عبدالرحمن الحوسني
تحدث نبيل فازيو في مقاله المنشور بمجلة "التفاهم"، عن عدة أمور تتمحور حول مظلة الشعوبية في تاريخ الإسلام الكلاسيكي وتطرق أيضا لمعنى الشعوبية، وظهورها في المشرق العباسي، والأندلس.
وقال ابن قتية في فضل العرب ما يلي: "فإنها -الشعوبية- تدفع العرب عن كل فضيلة وتلحق بها كل رذيلة وتغلو في القول وتسرف في الذم وتبهت بالكذب وتكابر العيان وتكاد تكفر ثم يمنعها خوف السيف وتغص من النبي -صلى الله عليه وسلم- إذا ذكر بالشجا وتطرف منه على القذى وتبعد من الله قدر بعدها ممن قرّب واصطفى وفي الإفراط الهلكة وفي الغلو البوار"، يتعلق الأمر في حديث ابن قتيبة باتهام واضح للشعوبية بمعاداة العرب والحنق عليهم وعلى تاريخهم وتراثهم العريق، وهو الذي سمح باتهامهم بمعاداة الإسلام ونبيه؛ مما دفع كثيرا من الباحثين إلى اعتبار موقف ابن قتيبة حملة عنيفة وجارحة على الشعوبية.
ويبدُو من خلال تتبع تبلور فكرة الشعوبية في التجربة السياسية الإسلامية الكلاسيكية أنها ارتبطت بتشكل المجال السياسي الإسلامي وتطوره، بل ويُمكن أن نعدها مفارقة من المفارقات التي أفرزها هذا المجال، بحكم أن تصاعدها اقترن بلحظات اهتزاز دولة العرب المسلمين مع الأمويين في المشرق أولا ثم بعد ذلك في الأندلس.
إذن يتعلق الأمر بمحاولة للتفكير في وضعية هذا الآخر المغاير ثقافيا واعتباريا، لكنه يشارك العرب انتماءهم إلى الأمة والدولة ليصبح جزءا من عالمهم عندما يفتحون أرضه، يتحول إلى مولى ويضيق ذرعا بوضعه الجديد، ثم سرعان ما تقسو عليه الدولة و تثقل كاهلة بالضرائب وتدفعه إلى التكتل والاحتجاج، وتلبية نداء كل خارج عن سلطة الحاكم الأموي وسرعان ما ينجح في تولي مناصب مهمة كلما اقتربت الدولة من لحظة الأفول ليتحول إلى الفاعل الأهم في المرحلة التي ستليها.
أما في معنى الشعوبية، فمن الصعب ادعاء صياغة تحديد دقيق وواحد لمفهوم الشعوبية، ليس فقط بحكم ارتباطه بحركة سياسية واجتماعية وثقافية لم تدرك مستوى عاليا من التنظيم والتأطير، وظلت تعبر عن نفسها من خلال أشكال من الرفض لهيمنة العنصر العربي على الدولة، وإنما بالنظر إلى تباين المطلب الذي رفعه ممثلو هذه الحركة بين المطالبة بالتسوية بين العرب وغيرهم من الشعوب والإقرار بأفضلية هذا الشعب أو ذلك على العرب والتنقيص من قدرهم. وفي الأندلس ظهر ابن غرسية ووضع رسالته في الشعوبية ورد عليه كثير من العلماء. لذلك، نلاحظ أن الشعوبية كموقف وحركة ثقافية لم تكن منحصرة في المشرق العربي، وإنما كانت لها تجلياتها في الأندلس، خاصة في مرحلة المماليك كما هو بين من رسالة ابن غرسية وما أثارته من ردود عليها استمرت لمدة طويلة.
فتُشير الشعوبية إلى فريق من الناس لا يرون للعرب فضلا على غيرهم، بل يبالغون في ذلك فيذهبون إلى تنقصهم والحط من قدرهم حتى ألفوا في ذلك الكتب، وسموا بذلك لانتصارهم للشعوب التي هي مغايرة للقبائل.
