رية الخزيرية
في مقال "الأديان والعولمة " للكاتب إنزو باتشي -والمنشور في مجلة "التفاهم"- يعقد الكاتب مقارنة بين ما كانت عليه الأمم السابقة وما آلت إليه من حيث التمسك بالأديان والمعتقدات والتبعيات لشخصية ما أو تقاليد معينة.
وأوضح الكاتب في مقاله أنَّ الديانات التي كانت تمثل رمزًا وجزءًا لا يتجزأ من حياة كل أمة من الأمم أصبحت جثة ربما حِراكها أقرب إلى الشلل الجزئي إن لم يكن كليًّا في بعض الأمم في ظل التكنولوجيا المتسارعة؛ حيث إنَّ بعض الأمم اليوم لم تعد تعول كثيرًا على الشخصيات الدينية أو الثقافية التي يكون لها صدى، بل أصبح الرجال والنساء يبحثون عن طابع آخر يضيف رونقًا للحياة بعيدًا عن كل ما من شأنه تنغيص صفو حياتهم.
أتفق مع الكاتب في جزء كبير مما قال، وربما ما قاله ينطبق على حال كثير من الأمم ولكن لا ينطبق على حال كل الأمم؛ حيث ما زالت هناك أمم تُبجِّل وتعظم دينها أو تراثها أو شخصياتها الثقافية، بل وربما تتعصَّب لمعتقداتها وشخصياتها تعصبًا كبيرًا. وإلى جانب ذلك، فإن الكاتب يرى أن الأديان ترتكز على خلاص الأرواح مما يكدر صفو مزاجها وتجعل الكائن البشري يحس بالراحة النفسية. ومع هذا، فأنا أرى أنه ليس كل دين يجعل الروح مطمئنة وتعيش سعادة غامرة؛ فهناك من الأديان ما يحوي الكثير من المغالطات التي تجعل الروح مشككة ومترددة ومرتابة في كونها تمشي على الطريق الصواب أو الطريق الخطأ وخاصة بعد الاطلاع على الأخطاء الواردة في بعض الكتب المقدسة لبعض الديانات ومجانبتها للحقائق وصدامها مع العلم الحديث مما يجعل الوضع النفسي في مركب تتقاذفه الأمواج.
ويرتأي الكاتب أن الانفتاح على الأديان المختلفة والثقافات المتعددة وقبول الطرف الآخر هو التوجه المستقبلي لكثر من الأمم الحالية؛ حيث إنَّ كل فرد اليوم في كثير من الدول -مسلمًا كان أو نصرانيًّا أو يهوديًّا أو متلبسًا بغيرها من الديانات- كلهم يتعايشون في مجتمع واحد، وكل منهم يمارس طقوسه دون المساس بالآخر بأي سوء أو التعرض له بأي مكروه، وهذا مما نتوافق فيه مع الكاتب؛ إذ إنَّ القانون السياسي الذي يحكم الجميع هو المهيمن في كثير من الأمم بالرغم من وجود الاستثناءات .
ويرى الكاتب أن الدين الوراثي -الذي غالبًا ما ينقله الآباء للأبناء- يدمغ بإضافات كثيرة من قبل الأبناء لتنقل بإضافاتها تبعاً لهوى النفس إلى الأجيال التي تليها، وهذا مما هو ملحوظ في مجتمعاتنا فكم من البدع التي تظهر في كثير من الأمم وتسير الأجيال عليها، معتقدة أن تلك البدع متأتية من صميم منبع دينهم وهي على خلاف ذلك تمامًا.
ويعرِّج الكاتب على أن الهجرات بين الشعوب قد تكون عاملاً له من القوة في اختراق حواجز التباعد بين الأديان الشيء الكثير، ونحن نؤمن بذلك إذ الانفتاح بين الأديان بهدف الوحدة والتعاون والتكاتف مطلب لا بد منه، خاصة في ظل كون العالم اليوم قرية صغيرة يجب أن تتقارب وتكسر جميع الحواجز التي من شأنها أن تكون حجر عثرة لتقدم الأمم.
