عبد الرحمن الحوسني
ناقش الدكتور عبدالرحمن السالمي في مقاله "المؤسسات الدينية والمؤسسات المشتركة في صون السلم العالمي" عدة أمور، ومن أهمها: ماذا ظهر بعد الحرب الباردة من تطورات؟ وناقش أيضاً المشكلات الأساسية الناشرة للاضطراب، وهي أكبر مهددات السلم العالمي.
انتهت الحرب الباردة عام 1990م، وقد سادت في الحرب الباردة توازنات تعطيلية مجمَّدة نتيجة بروز تحالفين جبارين وقف كل منهما على الآخر بالمرصاد سواء في أعماله الخيرة أم الشريرة، وتم إنشاء المنظمة الدولية (الأمم المتحدة) وميثاقها الواعد في الحرب العالمية الثانية إضافة إلى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وبعد انتهاء الحرب الباردة ظهر أمل جديد بالعودة لنصرة القيم الإسلامية وتفعيل آليات مُكافحة الفقر والعوز والإساءة إلى البيئات الإنسانية الطبيعية، ولكن بدلاً من نظام عالمي جديد سادت فوضى دولية.
والأمر في ذلك ناجم عن تراجع الولايات المتحدة أمام الضغوط التي تعرضت لها والحروب التي شنتها وما استطاعت الانتصار فيها، مما أدى إلى ضرر كبير؛ فالنظام الدولي الجديد ينبغي أن يكون هو نظام المسؤوليات المشتركة في عدة مجالات وهي: أولا: اعتماد الحوار السلمي بين سائر الأطراف. ثانيا: الانطلاق في الحوار من مبدأ الوحدة الإنسانية. ثالثا: التأكيد بالفعل ومن طريق الحوار على وجود القيم الإنسانية المشتركة. رابعاً: اعتبار الفقر والعوز المشكلة الإنسانية الرئيسة. خامسًا: اعتبار الحرب - لبلوغ أي هدف كان - ممارسة غير إنسانية. سادسا: اعتبار التقدم الإنساني من طرق التنمية المستدامة. سابعا وأخيرا: اعتبار السلام الفردي والدولي والديني والثقافي قيمة إنسانية كبرى.
فالمجال الأول: ألا وهو اعتماد الحوار السلمي بين سائر الأطراف، هو فتح الآفاق لمستقبل إنساني مشترك ومتضامن وهكذا. فللحوار وظيفتان أساسيتان، وهما: أن يكون الوسيلة الوحيدة لمُواجهة المشكلات والتحديات، وأما الوسيلة الثانية فهي أن يكون داعية التواصل بين الأديان والحضارات. أما المجال الثاني: فهو الانطلاق في الحوار من مبدأ وحدة الإنسانية، بوصف ذلك حقيقة واقعية ناجمة عن تساوي الناس في الخلق والعرق والحق في العيش الحر والكريم. أما ثالثا: فهو التأكيد على وجود القيم الإنسانية المشتركة، ويتحقق ذلك عن طريق الحوار، فالفقهاء المسلمون يقولون: إن البشر جميعاً يتلاقون على ست قيم، وهي قيمة الحياة وقيمة الدين وقيمة العقل وقيمة الحياة الأسرية وقيمة التملك وقيمة الحرية. والمجال الرابع: أن يعتبروا الفقر والعوز المشكلتين الأساسيتين اللتين ينبغي التصدي لهما وبشكل مشترك؛ لتحقيق الحرية وصون الكرامة الإنسانية. أما المجال الخامس: إذا كان العنف بقصد الهيمنة أو فرض إرادة دولية أو تنظيم على الآخرين أرضا وحرية وسيادة فهي مُمارسة غير إنسانية. وأما المجال السادس: فهو اعتبار التقدم الإنساني هدفاً ذا أولوية مطلقة لدى الأفراد والدول والمؤسسات الدولية عن طريق التنمية المُستدامة. أما المجال الأخير: فالسلام قيمة إنسانية كبرى مؤسسة على الحرية.
إنَّ هذه المجالات السبعة هي مسؤوليات مشتركة لا يختلف عليها بنو البشر، وما حالت دون استتبابها إلا ظروف الحرب الباردة من جهة وطموحات الهيمنة من جهة أخرى. فها نحن نتطلع إلى فرص جديدة للناس كافة يخلقونها بأنفسهم ويعملون على تنفيذها وتطويرها بإرادتهم الحرة - بوصفهم جزءًا من الحرية–، ومن حق الإنسانية ومن حق المسلمين أيضًا الوصول إلى الحرية والسلام، فالحرية هي التي تتأسس على المسؤولية، وأما السلام فيتأسس على الحوار والتضامن.
