المدن الفاضلة في الأزمنة الوسيطة

زينب الكلبانية

أتى حينٌ من الزمن على "اليوتوبيات"، وتماثلها بالعربي "المدن الفاضلة"، كانت فيه سوقها نافقة رائجة؛ واليوم كادت المدن الفاضلة بمختلف ألوانها أن تستحيل، منذ زمن غير يسير، إلى موضوع يثير الشبهة فلا يحظى بالثقة؛ وذلك سواء على المستوى الفلسفي، أو على المستوى السياسي. ولقد حدث أن استعمل المعاصرون ضد يوتوبيات الماضي ومدنه الفاضلة، السخرية سلاحا؛ فأنشأوا لليوتوبيات الكثير من التقليدات الساذجة المستهزئة، وتحدثوا عن مضادات اليوتوبيات على النحو نفسه الذي كان قد تحدث به القدماء عن "مضادات المدينة الفاضلة". ذلك كله في زمننا هذا الذي هو زمن الثقافة المعاكسة، وما بعد النزعة الإنسية وثقافة الإنترنت، وهذا ما أثاره الكاتب محمد الشيخ في مقاله المنشور بمجلة "التفاهم".

وأضاف أنه لا زال أمر هذا النحو من اليوتوبيات في ازدياد، حتى كتب أحد الباحثين المختصين في الفكر اليوتوبي: إذا ما نحن اعتبرنا أعمال الماضي العظيمة، بدا لنا أن جنس الكتابة اليوتوبي ما بلغ إلينا -معشر أبناء اليوم- إلا وهو متعب مُجهَد ومشوَّه في القرن الواحد والعشرين.

وقد أفرد الباحث الألماني ريتشارد ساج كتابا لهذا الأمر، كان عنوانه عبارة عن تساؤل إنكاري: "[أهي] نهاية اليوتوبيا السياسية"؟ أَوَ لم يحدث لليوتوبيا ما كان قد حدث للميتافيزيقا، لما لاحظ الفيلسوف الألماني إمانويل كانط -في مقدمة الطبعة الأولى من كتابه الشهير "نقد العقل الخالص أنه «أتى على الميتافيزيقا حين من الزمن كانت تتسمى فيه ملكة العلوم»؛ لكنه سرعان ما أضاف: «واليوم، فإن الموضة الرائجة هي احتقار الميتافيزيقا، وازدراؤها. وهكذا ألفينا السيدة النبيلة - وقد هُجرت ونُبذت - ما تفتأ تشكو، ولسان حالها يردد مع هيكوبا: "بالأمس كنت العظمى بين الجميع، يشد أزري كثير من الأصهار والأبناء، وها أناذا اليوم منفية وخالية"»؟ وبالمناسبة، ألم يتحدث بعضهم عن نقد العقل اليوتوبي؟

أصبح موضوع فقدان المعاصرين الثقة في اليوتوبيات والمدن الفاضلة نفسه موضوع بحوث، وما زال ذلك ساريا، حتى أشرفت الباحثة الإيطالية المختصة في الأدبيات الطوباوية كارملينا إمبروشيو، على مصنف جماعي حمل من العناوين العنوان التالي ذا الدلالة بما نحن بشأنه: "[أهي يا ترى] صلاة جنائزية على اليوتوبيا؟

ألم تتحول أحلام المدن الفاضلة وأخواتها إلى كوابيس؟ وألم تستحل رؤى اليوتوبيات الرغيدة إلى أضغاث أحلام جحيمية؟ وما الذي انتهت إليه التجارب الزراعية الشيوعية، الكلخوزات والسفخوزات، والقرى البيئية وفضاءات النحل الدينية والطوائف المذهبية، والتي كانت في أصلها يوتوبيات جماعية متمردة على فردانية الليبرالية، غير أن أمست كوابيس مفزعة؟ ذاك هو ما حمل أحد كبار المختصين في الفكر اليوتوبي ميكيل أبنسور، على أن يتساءل عما إذا كان قياسا على كلام المفكر الألماني أدورنو الشهير عن استحالة كتابة قصيدة شعر، بعد معسكرات الاعتقال والتعذيب النازية، يمكن القول بأنه أصبحت اليوم تستحيل كتابة يوتوبيا، أو رسم معالم مدينة فاضلة بعد ما شهده القرن العشرون من كوارث شديدة الاحتمال.

ألم يعد هذا الباحث نفسه إلى الحديث عن "استمرارية اليوتوبيا وبقائها"، بل وحتى إلى الكلام عن ثباتها" وعن مقاومتها؟ أو كما قال: يبدو عند أول النظر أن الكارثة إقامة عالم جحيمي، قد قضت بلا رجعة على الآمال التي كانت تحملها اليوتوبيا، لكن أليس قد تبين كذلك أنه لا يمكن إيقاف الإنسان على أن يستمر في تصور مجتمع آخر، ورباط اجتماعي آخر، بحيث يكون إنسانيا بصدق، وبحيث يملك حظوظ إخراج الإنسان من جحيمه؟

عديدة هي التعريفات التي عُرِّف بها الإنسان؛ لكن أحد أغرب وألطف وأعجب هذه التعريفات القول: إن الإنسان كائن حي بَنَّاءٌ للمدن الفاضلة، أو قيل بلغة الغرب: "حد الإنسان أنه حيوان طوباوي". بهذا عرفه أحد أبرز المختصين في الفكر الطوباوي ميكيل أبنسور، صاحب رباعية في الفكر الطوباوي، أشهر عنوانينها: "اليوتوبيا من مور إلى والتر بنيامين" و"الإنسان حيوان طوباوي" فكيف يراد مرة أخرى.

