باسم الكندي
في ظل المستجدات التي تحدث في العالم يرى عز الدين عناية الأستاذ التونسي بجامعة روما الإيطالية في مقاله المنشور في مجلة التفاهم بعنوان (موقع المسلمين في نظام العالم والبحث عن البدائل) أنَّ مواكبة المسلمين لما يحدث في النظام العالمي يكون بتطوير منظور جديد مع الذات ومع العالم.
لا يخفى على عاقلٍ أن العولمة اليوم أصبحت واقعًا حقيقياً، ولها تأثيرها الكبير على حياة الشعوب في جميع المجالات حيث كان لأمورها المستجدة الرامية إلى التطور المتسارع أثرٌ على سائر الأديان وأتباعها حيث أصبح المسلمون الآن ليسوا محل استثناء فيما يجري من تحوّل ديني يشهده العالم بهدف التكتل وفق أسس جامعة؛ الأمر الذي انعكست آثاره على الرؤية الإسلامية لذاتها والعالم. صحيح أن استعدادات الأديان للتعايش مع المعطيات الجديدة المتصّلة بالعولمة الدينية تختلف من دين لآخر ولكن رغم هذا التفاوت فإنَّ جميع هذه الأديان مَعْنِيّة بما يجري من تغيّر في الساحة العالمية. لهذا؛ وفي ضوء توجّه العالم نحو نظام عالمي مُوحّد فقد أصبحت الحاجة ملحّة لتغيير نظرتنا للعالم وذلك بالحضور الإيجابي فيه مع المحافظة على هويّتنا الإسلامية خصوصاً بعدما تقلّصت فجوة الاتصال لدى الجميع، كما أنَّ الإسلام اليوم لم يعد محصوراً في فضاءات جغرافية محددة بل أصبح المسلمون موزّعين في سائر القارات لذلك أصبح الواقع يفرض وضع رؤى ملائمة في التعاطي مع العالم قد تختلف تدريجيًّا مع ما كان معهوداً.
يذكر عز الدين عناية أنَّ النظام العالمي الذي شُرِعَ في تشييده منذ سقوط جدار برلين (1989م) وتسارعت وتيرة إنجازه بحزم مع أحداث 11/ سبتمبر/2001م، لم يستثنِ فضاء دون غيره أو مجتمعاً دون آخر وبهذا لم يكن العرب والمسلمون عموماً بمعزلٍ عنه فحينما شكّلت بعض الدول حجر عثرَة من وجهة نظر القائمين على هذا البناء الجديد قاد ذلك إلى تدخلات عسكرية فيها كأفغانستان 2001 والعراق 2003 وسوريا 2011م، كما وُصِفَتْ الدول الإسلامية الواقعة خارج هذا النظام بالمارقة والراعية للإرهاب؛ فتمَّ تدمير نسيجها الاجتماعي والأمني ومن ثَمَّ إسقاط وتفكيك بعضها وكان الشعار الأبرز لهذه التدخّلات هو تصدير الديمقراطية وزرع التحديث من فوق بطرق مختلفة كان عاقبتها خلق فوضى عارمة مهّدت لظهور تنظيمات إرهابية كتنظيم القاعدة العالمي وتفرعاته مع (أبو مصعب الزرقاوي) وتنظيم داعش، كما صاحب ترسيخ دعائم هذا النظام الجديد زيادة إملاءات التغيير على دول الإسلام بقصد تغيير سياساتها في التربية والتعليم وأوضاع المرأة وحقوق الإنسان وأوضاع الأقليات مع تجنيد وسائل إعلامية راقبت سياساتها وانتقدَت هويّتها الإسلامية وحياة الناس فيها بطريقة هوجاء نتجَ عنها ظواهر: الإسلاموفوبيا والمعاملات العنصرية وأشكال التضييق القانوني التي مَسّت المسلمين في الغرب. كذلك على مدى سنوات، تركّز الاشتغال على نصوص المرجعية الإسلامية بدعوى قطع دابر الإرهاب وخنق مصادره المعرفية ولم تبقَ هذه الحملة في حدود إعادة القراءة للنصوص بل حدث تهجّم صريح على المؤسسات التشريعية الإسلامية الناشئة مثل مؤسسة أهل الذمة ومفهومي دار الحرب ودار الإسلام والتشكيك في دورها الحضاري.
