نورالدين مختار الخادمي: أستاذ التعليم العالي ومدير مدرسة الدكتوراه بجامعة الزيتونة بتونس
المقدمة:
يظل التفاهم بين أهل المذاهب الفقهية المعاصرة من أهم المطالب الإسلامية والوطنية المطروحة في اللحظة الراهنة، وفي سياق التحولات الكبيرة التي تشهدها بلادنا العربية والإسلامية. وهو يهدف إلى توحيد الجهود في الداخل الفقهي الإسلامي من أجل المحافظة على فوائد تلك التحولات وعدم الالتفاف عليها من جهة أولى، ومن أجل تجسيد مبدأ الوحدة الإسلامية والأخوة الإيمانية والتعاون في المتفق عليه والإعذار في المختلف فيه من جهة ثانية، ومن أجل استثمار ذلك التفاهم في تحويله إلى تفاهمات أخرى، وبأقدار متفاوتة مع سائر المكونات الاجتماعية والإسلامية من جهة ثالثة. وفي كل الأحوال، فإن التفاهم المذهبي الراهنسوف يكون له أثره في تفويت أسباب التشويش أو التعطيل للأولويات الإسلامية والوطنية، لاسيما والفرصة سانحة واللحظة مواتية للاستحقاق الدستوري والسياسي والمدني، ولتحصيل المعارف الشرعية والمواقع الإسلامية والمكتسبات المختلفة. وقد أقمت هذا البحث على ثلاثة عناصر كبرى:
العنصر الأول: تحديد المصطلح والمدلول.
العنصر الثاني: المبررات الواقعية لتأكيد التفاهم بين أهل المذاهب الفقهية المعاصرة.
العنصر الثالث: المشروعية الإسلامية للتفاهم بين أهل المذاهب الفقهية المعاصرة.
العنصر الأول:
تحديد المصطلح والمدلول:
المراد بمصطلح التفاهم:
يراد بمصطلح "التفاهم" وقوع الفهم المتبادل بين أهل المذاهب الفقهية، ومن متطلبات الفهم المتبادل ومن معانيه: فهم الآخر المذهبي، وتفهم مواقفه ومقارباته وحلوله، وإفهامه حقيقة المذهب الآخر، وتفهيمه أصوله وفروعه وخصائصه ومشروعيته. وكل ذلك يقع في دائرة من العلم الغزير والأدب الرفيع، والإرادة المشتركة على تجاوز مشكلات قد تطرأ بسبب الاحتكاك المذهبي، أو التوتر والاضطراب والإثارات المذهبية المختلفة. ولا يعني التفاهم المذهبي إطلاقا مسخ المذاهب والقضاء على الخصوصيات المذهبية، وحمل الآخر على ترك مذهبه واتباع مذهب آخر، وإنما يعني – كما ذكرنا- التفاهم على العيش المشترك والحوار المتبادل والتعاون الدائم؛ من أجل المحافظة على الوحدة الإسلامية، والأخوة الإيمانية، والمصلحة المشتركة، والمتطلب الحضاري اللازم. وهو ما يفيد تقرير مبدأ التقارب بين أهل المذاهب نفسيا وإراديا، وعلى صعيد تحقيق المعرفة العلمية وتحرير مصطلحاتها، وعلى مستوى العمل على تحقيق المصالح المشتركة والأوليات المهمة.
المراد بمصطلح أهل المذاهب:
أهل المذاهب الفقهية هم علماء هذه المذاهب، ومؤسساتها، والقائمون عليها، وجموع من يكون لهم رأي فيها وإسهام في نشرها والدفاع عنها والعمل بمقتضاها. وإيراد عبارة أهل المذاهب خلافا لعبارة المذاهب يأتي ليبرز أهمية دور أصحاب هذه المذاهب في تحقيق التفاهم وتفعيله وتعميقه، وذلك بحسب إرادتهم في ذلك التفاهم وحرصهم عليه، وسعيهم إلى إيجاد أسبابه ومداخله وإعمال شروطه وآدابه.
أما المذاهب الفقهية فهي كلمة اصطلاحية يُراد بها مجموع فروع وأصول وقواعد واصطلاحات فقهية لطائفة من طبقات العلماء، مؤسسين وأصحاباً وأنصاراً وأتباعاً، كما يُراد بها مجموع اتجاهات في الفهم والتفسير والاجتهاد والتنزيل، تمثل ما يمكن أن نصطلح عليه بالمدارس الفقهية، مع التفاوت الملحوظ في أحجام هذه المدارس ومعالمها وسيرورتها التاريخية ومنجزاتها الحضارية ومختلف مآلاتها ومصائرها.