هناك نموذجان من العصر الوسيط: واحد إسلامي، والآخر مسيحي. وسنتحدث هنا عن المدن الفاضلة في الفكر الإسلامي، وعند إلقاء نظرة على الموضوعات التي خاض فيها أوائل فلاسفة الإسلام يظهر أنهم ما عنوا حق عناية في أنظارهم الفلسفية السياسية بمسألة "المدينة الفاضلة".

في المدينة الفاضلة قد يستغرب القارئ غير المستأنس بكتابات الفلاسفة العرب القدامى من كتاب يعد من أشهر كتب الفلسفة السياسية الإسلامية، ويبدأ في قراءة فصوله وموضوعاته، فيجدها على التوالي: القول في الموجود الأول (الله)، وفي نفي الشريك والضد والحد عنه، وفي كونه عالما حكيما وحقا وحيا وحياة، وفي عظمته وجلاله ومجده، ثم يشرع في الحديث بعد هذا الحديث المستفيض عن الرب عن العالم؛ وذلك بالحديث عن كيفية صدور الموجودات عنه، والحديث عن مراتب الموجودات، ثم يعرج على الحديث عن الفلسفة الطبيعية، بعد الإلهية؛ وذلك بالحديث عن الحركة والصورة والمادة والهيولى، فالحديث عن الإنسان وأجزاء نفسه وقواه الناطقة (العقل)، ثم الحديث عن الإرادة والاختيار والسعادة، فالحديث عن سبب المنامات وعن الوحي وعن رؤية الملك، وبعد أن يمضي من الكتاب قرابة ثلثه ها نحن أولاء مع التأسيس، لا اللاهوتي هذه المرة؛ وإنما الاجتماعي والسياسي للمدينة الفاضلة؛ وذلك في الفصل المعنون بعنوان: القول في احتياج الإنسان إلى الاجتماع والتعاون. لكن واقع الاستغراب هذا قد يزول حين يمضي القارئ في الكتاب قراءة إلى الفصل المعنون بـ: القول في الأشياء المشتركة لأهل المدينة الفاضلة، ليكتشف فجأة أن في الكتاب ضربا من الدور؛ وذلك لأن هذه الآراء المعنية هنا (اللاهوتية والطبيعية والنفسانية) هي بالذات ما استهل به الفارابي كتابه، ومنها استمد الكتاب عنوانه؛ إذ لا يتعلق الأمر بالمدينة الفاضلة، وإنما بآراء أهلها.

والحال أننا كما لم نعرف منه إن كانت المدينة الفاضلة قد وجدت في الماضي، أو قد توجد فيما يستقبل من الزمان، فكذلك لم نعلم منه إن هي كانت المدن المضادات للمدينة الفاضلة قد وجدت أم لا، وهذه المدن عنده هي على الترتيب:

-  "المدينة الجاهلية"، وقد سميت بذلك لجهل أهلها بمعنى السعادة، مع ملاحظة أن الفيلسوف هنا هو الذي يحدد للناس ما الذي ينبغي أن تكون عليه سعادتهم، فلا يتعلق الأمر بتقاطعات آراء بين مجموعات من البشر في تصورهم لمعنى السعادة، وإنما بسعادة تحدد من أعلى، ولا يعرف أهل المدينة الجاهلية معنى "الخير" الحق (السعادة) وإنما كل ما يعرفونه هو الخير الشبيهي السعادة الدنيوية المتمثلة في سلامة الأبدان، وفي اليسار، وفي التمتع بالملاذ، وفي التطرح للهوى، وفي التكرم والتعظم، هذه هي -عند أهل المدينة الجاهلية- السعادات المطلوبة، وسعادة السعادات عندهم أن تجتمع ولا تتفرق، وأضداد هذه السعادات عندهم هي الشقاوات، آفات البدن، الفقر، عدم الاستمتاع، الحيلولة بين الفرد وهواه، انعدام التكريم وغياب التعظيم. على أن المدينة الجاهلية ما كانت على نمط واحد، وإنما هي على أنماط:

- "المدينة الضرورية"، وهي التي يقتصر أهلها على الضروريات، من مأكول ومشروب وملبوس ومسكون ومنكوح، فلا يتجاوزونها. و"المدينة البدالة"، وهي التي غاية أهلها تحقيق اليسار واستجلاب الغنى. وكذلك "مدينة الخسة والشقة"، وهي التي ما قصد أهلها سوى التمتع بالملاذ (المأكول والمشروب والمنكوح) والتعاطي إلى الهزليات واللعبيات. وأيضا "مدينة الكرامة"، وهي التي قصد أهلها أن يصيروا مكرّمين مذكورين مشهورين بين المدن وممجَّدين معظَّمين بالقول وبالفعل وبعضهم لدى بعض. و"مدينة التغلب"، وهي المدينة التي غاية إرادتها الاستقواء على غيرها وقهره طلبا للذة الغلبة. و"المدينة الجماعية"(الديمقراطية) التي يسعى أفرادها إلى الحرية بالأولى.

- "المدينة الفاسقة"، وهي المدينة التي معتقدها معتقد أهل المدينة الفاضلة وفعلها فعل أهل المدينة الجاهلية. و"المدينة المبدَّلة"، وهي عنده غير المدينة البدالة، وقد سميت مبدلة لأن آراء أهلها تبدلت عن آراء المدينة الفاضلة وأفعالها بحيث استحالت هي إلى ما يناقضها.

وأخيرا.. "المدينة الضارة"، وهي مدينة الخروج عن المعتقد الأساس.

أخبار ذات صلة