فإذا كانت لفظة قبائل تشير إلى العرب -كما اعتقدوا- فكلمة شعوب تشير إلى من دخل الإسلام من غيرهم، والآية تساوي بين الفريقين، وعلى هذا فالعرب شعب والفرس شعب والروم شعب وهكذا وقد ذهب قوم إلى أنها مأخوذة من الشعوب في قوله تعالى: "يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، وقالوا: إن المراد بالشعوب بطون العجم وبالقبائل قبائل العرب، وهو تفسير في نظرنا غير صحيح، وأوضح دليل على ذلك أن العرب لم تكن تفهمه حين نزول الآية. ويرجح أحمد أمين ألّا يكون اسم الشعوبية قد أطلق على هذه الحركة إلا في العصر العباسي الأول، وهذا حكم من الصعب الأخذ به بسبب اختمار الجذور الأولى لهذه الحركة في الفترة الأموية تحديدا وهي الفترة التي اتسمت في نظر البعض بفشوِّ قدر كبير من الحيف في حق الموالي الذين شكل الفرس جزءا كبيرا منهم.
والحال أن المضمون السياسي للشعوبية أمرٌ أدركه خصومها بشكل واضح، وما اتهامهم لها بالزندقة والسعي إلى هدم الإسلام وعقائده إلا علامة على ذلك، فقد سعت الحركات الشعوبية إلى إعادة ترتيب أوضاع الدولة الإسلامية وفق ما تقتضيه الهندسة الجديدة للمجتمع الإسلامي، والتي ما عادت تخضع للغالبية العربية وعصبيتها خاصة بعد فتح بلاد فارس وإفريقيا. فمهما يكن من أمر، فإن الشعوبية في أساسها عبارة عن رد فعل على الاستهجان والتنقيص الذي مارسه العرب على غيرهم من مكونات العرب الاجتماعي السياسي في العهد الأموي خاصة، فعبرت عن طموح الموالي (الفرس، المولدين، الصقالبة... إلخ).
أما الشعوبية في المشرق العباسي، فيختلف الباحثون في تحديد بداية دقيقة لها بين من يربطها بنهاية الدولة الأموية وبين من يرى أنها لم تظهر إلا مع دولة بني العباس وخاصة في منتصف القرن الثاني الهجري، وذلك أن عداء الموالي الفرس للعصبية العربية كان رد فعل على "احتقار" العرب لهم في عز الدولة الأموية، وقد نقلت لنا المصادر العربية كثيرا من مظاهر الاستعلاء على الموالي وأبناء الإماء لعل أظهرها كان جهر الخليفة عبدالملك بن مروان باستهجانه لأبناء الأمَة على مسمع ابنه مسلمة الذي كان ابن أَمَة أيضا.
أما الشعوبية في الأندلس، فينقل لنا ابن عبدربه في العقد الفريد سجالا مداره على الشعوبه وفضل العرب بين المتعصبين للعروبة -ثقافة وتاريخا ولغة- وبين الداعين إلى التسوية المطلقة بين العرب وغيرهم من الشعوب، وقد خصص كتاب "اليتيمة في نسب وفضائل العرب" للحديث عن تاريخ العرب وأنسابهم، وأتى فيه على ذكر دعوى الشعوبية الذين يسميهم أهل التسوية، كما أورد ذكر اعتراضات ابن قتيبة في الموضوع وردود الشعوبية عليه كما على غيره من المتعصبين للعرب، دون أن ينتهي إلى موقف معاد للشعوبية الذين لم يخرجهم من دائرة الدعوة إلى التسوية، فلم يتهمهم بالزندقة ولا بنية إفساد الإسلام والقضاء على حكم العرب، واكتفى بنقل مقالة أهل التسوية كما صاغها أصحابها في المشرق.
وفي الختام، نستنتج مما تقدم أن الشعوبية كانت حركة ذات مضمون ثقافي واجتماعي وسياسي، دخلت في مواجهة مع العنصر العربي، وكان لها دورها البارز في خلخلة أسس دولة الأمويين، كما لعبت دورا مهما في تحديد معالم مرحلة ما بعد الدولة الأموية في الشرق كما في الأندلس.