وقد عرف تاريخنا الفقهي الإسلامي عدداً من المذاهب الفقهية التي تفاوتت فيما يتصل بتدوين معارفها ومضامينها، واستمرار وجودها ونشاطها، واتساع دوائر نفوذها وتأثيرها. وكان من هذه المذاهب: المذاهب الفقهية الأربعة، وكذلك مذاهب الظاهرية والإباضية والزيدية والجعفرية، ودون أن ننسى مذاهب بعض الأئمة الأعلام الذين لم يُكتب لفقههم الطابع المذهبي الذي يقوم به التلاميذ والأنصار، تدوينا وتحقيقاً، تعليماً ونشراً، دفاعاً وانتصاراً. ومن ذلك: فقه الإمام الأوزاعي والليث بن سعد وسفيان بن عيينة (1).
المراد بمصطلح المعاصرة:
أما مصطلح "المعاصرة" فتُقيد به عبارة المذاهب. ويُراد به حالة هذه المذاهب في العصر الحالي، أو قيامها في اللحظة الراهنة التي نعيشها، وما يعنيه ذلك من أمور تتصل بأحوال هذه المذاهب، وتأثرها بالواقع المعاصر وتأثيرها فيه، وإسهاماتها المختلفة، وعلاقات بعضها وبعض، وكذلك علاقاتها بمختلف مكونات المجتمع وأطيافه الفكرية والسياسية والاجتماعية..
والتحديد بقيد "المعاصرة" يهدف إلى زيادة الضبط والتحديد فيما يتعلق بتحقيق التفاهم الجدي والتعاون البنَّاء بين المذاهب الفقهية في اللحظة الراهنة، التي يكون فيها هذا التفاهم من أوكد الواجبات الإسلامية وأعظم المصالح الشرعية.
العنصر الثاني:
المبررات الواقعية لتأكيد التفاهم بين أهل المذاهب الفقهية المعاصرة:
نبين أبرز هذه المبررات فيما يلي:
- الأولويات الإسلامية والوطنية التي تلزم أهل المذاهب بضرورة الالتفات إلى هذه الأولويات وإنجازها وتحقيقها. ويكون التفاهم بين هؤلاء خير سبيل عملي لتحقيق تلك الأولويات. وهذا التفاهم قد يشمل التفاهم على أهمية تلك الأولويات ولزوم الاجتماع عليها، كما قد يشمل الاتفاق على تأجيل أي اختلاف أو نزاع قد يكون له أثره السلبي في تحقيق تلك الأولويات. ومثال ذلك: الاتفاق على حماية الثوابت الدينية والفضائل الأخلاقية والأولويات الوطنية، كأولوية إعادة إعمار المساجد، وإحياء الشعائر، وإقامة المحافل العلمية، وتعميق المعارف الشرعية، وإشاعة الثقافة الإسلامية، وأولوية صياغة الدستور الجديد الذي سيؤسس لطبيعة المجتمع المرتقب سياسياً ومدنياً وثقافياً وحضارياً، وأولوية إعادة التنمية الشاملة، وسد الحاجات الاجتماعية والاقتصادية العاجلة، ومواجهة حالات الفقر الشديد والأمراض المستفحلة، والتفاوت الفاحش بين الجهات والأقاليم، وأجواء الاحتقان الشعبي والتوتر المجتمعي بسبب الفساد وأهله والاستبداد ورموزه، وغير ذلك مما يمكن أن يشكل قدراً مشتركاً من التفاهم والاتفاق عليه.
