المدن الأوروبية والاندماج في المجال

باسم الكندي

تؤكد نتاليا زادونوفسكا الباحثة في مركز التحليل المجالي المتقدّم بجامعة لندن، في مقالها المنشور بمجلة "التفاهم"، بعنوان "المدن بحسبانها مقاييس للاندماج في المجال"، على ضرورة الاِعتِداد بكل أنظمة التَّمدن والعمران في أوروبا وفَهمِ اندماجها في الاقتصاد العالمي عبر تفاعلات هذه المدن مع المدن الأخرى.

حيث يهدف هذا المقال إلى عرض نظريات الاندماج في المجال وارتباطها بأنظمة العمران وأنساقه؛ كَون المدن هي الكيانات الأكثر ملاءمة لدراسة المفاهيم المُتَمحوِرة حول الاندماج، ذلك أن الفهم الجغرافي لها -بوصفه ترابطات بين المدن- يُساعدنا على صياغة استنتاج دقيق ومُفصَّل عنها، ويوجد هناك مفهومان نظريان حاسمان في دراسة قضايا إعادة تنظيم المدن هما:

1- الاندماج في المجال: ويُقْصَد به التفاعل والارتباط الشاملين بين مدن رئيسة لمنطقة ما من جهة والمدن الموجودة خارج تلك المنطقة من جهة أخرى وتهدف الباحثة بهذا التحليل الذي تقوم به هنا إلى معرفة شكل الترابطات بين الأقاليم وفَهمِ منطقها الذي يتضمّن طبيعة وأثر العلاقات الخاصة بها.

2- نظام التعمير أو نسقه: ويُفهم منه معرفة أشكال التفاعل بين الأنساق التعميرية جغرافيًا واتصالها بالاندماج في المجال، ويبدو هنا أن المقاربة الشبكية التي تضع مسألة التقسيمات السياسية وحدود الدولة في الخلفية أشد ملاءمة من المقاربة الجيو-سياسية في دراسة اندماج المدن في المجال ؛لأنها تشتمل على فكرة تشكيل شبكة تنضوي تحت نسق الاندماج الجديد الجهوي والشامل؛ كذلك هذه المقاربة تُساعد على عملية البحث الاندماجي ليُكوِّن شبكة علاقات أكثر تطورا على مستوى أنظمة التمّدن بينما تنظُر المقاربة الجيو– سياسية والاقتصادية (فيما يتعلق بالجهوية) إلى الترابطات على المستوى القومي أو على مستوى الشركات الكبرى لكنها لا تهتّم بالمدينة باعتبارها وحدة مستقلة.

* نموذج المركز الهامش وحدوده: وهو نموذج صنّفَه كل من جونار ميردال وإيمانويل فالرشتاين لتقسيم مختلف أجزاء العالم وفقاً لثلاثة مفاهيم تصنيفية هي: المركز وشبه الهامش والهامش، يقوم فيه شبه الهامش بتحييد النزاعات بين المركز والهامش، وطُوِّرَ هذا النموذج بشكله المعاصر من قِبل علماء اقتصاد اللاتكافؤ ثم فيما بعد من لَدُن ألان رينو في ميدان الجغرافيا وهو نموذج يُقدِّم تفسيراً لهذا التفاوت كما يُفيد بأن الهامش مستتبع لأن المركز هو المُهيمِن. كما تَتجه المراكز للاستئثار بموارد هوامشها وتكون التدفقات بين المركز والهامش غير متوازية وهذا يجعل المركز هو المستفيد من عجز الهامش حيث يستحوذ المركز على العلاقات والأنشطة والمصالح على حساب عجز الهامش، ويُمكن استعمال هذا النموذج على مستوى القرية والمدينة وحتى عالمياً، كذلك وُجدت هناك بناءات إطارية فكرية جديدة كنموذج المثلثات المتداخلة الناتج عن التقسيم القديم للمجال الأوروبي الذي وضعه والتر كريستالر وهدفه وضع تصنيف لمُختَلَف أجزاء القارة الأوروبية حيث عُدَّت المدن الأوروبية العظمى هي المركز الأوروبي لأنها الأكثر نشاطاً وتطوراً تِقنياً بينما يتضّح أن جزءاً كبيرا من مدن شرق وسط أوروبا تُشكِّل قطاعاً عريضا من هامش أوروبا ورغم هذا التصنيف فإن الواقع يَظهر أشدّ تعقيداً مما يقوم عليه هذا النموذج.

