الدعوة إلى الوحدة

رية الخزيرية

إنَّ الله دعا إلى الوحدة كما دعا إلى التوحيد؛ وذلك لما في الوحدة من أهمية بالغة تتمثل في التكاملية والعيش بطمأنينة وإلفة ومحبة وسرور وسعادة بالغة، وما في نقيضها من سبب للتشتت والضياع ودثار الريح؛ إذ لا خير فيمن لا يألف ولا يُؤلف.

وفي مقال "الإيلاف والائتلاف والمؤتلف الإنساني: الأسرار اللغوية والرؤية القرآنية والأبعاد الحضارية"، والمنشور بمجلة "التفاهم"، يسلط الكاتب فيصل الحفيان الضوءَ في مقدمته على دلالات ومعاني الكلمات الثلاث (الإيلاف والائتلاف والمؤتلف)، ومشتقاتها، مع الإشارة إلى قيمة هذه الكلمات اللغوية والحضارية ومدى تأثيرها على سير الركب الحضاري البشري.

وبيَّن الكاتب معنى هذه الكلمات على ما ورد في المعاجم اللغوية، وكما هو شأن الكلمات العربية في تميزها بحمل معانٍ كثيرة في بطونها يفسرها ويبينها السياق الذي تكون مسكنة فيه؛ فإن هذه الكلمات الثلاث كذلك لها معانٍ كثيرة يتأتى فهمها حين توضع في سياقها المناسب لها.

وأوضَح الكاتب أنَّ معنى كلمة الإيلاف المرادة في مقاله هي المحبة، والائتلاف هو الاجتهاد في القيام بالألفة، أما المؤتلف فيعرف على أنه الشيء الذي يؤتلف به أو يجتمع حوله ويراد به المشترك. أتفق مع ما قاله الكاتب؛ إذ الإيلاف بالرغم من دلالاته المتعددة كالرحمة والمودة والمحبة، فإنه يحتاج إلى من يجتهد في سبيل تحقيقه ومن هنا تتصدر كلمة الائتلاف لتقوم بدورها، وبعدها تأتي كلمة المؤتلف التي تحمل في طياتها القاسم المشترك ونُعتت بالإنسانية كون الكاتب يريد بمقاله أن يطال الكائن البشري في المقام الأول.

وانتقل الكاتب بعد ذلك إلى الحديث عن الأبعاد اللغوية لجذر الكلمات الثلاث (ألف)، وبين أنه يدور حول معنيين وهما الاعتياد والدرس والتعلم، وهذا ما يتضح عندما نقول ألفت الشيء أي اعتدت عليه. وناقش الكاتب بعدها أقوال العلماء واللغويين التي وردت في هذا الشأن (معنى كلمة ألف) بشكل مستفيض، وحاول جاهدًا تفنيد ما أوردوه من معانٍ -كالصلح والمصالحة والاتفاق والمشابهة والمماثلة والاجتماع والمودة والمحبة والانضمام... وغيرها- كما حاول التوفيق بين كل هذه المعاني للخروج بما يكون معنى شاملاً وافيًا يكون له صدى في تحقيق الغاية المنشودة من كتابة المقال، وهي الوصول إلى سبل تحقيق الألفة والمودة بين المجتمعات البشرية. وأوضح الكاتب أنه مهما اختلفت تلك المعاني المسطرة، فإنها تقترب أحيانا وتبتعد أحيانا أخرى، لكنها ورغم ذلك تسجل إضافة جديدة، وهذا ما أتفق فيه مع الكاتب؛ إذ إنَّ كل لغوي متبحِّر في اللغة ينظر إلى معاني الكلمة من زاوية مختلفة ربما لو شرح أسباب تفسيرها بذلك لكانت أقرب للصواب حينما يبين المبررات بشكل واضح ومناسب.