- حالات التوتر المذهبي التي تنشأ من حين لآخر بين بعض أهل المذاهب الفقهية، وفي بعض الأحوال التي تقوى فيها درجات الانتصار إلى المذاهب أو التعصب لها، بموجب بعض الأحداث والظروف النفسية والاجتماعية والسياسية والعالمية، ومن ذلك زيادة هذه الحالات بموجب الاصطفاف المذهبي والطائفي على صعيد العمل المدني أو السياسي، أو بموجب بعض المواقف من القضايا الحساسة كقضية الاحتلال الأجنبي والهيمنة الخارجية، وقضية الاستحقاق السياسي والانتخابي وغير ذلك. كما قد تتعاظم هذه الحالات التوترية بموجب تنوع المشارب التعليمية والمنافذ الإعلامية واختلاف الرؤى والحلول المطروحة لمشكلات المجتمع ومستجدات الواقع، فيطرح هذا حلاً مذهبياً خاصاً به، ويطرح الآخر حلاً آخر يعبر عن مرجعيته المذهبية، ويظل كل واحد منها متمسكاً بحله ورأيه، ودون أن يبذل كل منهما أي نوع من التنسيق والتقارب في تحديد الرأي المشترك والحل الأنسب الذي قد يملي على كليهما التفاهم والتوافق على ذلك، وربما التصافح والتسامح والتنازل عن بعض الخصوصيات المذهبية الفقهية المقررة.
إن ظهور حالات التوتر المذهبي وتزايدها ينبغي أن يقنع أهل المذاهب بضرورة التفاهم المتزايد في أقداره وأساليبه وآدابه، بالمستوى نفسه الذي تكون عليه تلك الحالات ظهوراً وتزايداً وتعقداً وتداخلاً، وبالروحالإسلامية الإيجابية نفسها التي تبني ولا تهدم، تصفح ولا تفضح، تُفهم ولا تُلجم.
إن حالات التوتر المذهبي يلزم أن تكون أحد المبررات المقنعة بضرورة التفاهم والتوافق، لا أن تكون أحد الأسباب المغذية للخلاف والنزاع والتدابر والتفرق.
مراعاة السيادة المذهبية واستقرار المذاهب: تتسم المذاهب الفقهية المعاصرة بسيادتها في مواضع وجودها واستقرارها في بلدانها، كسيادة المذهب المالكي في الغرب الإسلامي (شمال إفريقيا وغربها)، وسيادة المذهب الحنفي في تركيا وسيادة المذهب الإباضي في سلطنة عمان، وسيادة المذهب الحنبلي في بعض بلاد الخليج، وسيادة المذهب الزيدي في اليمن... ولهذه الأنواع من السيادة والاستقرار أسبابه التاريخية والجغرافية والحضارية، وهو ما يدعونا إلى تقريره كتوصيف عام للحالة، وليس كتحليل تاريخي واستقرار واستنتاج وتحقيق وتعليق. والذي يهمنا أن هذه المذاهب قد استقرت في مجتمعاتها وسادت بين شعوبها، وأصبح هذا من الواقع الذي ينبغي تقديره في العمل المذهبي والفقهي والإفتائي، وفي الاستقرار الاجتماعي والمدني، وفي النسيج الثقافي القائم، والبناء الحضاري المتراكم. والإقرار بهذه السيادة والاعتراف بذلك الاستقرار يكون إحدى الركائز المهمة في إقامة التفاهم بين أهل المذاهب، وفي تقريره على أساس منع الرغبة في الاستبدال المذهبي أو الإلغاء المذهبي؛ أي أنه لا يجوز من الوجهة الشرعية والمصلحية والتوافقية أن يسعى المخالف في المذهب إلى العمل على تقويض المذهب السائد في البلد، واستبداله بمذهب آخر بقوة الفعل وحركة الانقلاب وشدة التحريض والتشهير والتشويش؛ فهذا السعي من الخطورة بمكان، حيث يكون العمل على إلغاء المذهب مخالفاً للشرع بوقوعه في مخالفات دينية عظيمة كمخالفة الجماعة وإحداث الفرقة بينها، وما يترتب على ذلك من تفويت مصالح الوحدة والاعتصام بحبل الله وإقامة شعائره وجلب منافعه، ويكون مخالفا للشرع كذلك من جهة إحداث الشغب والتشكك والاضطراب داخل الفئات العريضة من المسلمين، الذين يتعبدون الله تعالى بناء على مذهبهم الفقهي المعتبر، وبناء على معارفهم التقليدية التي لا تؤهلهم للتمكن من حقيقة الاختلاف بين المذاهب، وهو ما قد يحملهم على اتهام الإسلام ذاته بالاختلاف والتعارض، وربما يحملهم على أنواع من شوائب الفكر وهفوات السلوك ومنزلقات التدين.