كما يوجد نموذج آخر هو نموذج الخاتم أو الحَلَقة اقترحه روجي بريني عام 1988م، وهو يُقسّم المدن الواقعة بشمال غرب أوروبا حسب الفوارق في الثروة؛ حيث يتقاطع الخاتم أو حلقة المدن جزئياً مع المدن التي تُمثّل مركز الثقل الأوروبي؛ ولكن ظلَّ هذا التصنيف يُثير تساؤلات عدة لعدم وضوح معاييره، كما أن تصميمه قديم لا يُحقق الهدف المرجو منه، كما وُجِدَت أيضا نماذج أخرى وُضعت للمجال الأوروبي من اقتراح نظرية كريستالر حول مركزية المجال وهي تُشكّل أحد التفاسير الممكنة لتراتبية أحجام المدن وتداخل مناطق نفوذها وملخَّصُها يرتكز على مفهوم الإمداد المركزي الذي يعتمد على التفاعل بين مركز توجد فيه إمدادات وخدمات ومنطقة تكميلية يكون هناك طلب على هذه الخدمات تجعل المدينة تُعتبَر بمثابة سوق يلتقي فيها التموين والطلب، وقد ساعدت هذه النظرية كريستالر من إجراء التقسيمات المُثلَّثِيَّة على جنوب ألمانيا ثم على جزء من أوروبا، ويظهر جلياً أنَّ هذا التقسيم يَعرض وِجهة نظر أوروبية جرمانية مركزية متطرّفة لِكَونِهِ يجعل ألمانيا تحتل مرتبة المركز المُطلق والحال أنَّه تم نقد تطبيق هذا النموذج أكثر من مرة رغم أنَّ هذه التقسيمات ساعدت لاحقاً على إظهار عدد من التصوّرات بما فيها نموذج المُثلثات المتداخلة الذي اقترحه بريني، والذي بناه بداية من العمود الفقري الأوروبي وامتداداته الجانبية وغيرها من التفاصيل. ورغم ذلك، يبقى هذا التقسيم شديد النقص؛ لصعوبة احترام الصلات بين المدن وفقاً لهذا التناغم الهندسي، كما أنه أكثر تعقيداً إضافةً إلى أنَّه لا يُظهِر بعض المدن.

ونجد الباحثة هنا ترفض أُيَّ تضييق قَبْلي للموضوعات المدروسة والتي تُقدم صورة مخالفة عن الواقع كما أن هذه التقسيمات لا تُقدِّم فكرة واضحة عن تطور ونمو مدن وسط شرق أوروبا؛ لذلك تتجه الباحثة إلى تَبنَّي مفهوم "الإقليم متعدد المواقع"، الذي اقترحته جينوفييف كورتيس ودنيس بيش في ميدان الأنثربولوجيا والذي تبنّاه فريدريك جيرو في مضمار الجغرافيا والذي مَكّنَ ذلك من وصف التغييرات والتجديدات المعاصرة التي مَسَّت الأقاليم والأراضي، وهو ما يجعلنا نتوجه إلى المقاربة المستندة إلى المدينة وترابطها مع ميدان الجيو-سياسيات على مقاربة فكرة المدن وفق الطريقة الشبكية، خاصة وأن من شأن هذا النسق أن يستند إلى الصلات والعلاقات التي تُقام بين الكيانات المجالية.

وعادة ما يتم انتقاد هذا النموذج لصعوبة أخذه بالحسبان بما وراء حدود الدول، ولكن ميزته الجوهرية في أنّه يُساعد على التفكير وفقاً لمفاهيم التفاعلات بين المدن؛ وذلك في إطار حيوي يهتم بتطورها على عكس المقاربة الجهوية التي تهتم بالصلات التي تفرزها إستراتيجيات الشركات الكبرى على المستوى الجهوي، وفي نظرية الأنساق المُعقّدة، تتم مقاربة أنساق المدن تبعاً لمستويات الموضوعات المتعددة (الجوار-المدن-الأنساق الجهوية-الجهات الكبرى) النَّشِطة والمُتميّزة بتفاعلات معقدة، وترى الباحثة هنا أنَّ التفاعلات البشرية وأماكنها يحكمها عادة تنظيم المجال لأن هذه التأثيرات والتبادلات ناجمة أصلا عن تنوّعه، وهو ما تعتبره هنا في هذه المقالة مفتاحاً أكبر لقراءة مدن داخل أوروبا الوسطى والشرقية، مع التأكيد على مفهوميْ الاندماج والتفاعل لدورهما في تحقيق الاكتمال بين مكان وآخر.

صارت الآن نُظم المدن أكثر تطوراً، وأُصبح تأثيرها دوليا أكثر من نُظم المدن المُغلقة، خاصة وأنَّ تفاعل المدن دولياً حدث لِعوامل خارجية مرتبطة بالعولمة والاقتصاد الأمر الذي جعل هذه المدن أكثر اِتِّباعاً لاستراتيجيات الاستثمار الدولي مما أهَّلَها لتكون أكثر ترابطاً مع مدن عالمية أخرى أكثر من ارتباطها بالمدن المنضوية معها قومياً.

وختاماً.. هناك تصنيفات أوروبية عدة قائمة على منحنيات الثروة تُمكّن من التعرّف بين المركز والهامش في أوروبا ولكن هذه التصنيفات لا تتناسب مع واقع أوروبا، خاصة وأنّها تُقدم رسومات مُختزلة لها لا تُساعد على الأخذ بها، لذلك ترى الباحثة ضرورة تجاوز هذه البناءات النظرية والاعتداد بالمدن وشبكاتها ونمط عمرانها مع المدن الأخرى وفهم اندماجها في الاقتصاد العالمي لكي يتم تقديم صورة أكثر ملائمة عن حال المدن الأوروبية بعد ذلك.

أخبار ذات صلة