هذا التحريض على الإسلام أفرز تيارات تنادي بتطبيق الشريعة ومُمارسة الجهاد مَثَّل الغرب ميداناً لهذا الصراع وأثَّرَ على وضع الجاليات الإسلامية هناك رغم أنَّ هذه التوترات لم تكن ناجمة عن قضايا فعلية تعيشها هذه الجاليات بل حصلت غالباً بسبب أفعال اصطنعتها عناصر متطرفّة من الطرفين، كما استُهدِفَ الداخل الإسلامي في الغرب إعلاميّاً تحت مُبررات الحرص على حقوق الإنسان وقضايا الأقليّات ودعم المساواة بين الجنسين ومراجعة قضايا الميراث، كما أن العديد من التوصيفات الغربية كانت تنظر إلى المسلمين بأنهم حَجَر عثرَةً أمام تشكيل أسس النظام العالمي الجديد وظهر ذلك جليّاً منذ صدور مقال صموئيل هنتنغتون الشهير الذي تناول فيه أوضاع المجتمعات الإسلامية مستنتّجا أنَّ (الإسلام ينشد السيطرة على العالم ! إنه إيمان زائف مضاد للمسيحية، غير متسامح وعنيف.. إلخ) وافقه في ذلك جملة من الكتّاب الغربيين. ومنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر2001م وحتى نجاح أولى ثورات الربيع العربي في تونس شكّلت تلك الفترة ضغوطات كبيرة لمراجعة المنظور الإسلامي من جهات غربيّة انتقدت وضع هذه الدول بِهدف فرض إملاءات تغيير عميقة تجاه رؤية المسلمين لقضايا المرأة وحقوق الإنسان وقضية الإرهاب. كذلك في مستهل هذه الثورات تفاءل الغرب بحدوث بعض التغيير المنشود في ممارسة هذه الدول للديمقراطية؛ لكن ذلك الربيع تحوّلَ إلى كابوس مُخيف في بعض تلك الدول كمصر وسوريا وليبيا واليمن حيث عمَّت الفوضى وتدهور الأمن وارتفعت موجات الهجرة وكانت حصيلة التغيير الإيجابي تنحصر في الجانب السياسي في تونس مثلاً؛ ولأنَّ النظام العالمي هو مفهوم جيوسياسي بخلفية ليبرالية يهدف إلى إيثار التعددية الدينية على الأحادية وتبنّي قراءات متعددة للنصوص المقدسة وكذلك الدعوة إلى تعايش الدين مع الديمقراطية، فإنِّه قد حصل اندماج محدود وقبول للمسلمين في نظام العالم ولكن لم يكن مؤثّراً على المشكلات الكبيرة التي تُعانيها دولهم. وبعد تعوْلم قضايا الإسلام لدى الغرب ترددت لديهم تساؤلات منها: هل الإسلام يُشكّل عقبة للاندماج في العالم؟ ظهرت من خلاله طروحات غير واعية بحضارة الإسلام أفادت بعدم قدرته على التعايش مع الدولة المدنية ومع قِيمه الكونيّة ومع الحداثة التي كانت تنادي باستيعاب كل ما تحمله وما تقتضيه من فَصل الدين عن السياسة والمجتمع، هذا الفهم الأُحادي للحداثة والذي يهدف لصهر كافة الحضارات في نموذج الحضارات الغربية جعل بعض المفكرين مثل شموئيل إيزنستادت (1923-2010م) يطرح مقولة (الحداثات المتعددة) في مقابل الحداثة الواحدة الأوروبية الغربية، وهي مقولة تُقِرُّ بقدرة الحضارات الأخرى على إنتاج حداثة من داخلها والرفض للهيمنة الرأسمالية الغربية المتلّحفة بالحداثة.
ونتيجة لأوضاع الكثير من البلدان الإسلامية، ظهرت تأويليات دينية جديدة تمحوَرت حول الأخذ بالديمقراطية والقبول بالتعددية، ولعل تجربة بعض المجتمعات الإسلامية كماليزيا وأندونيسيا وتركيا وتونس والمغرب، أبانت أشكال التديّن الجديدة التي جاءت معظمها لإرساء هوية متصالحة مع تاريخها ومع مخزونها الحضاري. وحيث إنَّ مفهوم ما بعد العلمانية يتضمّن المراجعة وإعادة النظر في علاقة الدين بالعلمانية فإنَّ الطروحات الدينية تُسائل الحداثة مجدداً؛ لهذا يقتضي التحوّل الجاري والمتعلق بعلاقة الدين بالحداثة في الكثير من المجتمعات بعدم نفي أي منهما والتكامل فيما بينهما، كذلك إشراك المجتمع كونه الرابط بين الدين والحداثة، مع التنبُّه للتحولات التي شهدتها مضامين الدين والحداثة في الوقت الحاضر. لهذا صار من الخطأ التصادم مع العالم أياً كان شكله لأنه نهج خاسر في نهاية المطاف، وعليه فإنَّ النظرة الجامعة التي تراعي حق الجميع في المشاركة هي أنجح الوسائل لنزع فتيل الاضطرابات خصوصاً في ظل وجود مشتركات بين مختلف مكونات الأسرة الدولية باتت مقبولة بينها كحقوق الإنسان ومناهضة الظلم والتي ينبغي مراعاتها وترسيخها داخل منظورنا المعرفي والديني حتى لايحدث تضارب مع مسار العالم، وفي الختام نتفق مع ما ذهب إليه عز الدين عناية بضرورة التوجه لتطوير منظور جديد في التعامل مع الذات والعالم حتى نستطيع مواكبة ما يحدث.