كما يكون العمل على إلغاء المذهب مخالفاً للواقع وجمهوره ومصالحه وما استقر عليه من أوضاع طيبة وسوية، وذلك بوقوعه في مصادمة هذا الواقع، وتعطيل سيره، أو تقليل إنجازاته بسبب إشغال المجتمع بالدفاع عن المذهب السائد وصرفه عن مواصلة مسيرته ورسالته، والإخلال بالأولويات والكليات والإفراط في الفروع والجزئيات والتفاصيل التي لا تبدو لها كبير فائدة.
إن الذي يسعى إلى إلغاء مذهب سائد في بلد ما واستبداله بمذهب آخر يعتقد أولويته الشرعية والاجتهادية؛ إنما يحرث في البحر ويسبح في الأرض، فلا ظهراً أبقى ولا أرضاً قطع، وهو بفعله ذلك يضيع وقته ويبدد جهده ويفوت واجباته التي لا تنجبر عند فواتها، ويشوش على إخوانه، ويطعن في أسلافه، ويتنكر لشعبه، ويعطل مسيرة بلده وسائر الاستحقاقات الحياتية والنضالية. إن التغير المذهبي تحكمه قوانين التغيير وشروطه وسننه وآدابه، ومن قبيل ذلك التراكم التاريخي، والانتقال التدريجي، وعدم مصادمة مصالح الناس وأنظمتهم المعاشية القائمة والإرادة الباطنية، ومراعاة المصالح الشرعية، واستحضار آداب ذلك ومناهجه وإمكانياته وموازناته ومقارباته.
مراعاة التنوع المذهبي في المواطن التي لا يسود فيها مذهب معين: ومثال هذا التنوع المذهبي القائم في أوروبا وأمريكا، حيث لم يكن هناك وجود فقهي قديم آل إلى سيادة مذهب معين أو استقرار اتجاه محدد؛ وإنما قد استقرت الموجودات الفقهية المتنوعة بسبب هجرة بعض المسلمين إلى تلك البلدان واستقرارهم بها وحملهم لثقافاتهم الفقهية المذهبية المتنوعة، فقد استوطن بتلك البلدان المسلمون الشافعية والحنفية والمالكية والحنابلة والزيدية والجعفرية والإباضية...، كما أقيمت المجامع والهيئات والفعاليات الفقهية التي عكست ذلك التنوع المذهبي والاختلاف في التفقه والإفتاء والاجتهاد. وجدير بالتذكير بأن مراعاة هذا التنوع وغياب السيادة لمذهب بعينه يكون إحدى الركائز المهمة في تحقيق التفاهم بين العاملين في المجال الفقهي وفي تعظيم أقداره وآثاره، بموجب ما يقع تحقيقه وتفصيله في هذا الجانب. ويكون من الإجحاف والتعسف حمل تلك البلدان على مذهب واحد أو رأي واحد، بسبب أن المقيمين هناك ليسوا على مذهب واحد، وأنهم قد انحدروا من بلدان مختلفة وذات مذاهب متنوعة، فيكون حملهم على مذهب واحد مدعاة لتفرقهم وتدابرهم، وباعثاً على كثرة جدل قد لا ينتهي، وهرج قد لا ينطفئ. كما أن حملهم على مذهب سائد في بلد آخر غير البلد الذي يعيش فيه هؤلاء يكون مفوتاً لخير كثير وموقعاً في حرج شديد؛ وذلك للحاجة الماسة إلى أكثر من مذهب أو رأي فقهي في مواجهة تحديات تلك البلدان ومستجداتها المتكاثرة والمتشعبة، وفي تحقيق مصالح هؤلاء، ومنها المحافظة على وجودهم الإنساني والأسري والاجتماعي، وعلى وجودهم الإسلامي والحضاري. وهذا ملاحظ بشدة في تلك البلدان، حيث يقدم الفقهاء على الاختيار الفقهي والعمل بأكثر من مذهب فقهي بدلاً عن الرأي المذهبي الواح؛، وذلك مراعاة للأنسب والأصلح بناء على القواعد والمقاصد والضوابط الشرعية.
