ما بين الشعبوية والشعوبية

زينب الكلبانية

عند الحديث عن الشعبوية، وفهم تمظهراتها الإيديوثقافية، يتطلب منا القيام بحفريات لغوية حتى يسهل علينا فهمها في السياق العربي/الإسلامي في تعدديته من جهة، وفي تقاطعه من جهة أخرى مع سياقات أجنبية أخرى خاصة مع ظهور العولمة التي أجّجت الشعبوية، ودفعت البعض إلى الحديث عن شعبوية جديدة.

وهو ما تحدث عن الكاتب عبدالفتاح الزين في مقاله المنشور بمجلة "التفاهم"؛ إذ بالعودة للجذر في معجم لسان العرب لابن منظور، سنجده يشمل معنى الجمع والتفريق والإصلاح والفساد. كما استشهد المعجم بحديث ابن عمرو "وشعب صغير من شعب كبير"، أي صلاح قليل من فساد كثير. ومفردة شَعَّب (بتضعيف عين الفعل) مقابلها فرق. والشّعْب: ما انفرج بين جبلين، والشُّعبة: المسيل الصغير أو الفرقة والطائفة؛ أما شُعَب الجبال فرؤوسها: كما أن الشَّعب يعني أيضا القبيلة العظيمة، وشُعب القوم: نِيّاتُهم؛ فلكل منهم نٍيتُّه. وسمي الموت شَعوباً لأنه يفرّق بين الميت والحي. والاستنتاج الأول لهذا الاستعراض اللغوي يشير إلى أن الجذر اللغوي المذكور يتضمن الشيء ونقيضه.

وقد بدأت الشعوبية في الظهور في النصف الثاني من القرن الأول الهجري، واستمرت طوال فترة العصر الأموي، حتى اشتدت وقويت في العصر العباسي على خلفية الصراع حول الأحقية بالخلافة. غير أن الجاحظ يقول في رسالته "فخر السودان على البيضان": "إن الشعوبية لم تكن تشيع بين الفرس فحسب، وإنما طالت بقية الأمم، كالأندلسيين والزنج من أهل إفريقيا، واجتمعوا -هؤلاء- على العداء للعرب، والاستطالة عليهم، والحطّ من شأنهم". وقد وسع المفهوم ليخرجه من قالب الصراعات العربية الفارسية ليشمل بقية الأمم والمجتمعات مقابل العرب.

ودون الخوض في صحة هذه الادعاءات من عدمها، فإن أنصار الشعبوية يعزون ظهورها إلى أسباب عديدة، من بينها: ما هو اجتماعي، يتمثل باستعلاء العرب على الموالي (غير العرب الداخلين في الإسلام)، ونظرتهم إلى غيرهم من الشعوب نظرة السيد، فيزعمون أن العرب يحطون من شأن الموالي، حتى إنهم لا يمشون معهم في الصف نفسه، ولا يزوجون المولى من عربية، وإذا ما تزوج أحد الموالي من عربية يطلق على اسم ابنه لقب "الهجين" أو "الخلاسي"، وغيرها من تصرفات العرب التي كانت تحط من شأن غير العربي.

وهناك ما هو سياسي؛ إذ عمد الأمويون خلال فترة حكمهم على نبذ الموالي وإقصائهم عن المراكز الحساسة في الحكم، كما كان العرب يختارون الولاة منهم، وكذلك القضاة وأئمة المساجد، ويمنعون الموالي من الانضمام إلى الجيش العربي النظامي المؤلّف على أساس قبلي، وإذا ما اقتضت الحاجة لهم فلا يقبلونهم إلا متطوعين ومحاربين راجلين.

ومنها ما هو اقتصادي؛ حيث عاش الموالي حالة متردية من الفقر، واقتصرت أعمالهم على المهن المتدنية، في الوقت الذي كان العرب يتسلمون مفاصل السلطة ورتب الجيش. كما أن الضرائب التي فُرضت على الموالي المسلمين كان مبالغا فيها، وأرهقت كاهلهم، وقد بررها البعض بسبب الأزمة المالية في منتصف العصر الأموي.

وفي حين يرى كثير من الباحثين -بالاستناد إلى التاريخ المدون- أن هذه الأسباب لم تكن الأساس في ظهور الشعوبية؛ إذ يرجعونها إلى سبب رئيس يتمثل بتأصل العصبية القومية، وتضخم النزعات القومية الاستقلالية في نفس الموالي، والفارسية منها على وجه الخصوص.

ومع ظهور الحركات التحررية ونشوء الدول القطرية في إطار صعود إيديولوجيات جديدة في سياق التطورات، التي انطلقت مع الثورة الصناعية، بدأ نقاش حول مصطلح "الشعبي"، والذي انقسمت فيه الآراء إلى تيارين أساسيين:

رأى التيار الأول ما هو شعبي يتميز بالابتذال والسذاجة إلى حد السطحية؛ فما هو كذلك يتميز بالشفهية وسيادة التقاليد، مع الاحتكام إلى الأعراف، لدرجة أن أصحاب هذا التيار يعدونها معرقلة للتقدم الاجتماعي ومعارضة لكل تمنية وتطور، وهو ما جعلها -في نظرهم- عاملا من عوامل التخلف. لهذا؛ رأوا أنه يجب استبدال النظام الاجتماعي لهذه المجتمعات التي كان ينظر إليها على أنها مجتمعات باردة.