أما مقولة اللاهوتي الكبير هانس كينغ فقد لقيت اهتماما كبيرا. يقول هانس كينغ: "لا سلام على المستوى العالمي إلا بالسلام بين الأديان، ولاسلام بين الأديان إلا بالحوار، ولا حوار بين الأديان إلا بوجود أخلاق عالمية". فاللاهوتي الكبير هينس كينغ هو من أتباع ((لاهوت التحرير)) الذي تصاعدت نزاعاته في أمريكا اللاتينية تحت وطأة مشكلات الفقر والاستبداد وضرورة عناية الكنيسة بها. وتقتضي هذه المقولة ثلاثة أمور، ألا وهي: أن تعود الأديان لاستكشاف رسالتها القيمية والأخلاقية، أما الأمر الثاني فهو أن يتنازل الفلاسفة والمفكرون عن مقولة استقلال العقل بإنتاج الأخلاق منفردا، والأمر الثالث والأخير هو أن يتضامن الطرفان أو الأطراف في مجالي دعم ازدواجية القيم والأخلاق والتأثير على المُؤسسات التي يقوم عليها نظام العالم، فتكون بذلك نتائج فعَّالة في سلام العالم وأمنه.
إن قسماً كبيرًا من مفكري الديانات يمضي في الحاضر باتجاه سردية جديدة في الدين، تتجاوز الاعتبارات التلاؤمية الأخلاقية، ليكون هناك ما يشبه لاهوت الحرية والسلام والعدل فلا تظل القيم الأخلاقية نابعة في الدين بل هي الدين ذاته، والسرديات الجديدة في الأديان الكبرى ليس سببها محاولة زيادة قوتها الناعمة فقط، بل ولأنها تواجه تحديات في الأصوليات التي ظهرت بدواخلها، والتي أحدثت انشقاقات تخشى القيادات الدينية أن تؤثر على روح الدين في بعض المجتمعات، والثقافات باسم الدين أيضًا.
أما المقولات الثلاث التي تقوم على السردية الجديدة التي تكونت بالتدريج من أعمال المجتهدين على مدى قرن كامل، فهي مقولة الرحمة ومقولة التعارف ومقولة الضروريات. أما مقولة الرحمة فهي في علاقة الله عز وجل بالإنسان، أما مقولة التعارف فهي في العلاقات بين البشر، أما المقولة الثالثة والأخيرة فهي مقولة الضروريات الخمس في إحقاق الرحمة والتعارف وهي: صون الحياة وصون العقل وصون الدين وصون النسل وصون الملك. وهذا الصون ليست في المجتمعات الإسلامية فحسب وإنما في المجتمعات كافة. فقد قالها الإمام الشاطبي وهو أحد كبار العلماء المسلمين: (( إنها مراعاة في كل ملة)) يعني ذلك أن كل الأديان شأنها شأن الدين الإسلامي نفسه في صون السلم العالمي، وذلك بالتعاون بين الأديان، وأيضاً إحلال العدل والمُواساة بين البشر.
أما المشكلات الأساسية الناشرة للإضراب، فهي أكبر مهددات السلم العالمي وهي خمس مشكلات أساسية، أولا: تهديدات السلم العالمي مشكلة الفقر وكانت الإحصائيات مفزعة جداً، وفي أوساط الفقراء مجتمعات ودول تعمل عشرات الوكالات والمفوضيات الدولية وبرامج طويلة المدى لمكافحة الفقر. والذي نحتاج إليه اليوم هو إحسان هذا الجزء من الروح الإسلامي العام، وأن نتشارك مع الجهات المختصة من الديانات المختلفة، والتضامن من ضمن المظلة الشاسعة للرحمة وقد قال الله تعالى ((ورحمتي وسعت كل شي )). أما المشكلة الثانية: فهي مشكلة البيئة والتي أحدثتها وتزيد فيها الصناعة والتكنلوجيا ومخلفاتهما، فهي لا تشكل ضررا في الطبيعة فحسب وإنما في الزلازل والبراكين أيضا وانتشار الأمراض والأوبئة. لذلك نحن محتاجون لمواجهة هذه المشكلة العويصة والخطرة على مصائر الأرض والبشر الذين يعيشون فيها. أما المشكلة العالمية الثالثة: فهي مشكلة الحروب على الموارد مثل الطاقة والمعادن الثمينة. والمشكلة الرابعة والخطيرة: هي مشكلة اللاجئين الذين وصلت أعدادهم في العالم حوالي سبعين مليوناً، وهذه المشكلة ناجمة عن سببين ألا وهما: الفقر والعوز. أما المشكلة الخامسة والأخيرة: فهي مشكلة أو مشكلات التميز الديني والمتضرر الرئيس هم المسلمون.