مواجهة الجهل المذهبي والأمية الفقهية: عرف عصرنا الحالي جهلاً كبيراً بالمذاهب الفقهية وبالعلوم الفقهية وبالثقافة الفقهية الواسعة والشاسعة. وفي الوقت ذاته تشبث كل صاحب مذهب بمذهبه، وادعى أنه مذهب أهل السنة والجماعة، أو أنه منهج الفرقة الناجية والطائفة المنصورة، وفي اللحظة نفسها جهل الكثيرون بمذاهبهم التي يدعون أنها مذهب الإسلام والتدين والإفتاء والتربية، فضلاً عن مذاهب غيرهم وفقهها وأصولها وخصائصها وموافقاتها ومفرداتها. وهو ما أورث في كثير من الأحوال جهلاً خطيراً وتعالماً مركباً وتحاملاً على الآخر وبغضاً له في بعض الأحوال. إن هؤلاء الإخوة -الذين وصلوا إلى ما وصلوا إليه- لو أمعنوا النظر في الفقه الإسلامي بمذاهبه ومدارسه المتنوعة وأطواره التاريخية الممتدة ومواطنه الجغرافية الشاسعة وإنجازاته الحياتية المتراكمة وإسهاماته الحضارية والعالمية المعاصرة، إنهم لو أمعنوا النظر في كل ذلك لسكتوا واستحيوا، أو لنطقوا بخلاف ما تكلموا به، ولقرروا سعة هذا الفقه وسعة نفوس أهله وسعة فكر أربابه، ولتواصوا بالتعاون والتقارب، ولتنادوا بالتفاهم والتقارب؛ ولكن الإنسان عدو ما يجهل.
ويمكنني أن أضيف مبرراً آخر يدعونا بشدة إلى التفاهم والتواصل، وليس إلى التدابر والتقاطع- وهو سعي الآخرين - المبغضين للفقه وأهله وللدين وأنصاره، إلى إيقاع العداوة والبغضاء بين أتباع الإسلام وأهل المذاهب، بما يوحون به من زخرف القول غروراً وشبهات الرأي شروراً؛ من أجل "فرِّق تَسُدْ"، و"خير وسيلة للدفاع هي الهجوم"، وأكثر من الكذب حتى تُصدق".إن هذا التحامل والتحريض على الفقهاء والمتفقهين يحتم على كافة المسلمين بمختلف مذاهبهم التفطن والتيقظ.
العنصرالثالث :
المشروعية الإسلامية للتفاهم بين أهل المذاهب الفقهية المعاصرة :
المراد بالمشروعية الإسلامية:عدُّ التفاهم أمراً مشروعاً إسلامياً؛ أي أنه أمر يحث عليه الشرع الإسلامي، وتدعو إليه نصوصه وأحكامه، وتوجهه قواعده ومقاصده، وتحكمه ضوابطه وآدابه. ولهذه المشروعية مستويات عدة قد يتفاوت في دراستها الباحثون، وقد تتنوع مداخلهم وأساليبهم في تثبيتها وتحليلها وتفعيلها. ويمكن أن نورد ثلاثة مستويات أساسية رأينا أنها جديرة بالبيان؛ لاستجابتها للمراد من بحثنا هذا. وهذه المستويات هي:
المستوى الأول: وهو التفاهم المذهبي من المراد الإلهي إلى التكليف الشرعي. والمستوى الثاني: وهو التفاهم المذهبي من الوعي الانطباعي إلى الوعي العلمي. والمستوى الثالث: وهو التفاهم المذهبي من الوعي العلمي إلى الوعي الحضاري. وهو ما نبينه فيما يلي:
المستوى الأول: التفاهم المذهبي من المراد الإلهي إلى التكليف الشرعي:
التفاهم المذهبي مراد لله تعالى:
التفاهم المذهبي مراد لله تعالى، فالله يريد من عباده التفاهم والتواصل والتلاقي على دينه وإرادته وخيره وعدله؛ ولذلك دلت نصوص الشرع الكثيرة على هذا التفاهم وتحقيق أقداره وثماره. ومن قبيل ذلك النصوص الداعية إلى الوحدة الإسلامية والأخوة الإيمانية والاعتصام بحبله والإصلاح بين الإخوة، والنصوص الناهية عن التفرق والتنازع المفضي إلى الفشل وذهاب الريح والقوة والعزة.