بينما يرى التيار الثاني أن كل ما هو شعبي هو رديف للثورة والنضالية ضد كل أشكال القهر والاستبداد والاستغلال. وهكذا ظهرت أنظمة شعبية أو اتخذت هذه الأوصاف متدثرة بها لتمرير ديكتاتوريتها ونخبويتها. هذا التأرجح في النظر إلى ما عُد "شعبيا"، وتقييمه من منظور إيديوسياسي أكثر منه فكريا وسوسيوثقافي فتح نقاشا كبيرا حول مسألة الأصالة والمعاصرة، وكيفية فهمهما في فضائنا الثقافي والعلاقات بينهما، وهذا النقاش غطّى على مختلف أشكال التعبير والممارسات.

وكخلاصة لهذا التحليل، يمكننا القول إنَّ الشعبوية تتغذى على كل ما هو شعبي في مستواه العامي الساذج والمبتذل، والذي لا يراعي التفاوتات والاختلافات، ويستبدلها بالثوابت، التي يجعلها مطلقة وقائمة خارج السيرورة التاريخية، بل إن هذه السيرورة توظف لدعم هذه الثوابت. وهو ما يجعل الشعبية والشعبوية وجهين لفكر استبدادي وصنوا للديكتاتورية.

كما أنها تنتج، بل وتعتمد على الشعبوية باعتبارها رديفا للعنصرية وتحقيرا لمكانة الأقليات العرقية أو العقدية أو الثقافية، وهو ما نلاحظه في وقتنا الحالي من تصاعد لفكرٍ شعبوي ينظر إلى الأجنبي بريبة، ولا يحترم الاختلاف، ولا يعترف بالحق فيه. ولعل التاريخ الحديث والمعاصر حافل بعدد من النماذج الشعبوية من هذا القبيل. نكتفي هنا بالإشارة إلى بعض النماذج من الأنظمة الفاشية (هتلر، وموسوليني)، والجماهيرية (القذافي، وبيرلوسكوني)، وحتى الاشتراكية منها (ستالين، وهيكو تشافيز) بل ويمكن تعميم هذا بغَض النظر عن نظام الحكم ملكيا كان أو جمهوريا.

على سبيل الختم: هل الشعبوية مرض الديمقراطية؟ في الوهلة الأولى يبدو أن مقاربة الشعبوية من خلال السيكولوجيا السياسية قد تسمح بالتعرف على عنصر مركزي مع كل ما أشرنا إليه، يتمثل في الاقتناع / الإقناع بأن هناك مؤامرة تحاك ضد الشعب (وهذا يختلف عما ينعته الإعلام بنظرية المؤامرة)، غالبا ما تكون مصادرها خارجية وأجنبية في الغالب.

وتظهر الشعبوية مثلما لو أنها ليست إيديولوجيا ورافضة لها، وضد كل ما هو إيديولوجي من أي صنف كان، بل وقد تكون هذه السلبية الإيديولوجية مهدا لرفض الرأسمالية، والإمبريالية، وكره الأجانب، والتمدن، وغالبا ما تُنعت هذه المؤامرة بأنها من فعل قُوى خفية وغامضة، ويتم شجبها بأسلوب مريب يمتح من جنون العظمة.

وتبدو الشعبوية المعاصرة بحسب تمثلنا للشعب كتراب أو عرق؛ ففي المستوى الأول تكون الشعبوية احتجاجية، ومن ثم تكون تعبئة الشعب للنقد أو إدانة النخب القائمة بحكم الواقع، سواء كانت نخبا سياسية أو إدارية أو اقتصادية أو ثقافية. وهذا الرفض للنخب لا ينفصل عن تأكيد الثقة بالشعب، الذي يعرّف كمجموع المواطنين العاديين. فلهذا، وعلى أساس التعارض بين النخب الواقعية (إن لم تكن شرعية) والشعب، يصف البعض هذا الشكل من الشعبوية بأنه مغالٍ في الديمقراطية، ويقوم بتمجيد صورة المواطن النشيط والمحترس من الأنظمة التمثيلية، والتي يرى أنها تسلبه سلطته أو تستحوذ على مبادراته. فالمعارضة بين النخبة والشعب يمكن أن تظهر في أشكال تعارض مانوية بين من هم في الأعلى (البلد الشرعي)، ومن هم في القاعدة (البلد الفعلي) وتعتمد على هذه المكانة الاحتجاجية.

وخلاصة القول.. إنَّ الشعبوية ردة فعل على أوضاع يعم فيها الخوف الجماعي عاما كان أو خاصا، كما نلاحظه في عدد من الأقطار في وقتنا الراهن. وعلى الفاعلين على اختلاف أنواعهم ألا يستسلموا لما قد تتسبب فيه من أخطار على مختلف الأصعدة.

أخبار ذات صلة