وبسبب الهجرات والاختلاط بين المجتمعات، يشير الكاتب إلى أنه ربما تختلط الأديان ببعضها، وربما وبسبب التداخل قد تنشأ مذاهب جديدة أو فرق ربما تكون منبثقة من نفس الديانة ولكن بمرجعية مختلفة، وهذا وارد ومحتمل الحدوث؛ فالأمة الإسلامية انبثقت منها العديد من المذاهب، وكذلك الأمة اليهودية وهذا ما نلاحظه أيضا في الديانة المسيحية والهندوسية وغيرها من الديانات.
من وجهة نظري، أرى أنَّ التقارب بين الأديان مطلب شرعي وديني وعصري يتطلبه العصر الحديث، ولكن على كل الشعوب أن يحرصوا كل الحرص مع انفتاحهم للطرف الآخر أن يحافظوا على هوياتهم وثقافاتهم مع الحرص على التحلي والتخلي -فيُتحلى بكل ما فيه خير وصلاح ويُتخلى عن كل ما من شأنه طمس نور الهوية ونشر الفساد.
وفي ظل الصراعات السياسية والدينية، يرى الكاتب أن الجهات السياسية والدينية وقفت جنبًا إلى جنب في بعض الأحيان، إلا أنها كثيرًا ما تصارعت صراعات دامية راح ضحيتها الكثير من الناس بسبب التعصب السياسي أو التعصب الديني، إلا أنه ومن خلال التجارب التاريخية التي مرت عليها كثير من الأمم عبر الزمن الغابر يتبين لنا أن التقارب السياسي والديني هو الحل الرئيس الذي يجمع الشتات الذي من الممكن أن يحدث في أمة من الأمم ويُذهب ريحها؛ فالتضارب القائم بين الأمم والمندرج تحت مظلة مصطلح الرأسمالية ومصطلح الشيوعية وغيرها من شأنه أن يزيد الفجوة ويزيد الطين بلة.
دائمًا ما ينوِّه الكاتب إلى أنَّ المركزية الدينية قد تؤثر سلبًا على سير الدول؛ فاللامركزية الدينية متطلب لإعادة مراجعة البرامج والهويات الثقافية. وإلى جانب ذلك، فإنَّ كثيرا من الدول بدأت بتقليص تأثير المركزية الدينية ولجأت إلى خلق قوانين وأنظمة من شأنها تسهيل العيش بسلام في أرض واحدة في ظل مجتمع متعدد الأجناس والديانات. وعلى هذا، فإنَّ التقارب السياسي والديني مع عدم تغليب أي جانب على آخر يعد متطلبًا رئيسًا للوصول إلى تعايش سلمي مرسخ ترسيخاً قويا قائمًا على أسس سوية مستديمة تحت مظلة العدل والتسامح، وتغييب هذا التقارب يعد مؤشرًا قويًا للضعف والوهن الذي ستعاني منه الأمة مما يضع حياتها على المحك.
إنَّ تقبُّل الطرف الآخر مهما كان معتقده وثقافته وديانته وعرقه ونسبه جزء لا يتجزأ من محاور استقرار الأمم وتقدمها ونموها وتطورها وسيرها نحو الأمام بخطى حثيثة. وهذا تماما ما انبثق من الديانة الإسلامية التي رسخ النبي محمد عليه السلام قوامها، فسارت نحو الإمامة والقيادة، وكانت منفتحة على كل الشعوب مهما كان شأنها، فلم تفرق بين شعب وآخر، ولم تنظر إلى شعب دون آخر؛ تسليمًا لغاية الرسالة الإلهية وهدفها في توحيد الأمم تحت مظلة قيادية واحدة لا تزعزعها الأهواء ولا تتقاذفها الأمواج حسب الرغبات، ولا تتناول سُننها النزوات البشرية والمصالح الشخصية.
وعليه.. فمُستقبل كل أمة يَبني على ما يتم ترسيخه من معتقدات تصب في قلوب الأجيال سواء في مدارسهم أو في بيوتهم عند أسرهم.