وكذلك فإن من مراد الله تعالى الاختلاف بين الناس بمعنى التنوع والتدافع والتكامل، وليس بمعنى التدابر والتقاتل والتناحر، فقد خلق الله عز وجل خلقه مختلفين، قال تعالى: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ.إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ" (هود ١١٨ – ١١٩) ثم إن التفاهم المراد لله تعالى هو ثمرة الاختلاف المراد له أيضا، فالتفاهم مظنة الاختلاف وثمرة التنوع في الخلق والأمر، في الطبائع والآراء والأفهام والمواقف والبرامج والأطروحات المختلفة. فكأن الدعوة إلى التفاهم هي تقرير ضمني لوجود الاختلاف الذي يمثل مرادا له سبحانه وتعالى... إن اعتبار الاختلاف المثمر مراداً لله تعالى يدلّ عليه أمران كبيران:
الأمر الأول: الاختلاف الموجود في الخلق على صعيد الأجناس والأنواع والأعراق والألوان والأشكال، وعلى صعيد الأديان والحضارات والثقافات والأنظمة المختلفة في السياسة والاجتماع والاقتصاد والعمران.. وهو ما دلت عليه الآية الكريمة: قال تعالى: "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ" (هود: ١١٨). ويسري هذا الاختلاف على كافة المسلمين بوصفهم جزءا من الخلق أو نوعاً من جنس الخلق الإنساني.
الأمر الثاني: الاختلاف الثابت في الأحكام الفقهية الظنية التي تحتمل أكثر من معنى وتستوعب أكثر من اجتهاد وتعليل وتفسير وتوجيه. وهو المصطلح عليه بالأحكام الاختلافية أو الظنية، أو الأحكام المتغيرة بسبب تغير الأعراف والعادات والأحوال والمصالح والنيات والسياقات والمآلات. فهذا الاختلاف مراد لله تعالى على سبيل التوسعة والرفق والرحمة، وبقصد مسايرة الأوضاع المختلفة وتحقيق مستلزمات صلاحية الشريعة وخلودها وشهادتها على الناس. ومما يدل على أن هذا الاختلاف مراده: قيام الأدلة الشرعية على تقريره، فلو شاء الله تعالى لجعل الأحكام قطعية دالة على معان يقينية لا يختلف فيها اثنان، ولكنه سبحانه أراد الاختلاف المحمود والتنوع المثمر لما شرع من الأحكام الظنية الاحتمالية التي تدور مع الأزمان والبلدان ومع المصالح والمنافع رحمة وتوسعة، وأراد – كذلك - الاتفاق على الأحكام القطعية والاجتماع عليها.
التفاهم المذهبي تكليف شرعي:
التفاهم بوصفه فعلاً إنسانياً يكون داخلاً في التكليف الشرعي وفي خطاب الأمر والنهي الشرعيين، وفي ترتيب الثواب والعقاب بناء على ذلك؛ أي أن القيام بالتفاهم بين أهل المذاهب والحرص عليه واستحضار أسبابه وإعمال شروطه وتحقيق مصالحه يكون عملاً صالحاً وامتثالاً لأوامر الشرع المتعلقة بوجوب الاعتصام والوحدة والأخوة والإصلاح بين المؤمنين. وكذلك فإن الاختلاف المحمود المؤدي إلى التفاهم بين المختلفين إنما هو فعل أو واقع يجري بين المسلمين، ويتعلق به التكليف الشرعي من جهة تقرير أحكامه المعروفة كحكم وجوب حسن معاملة المخالف والرفق به والإحسان إليه، وكحكم تحريم غيبة المخالف واتهامه في عرضه وسمعته، أو التشهير به والتحريض عليه. فالاختلاف كحقيقة واقعية وإنسانية هو مراد لله تعالى، والاختلاف كإدارة له وتعامل معه وتوجيه له هو تكليف شرعي يُناط به الثواب والعقاب. ولذلك شرفنا الله تعالى بهذا التكليف وجعله من أوصاف الإنسانية كوصف الحرية والمسؤولية، وكوصف الثبات على الحق -ومقارعة بالباطل- ومحاورة الخصم ومناظرة المخالف ومجادلة الآخر -الديني والمذهبي والفكري- بالتي هي أحسن.
إن التفاهم المذهبي:
حكم شرعي بوصفه أمراً واجباً أو مندوباً إليه، أو باعتبار ما يكون على خلافه ونقيضه -كالتدابر والتصادم والتنازع- محرماً أو مكروهاً، وقد يأخذ من الأحكام الأخرى بحسب قرائن ذلك وسياقاته، كأن يكون أولوية إسلامية ضرورية أو حاجية، أو يكون واجباً على الفور، ومن فروض الأعيان أو الكفاية، وهذا محل النظر والتحقيق والاجتهاد والاستنباط.
