الإمام الطبري ومنهجه في التفسير

زينب الكلبانية

إنّ البحث في موضوع مصادر التأليف عند الطّبريّ (تـ.310 هـ/922 م.) بين الشّفوي والمكتوب مُتعلق بإشكالية المرجع في الثقافة العربية الإسلامية قديمًا، وهو بحث نروم منه التّعرّف إلى المواد المؤسّسة للتفسير القرآنيّ وطرق استثمارها فيه، فضلاً عن رصد أهم مواقف المؤلّف مما اطلع عليه من مصادر اطلاعاً مباشراً أو غير مباشر. وهنا نلخص مقالا للباحث بسّام الجمل نشره بمجلة التفاهم.

الذي أغرانا بالبحث في هذه القضيّة دواع عديدة، أهمّها:

أولا: أنّ «جامع البيان» يُمثل نقطة مُهمة في تاريخ التفسير القرآني، باعتباره أول تفسير كامل مدون وصلنا. ومن ثم، فهو يلخص جهوداً تفسيرية سابقة عليه، امتدت على ما يربو إلى قرنين من الزمان. ثانيا: يُعَدُّ الطبري أول من نظم مختلف مراحل التفسير في ضوء ما توفر لديه من مادة تفسيرية غزيرة، وهو اختيار منه أصبح بعده سُنَّة متّبعة عند غيره من المفسرين. وثالثا: يُعتبَر الطبري كذلك شاهدا على مرحلة تاريخية في الثقافة الإسلامية تجاورت فيه -على مستوى التأليف- المصادرُ الشفوية والمكتوبة، وهو تجاور بقي ينوس بين التحاور حيناً والتنازع حينا آخر.

من المعلوم أن الطور الأول من تاريخ الثقافة الإسلامية هو طور المُشافهة في نقل المعارف والعلوم، ومن ثمَّ كانت الذاكرة آلة أساسية يُعول عليها في تعهد المعرفة بالاستمرار، وصيانتها من الضياع والاندثار. وفي هذا السياق الثقافي راجت منذ النصف الثاني من القرن الأول الهجري آراء في التفسير القرآني منسوبة إلى عدد من الصحابة والتابعين، ويبدو أنَّ مجمل هذه الآراء تميزت بخصائص أهمها:

أولاً: إنها لم تصدر عن صاحبها وفق خطة منهجية أو تصور معرفي منظّم يرومان بناء علم إسلامي هو علم التفسير.

ثانيًا: إنها لم تفسر آيات المصحف كلها، ولذلك مهما نُسِب إلى ابن عباس مثلاً من أقوال في التفسير؛ فإنها لم تأت على جميع الآيات.

وثالثاً: إنها بقيت تتداول مشافهة إلى آخر القرن الثاني الهجري وبداية القرن الثالث إن لم نقُل بعده، وذلك لأسباب عديدة، منها أن حركة التدوين لم تبدأ إلا في منتصف القرن الثاني الهجري، ومنها نُدرة الورق وقتئذ وغلاء ثمن البردي. ومن البديهي أن تكون هذه الآراء عرضة لمُختلف ضروب التحول في بناها ومضامينها.

يمكن القول أن عصر الطبري هو عصر تعايش فيه الشفوي والمكتوب في مختلف فنون المعرفة (أخبار تاريخية، أخبار أدبية، روايات الحديث...). والظاهر في حضور الإسناد في توثيق مصادر تفسير الطبري أن ما تضمنه من أقوال متنزلة في أدبية المشافهة بإطلاق؛ إلا أن الحقيقة التاريخية – فيما نرى – خلافُ ذلك؛ فلئن كانت أطول تلك المصادر شفوية على نحو ما بينا سابقاً؛ فإن الطبري قد بنى تفسيره بالأساس على مصادر مكتوبة، طرأت عليها – وهي تنقل من راوٍ إلى آخر عبر الرواية الشفوية – أشكال من التغيّر والتّبدل مبنى ومعنى.

نعثر في كتب التراجم والطبقات على شهادات عديدة من مُعاصري الطبري دالة على كون الرجل دوّن كتبا برمتها من سماعه لشيوخه في الحديث والتفسير والأخبار، كما اعتمد الاستدلال من داخل نص التفسير، إذ يظهر هذا الاستدلال من خلال أمرين عمد إليهما الطبري في تفسيره، هما:

أولاً: المقارنة بين روايات أخبار أسباب النزول أو بين مختلف التأويلات المتعلقة بالآية الواحدة. ومعلوم أن المقارنة والاستدلال وإبداء الرأي يقتضي جميعها أن تكون تلك الأخبار مدونة عند المفسر، حتى يُعمل فيها نظره، ويتفحصها، ويخلص إلى موقف في شأنها.