وبين الكاتب أن المشهد اللغوي يتسع اتساعًا كبيرًا في تفسير أصل الكلمة (ألف)، ويبين أنها تحمل في طياتها معاني الوصل والاستمالة والمداراة والمقاربة واللزوم والاستجارة والإجارة والأمان والعهد والحب. ومن وجهة نظري أنَّ كل هذه المعاني التي أوردها الكاتب تنصب في بوتقة واحدة تخدم العلاقات الإنسانية لتحقيق سبل العيش في وئام والتئام بغض النظر عن الاختلافات الثقافية والعرقية والدينية، وكل ما من شأنه أن يجرح هذا المصطلح.

وانتقل الكاتب بعدها إلى الاستعانة بالكيان اللغوي الثابت الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ وذلك ليكون داعمًا وخادمًا لنا للوصول إلى فهم أعمق وأوضح. ألا وإن ذلك الكيان اللغوي هو القرآن الكريم.

وتبيَّن أنَّ القرآن الكريم استخدم المشتقات من كلمة الائتلاف في كثير من سوره، وكانت تلك الاستخدامات في تلك المواضع المختلفة من السور تحوي معاني عديدة؛ فتارة تشير الآية إلى الإلفة والتأليف كما في قوله تعالى: "فألف بين قلوبكم"، وأخرى تشير إلى البقاء كما قال تعالى: "لإيلاف قريش"؛ أي أنهم بقوا واستمروا في رحلتيهم إلى الشام وإلى مكة، ومرة تشير الآية إلى معنى النعمة كما في الآية السابقة؛ فاستمرار قريش في رحلتهم في الشتاء والصيف مع توفر الأمن والأمان نعمة من الله عظيمة.

وإضافة لهذه المعاني، نجد أنَّ بعض الآيات تشير إلى معنى تأليف قلوب حديثي الإيمان واستمالتهم كما في قوله تعالى: "والمؤلفة قلوبهم".

وبعد هذا العطاء الجزل من الكاتب لمعاني الإيلاف والائتلاف والمؤتلف الإنساني، ختم المقال بالحديث عن الأبعاد الحضارية لهذه الكلمات ومدى تأثيرها في تأسيس الحضارات وتماسكها وقدرتها على تقبل الطرف الآخر.

فالائتلاف بين المجموعات البشرية هو مطلب دنيوي وديني؛ إذ إن المجموعات البشرية لا تخلو البتة من وجود ما يكدر صفوها ويقض مضاجع منامها ويدكدك أركانها، ولكن لو أن الكائن البشري سعى جاهدا لتحقيق معاني الألفة ونظر في القواسم المشتركة بينه وبين غيره وحمل الاختلافات على أنها قوة وإضافة وإيجابية تدفع بعجلة ركب الحضارة إلى الأمام، وتصعد به إلى الأعلى، لكان ذلك أدعى للسلم والسكينة والراحة والتقدم.

والمنظُور الإسلامي تجاه الإلفة والائتلاف كان واضحًا جليًّا منذ باكورة عمره، فما أرسل الله الرسل وما بعث الأنبياء إلا ليرشدوا الناس ويبينوا لهم ما يختلفون فيه؛ لتكون القواسم المشتركة هي مبعث الطمأنينة في النفوس، وليكون للبشرية مرجعية يستندون إليها، ويتكئون بعصاهم عليها كلما اختلفوا أو أصابتهم نازلة من الممكن أن تحطم قدرة أمواجهم من جَوْب عُباب البحار.

فلو أنَّ كل فرد جعل المرجعية التي اختارها صانع الكون قدوة ومثالاً له، ينتهج نهجه ويسير على خطاه ويرتقب قوله ويلتزم أمره وينتهي نهيه ويسير على دربه ويرجع إليه في كل صغيرة وكبيرة، لكان ذلك أقرب إلى أن تتحد البشرية تحت مظلة قيادة واحدة عادلة مؤطرة بأطر السلم والعدالة والمساواة؛ فتسود المودة والمحبة، وتذوب الثلوج المتراكمة من الخلافات التي لا طائل منها ولا تجلب للبشرية سوى الشر والحرب الضروس التي تبدأ بصاحبها وتنتهي به.

أخبار ذات صلة