كما أن التفاهم المذهبي يكون مقصوداً شرعياً إذا نظرنا إليه على أساس أنه هدف ديني وغاية تفضي إليها وسائلها ومقدماتها، ويكون كذلك وسيلة شرعية إذا كانت تؤدي إلى غاياتها ونتائجها، كنتيجة الوحدة والاتفاق ودرء الاختلاف أو تقليله، وتعميق المودة والقوة بين العاملين في الحقل الفقهي والسائرين في طريق هدي الإسلام وتوجيهه.
وفي كل الأحوال فإن التفاهم بهذا الاعتبار يرتقي إلى درجة التكليف الشرعي، وإلى مرتبة الواجبات الإسلامية الضرورية الفورية التي قد تفرضها ظروف العصر فضلا عن نصوص الشرع. وهذا ما ينبغي التفطن إليه والاعتماد عليه في وقتنا الحاضر الذي ضعفت فيه المعرفة العلمية بمدلول الواجبات الإسلامية واتساع دائرتها وتنوع اعتباراتها.
المستوى الثاني: التفاهم المذهبي من الوعي الانطباعي إلى الوعي العلمي:
قد تحصل أقدار ضئيلة من الوعي بالتفاهم المذهبي وأهميته في تحقيق الوحدة والاعتصام والتوافق والتواصل. وقد لا تتجاوز هذه الأقدار مستوى الشعور العادي والتصور الانطباعي الذي لا يعبر عن استقرار المعنى في الذهن وامتلاك المعرفة الدقيقة له. والذي ندعو إليه في هذاالشأن تحويل الوعي بالتفاهم المذهبي من حالة الوعي الانطباعي إلى حالة الوعي المعرفي التي يكون فيها التفاهم شأناً علمياً جامعاً ومانعاً ومستوعباً لمفرداته ومسائله، ومؤصلاً ومثبتاً على قواعده وضوابطه وآدابه[i]؛ أي أن يكون هذا الوعي العلمي بالتفاهم أحد ضروب المعرفة العلمية النافعة، التي ترتقي إلى درجة الأعمال الصالحة والمصالح المعتبرة والوظائف الإسلامية المنوطة بأهل العلم والنظر، والمسندة إلى أصحاب التخصص، والموجه إلى العامة على سبيل التعليم والتثقيف.
إن حصول الوعي العلمي بالتفاهم المذهبي قد دلت عليه أمور كثيرة في مدونتنا وحضارتنا الإسلامية؛ ومن ذلك: علم الاختلاف الفقهي(5)، وعلم القواعد الفقهية الخلافية[ii]، وعلم الضوابط الفقهية الخلافية[iii]، وعلم أصول الفقه في قضايا الاجتهاد والترجيح، وقضايا الأصول المختلف فيها كأصل الاستحسان وعمل أهل المدينة، وعلم التفسير في قضايا اختلاف القراءات واختلاف التأويل، وعلم الحديث في قضايا مختلف الحديث ومختلف تأويله، وغير ذلك مما تضمنته علوم الشرع ودلت عليه مضامين تلك العلوم وقواعدها وضوابطها.
إن قيام هذه العلوم -التي تقرر الاختلاف المحمود وتؤسسه على قواعده ومناهجه وآدابه وشروطه- إنما يدل على قيام حقيقته الشرعية التي أقرته كواقع شرعي وكحكم تكليفي ومراد إلهي، يقصد به التنوع والسعة والرحمة ورفع الحرج وتيسير الدين وجلب مصالح الناس. وهو يدل كذلك على المراد الشرعي في تحصيل التفاهم بناء عليه وتأسيساً على قواعد ذلك وشروطه وضوابطه، كقاعدة: "الخروج من الخلاف مستحب"[iv]، أو: "الخروج من الخلاف أولى وأفضل"(6)، وقاعدة: "لا يُنكر تغير الأحكام المبنية على العرف والمصلحة لتغير الزمان"(7)، وكشرط "عدم الاختلاف في المتفق عليه"[v]، وأدب مراعاة الخلاف وعدم الإنكار على المخالف[vi]، فضلا عن أدب الرفق والإحسان.