ثانيا: إيراد الأخبار المطولة النازعة إلى الإسهاب، وخاصة في بابي قصص الأنبياء من ناحية، والسيرة والمغازي من ناحية أخرى. ومن البدهي أن تُفضي هذه الإطالة في بنية الروايات إلى وجود حبكة قصصية، تتجلى – أكثر ما تتجلى – في مقومات الفن القصصي من سرد وحوار وعلاقات بين الشخصيات وتدرج في الأحداث... إلخ؛ إذ نعثر في العديد من الأقوال على جزئيات الأحداث وتفاصيلها وعلى دقائق الوصف.

أما بالنسبة للمصادر المكتوبة، فإن الطبري استمد جانبا من مادة "جامع البيان" من مصادر مكتوبة في الأصل، وقد كان تعامله معها من إحدى الطريقتين: تعامل مباشر وتعامل غير مباشر.

التعامل المباشر: ونعني به اطلاع الطبري على مصادر في التفسير اطلاعا مباشرا، وبالإمكان البرهنة على هذا الضرب من التعامل من خلال مثالين بارزين في تفسيره: المثال الأول:يهُمّ إحدى مقدمات التفسير الأساسية، وهي القراءات؛ فقد لاحظنا أن الطبري لم يُرجع مختلف الآراء والمواقف من قراءات آي القرآن إلى أي إسناد، وهذه الملاحظة تنطبق على تفسير "جامع البيان" برمته.

أما المثال الثاني: وجدنا في جامع البيان إحالات صريحة على عدد من كتب الطبري المفقودة، اتخذ منها المفسر مصدرا من مصادر بناء التفسير؛ فقد نقل الطبري بطريقة تأليفية مختصرة، أحكاما ومواقف من كتاب له ورد عناونه بصيغ مختلفة هي: كتاب لطيف القول في أحكام الشرائع، كتاب لطيف القول في أحكام شرائع الدين، كتاب لطيف القول في شرائع الإسلام.

تعامل غير مباشر: استفاد الطبري في بناء تفسيره من مصادر مكتوبة في الأصل دون أن يطلع عليها اطلاعا مباشرا، بل تمكن منها سماعا عبر الإملاء ومن خلال رواية أو أكثر. ونقتصر في هذا العمل على عينة واحدة بدت لنا بارزة في تفسير الطبري، تخص "كتاب السيرة والمبتدأ والمغازي" لمحمد بن إسحاق.

والظاهر أن الطبري أفرغ كتاب ابن إسحاق في تفسيره تعويلا على ثلاث روايات من شيوخه وهم: أبو كريب الهمداني، محمد بن حميد الرازي، وهناد بن السري. وغيرُ خافٍ أن صلة شيوخ الطبري بابن إسحاق غير مباشرة، بل تمت عبر راويين هما: يونس بن بكير الشيباني، وسلمة بن الفضل، ويُسلمنا هذا كله إلى ملاحظتين هما:

أولا: وجود قراءتين لسيرة ابن إسحاق في تفسير الطبري، هما قراءة أهل الكوفة ممثلة في رواية يونس بن بكير، وقراءة أهل الري ممثلة في رواية سلمة الفضل. ثانيا: وجوود ثلاثة مسالك في تلقي الطبري لكتاب ابن إسحاق من خلال الشيوخ المذكورين سابقا، مما يحمل على الاعتقاد باختلاف صيغ الكتاب نفسه.

  يمكن القول ختاما: إن جُل مصار الطبري في التفسير مكتوبة، ولكن أصولها مندرجة في ثقافة شفوية، ثم إن الخوض في قضية المصادر – قي علاقتها بطبيعة المرجع – أثبت عندنا وجود حلقة وصل بين الشفوي والمكتوب هي الإملاء من مصادر مكتوبة. وتعكس هذه الحلقة طورا من أطوار الثقافة الإسلامية قديما، شهد تعايشا وتجاذبا بين أدبية المنطوق ومراسم التدوين.

وفضلا من ذلك فإن تفحص مصادر الطبري من جهة المرجع نبهنا إلى أن البحث في الهئية الأولى للمصادر الشفوية أمر متعذّر التحقيق؛ بسبب تقلب متون المصادر بين الشفوي والمكتوب طيلة قرون، حتى إنه ليصحّ القول: إن المصادر التي استفاد منها الطبري ليست في الغالب إنتاج مؤلف واحد؛ فهي تعكس – عند التدبر- ضمير الجماعة السنية أكثر مما تترجم عن موقف فردي من قضايا التفسير.

ثم إن تفسير الطبري شاهدٌ على تثبيت مصادر عديدة عول عليها في عمله، وهو تثبيت تم لأسباب عديدة؛ منها أولا: اختيارات المؤلف بتوجيه من مصادر تكوينه العلمي، وثانيا: انتظارات متقبّليه الضمنية والصريحة، وثالثا: السياق الإبستيمي للمعرفة في عصره.

 

أخبار ذات صلة