمره استثمارا رائعا في التمكين لمشروعه السلمي داخل المجتمع الجديد.

إن التجربة النبوية الفذة في بناء المجتمع والدولة في علاقاتها الداخلية والخارجية استطاعت أن تلفت الأنظار إلى نموذج جديد في رؤية العالم، والتعامل مع شؤونه، وتنظيم علائق شعوبه وقبائله على أساس التعاون على البر والتقوى، وعدم التعاون على الإثم والعدوان.

فالفتوحات الإسلامية لم تكن – في مرامها وروحها – إلا مشروعا لتحرير المجتمعات من جور القوى الإمبراطورية التي كانت تستمرئ شن حروبها العبثية المدمرة على الأقاليم المجاورة. وعندما نقف على الظروف الموضوعية لدخول الشعوب في الإسلام في البلاد المفتوحة بالجهاد وفي غيرها، فإننا نلحظ أمرين:

  1. وجود كثير من غير المسلمين في البلاد الإسلامية، من دون أن يتعرضوا لأي اضطهاد في عقيدتهم من قبل السلطة السياسية أو من قبل آحاد الناس، مما يدل على أن الإكراه على دخول في الإسلام لم يكن مبدأ للفتوحات، سواء كان على صعيد السلطة، أو على صعيد المجتمع.
  2. وجود أكثريات إسلامية في المناطق التي لم يدخلها الفتح الإسلامي، أو التي دخلها ولم يستطع أن يؤثر فيها إلا بعد وقت طويل، مما يوحي بأن سلطة الكلمة والحوار، لا سلطة القوة القاهرة هي التي أسهمت في انتشار الإسلام في العالم من خلال المسؤولية الفكرية والقناعة الإيمانية بعقائده وشرائعه.

أخبار ذات صلة