المستوى الثالث: التفاهم المذهبي من الوعي العلمي إلى الوعي الحضاري:
قد يرقى التفاهم المذهبي إلى الوعي الحضاري الذي يؤهل أصحابه للقيام بدورهم في التحضر الذاتي والإنساني، ومعنى هذا: أن المتفاهمين من أعلام المذاهب الفقهية وأنصارها يستطيعون القيام بهذا التحضر؛ بناء على توافقهم على ذلك التفاهم واشتراكهم فيه، وتجنب الخلافيات التي قد تشغلهم عنه، وسعياً إلى إيجاد الأجواء النفسية والعلمية التي تؤسس لفعل حضاري بمضمون محدد ومنهج واضح.
إن مضمون التحضر أو موضوعه هو العمران البشري وعمارة الأرض، وإحداث التنمية الشاملة، وتأصيل القيم الفاضلة، وتأكيد كرامة الإنسان، وتفعيل مبادئ التعايش السلمي والتعارف البشري، والجمع بين الحرية والمسؤولية، والحقوق والواجبات، في إطار استقرار المجتمع وإنسانية الدولة ووطنيتها، وأمن العالم وأمانه وسلامه.
وإن من مظاهر الوعي الحضاري الباني لنهضة المسلم والداعم لإنسانية غير المسلم وكرامته وحقوقه: الحالة المذهبية القائمة في بعض البلدان الإسلامية والأوروبية، والتي أدت إلى قيام أفعال حضارية أسهمت في تطور تلك البلدان وتواصل سكانها ومزاولة الحرية، فضلاً عن إبرازها للسمعة الإسلامية والعربية، وتأكيدها لسماحة المسلمين وسلامهم وإنسانيتهم، خلافاً لما كان يُروج له من نعوت خبيثة وأوصاف قبيحة، تتمثل بالخصوص في كونهم أو كون بعضهم أهل عصبية عرقية وجاهلية، وأصحاب نزعة قتالية وانتقامية وغير ذلك(10)!
إن تلك الحالة المذهبية القائمة الآن في أوروبا بالخصوص قد أبرزت مدى تحضر المسلمين وإسهامهم النوعي النافع في خدمة الدول التي يقيمون بها، وتعايشهم السلمي مع سكانها ومواطنيها. وهو ما يدلل على المشرب الفكري الشرعي المذهبي، الذي أقر ذلك الوعي الحضاري على مستوى استقراره في الذهن على أساس أنه فكر إسلامي أصيل له ما يؤيده ويدعو إليه من نصوص الشرع وآثار العلماء وشواهد التاريخ، وعلى أساس أنه سلوك مستقيم ينبغي إعماله في الواقع الإنساني، ويلزم تحريكه بموجب قواعده وضوابطه ومستلزماته.
إن حصول هذا الخير في تلك البلدان تم بالخصوص على أساس الوعي أو التفاهم المذهبي القائم بين مختلف المجموعات الإسلامية المذهبية التي وفدت إلى أوروبا، والتي وجدت نفسها أمام تحد كبير يستوجب منها التوحد الإسلامي والتفاهم المذهبي، والتكتل السياسي والمدني، من أجل المحافظة على خصوصياتها ونيل استحقاقاتها، والالتزام برابطة المواطنة التي دخلوا بسببها، واستوطنوا بمقتضاها الدستوري والقانوني.
ولذلك أسهم المسلمون المواطنون والمقيمون في أوروبا في التنمية الخاصة والعامة، وحافظوا على وجودهم الحسي والمعنوي والخلقي والديني، وأفادوا بلدانهم الأصلية بإفادات مختلفة، كالإفادة المادية وبعث المشاريع الاقتصادية والتعريف بالمنتج الوطني في أوروبا، وتبادل الزيارات والخبرات، كما أفادوا أجيالاً كثيرة من الأوروبيين الذين تعرفوا على الإسلام من خلال المشهد الإيجابي والحضاري للمسلمين المقيمين في أوروبا، ومن خلال الاطلاع مع ذلك على الإسلام من مصادره ومراجعه، وهو الأمر الذي أوصل بعضهم إلى اعتناق الإسلام والتدين بمقتضاه، أو إلى التعاطف مع المسلمين وقضاياهم.
وجدير بالتذكير أن حصول هذا الوعي الحضاري وترتب آثاره الطيبة عليه إنما تم بالتفاهم المذهبي الرائع الذي جمد الاختلافات المذمومة، وأجل الاختلافات المثيرة، وأقبل على الاجتهاد الشرعي الجماعي القائم على الاختيار المذهبي والتحسين الإفتائي، بما يوافق توجيه الإسلام، ويساير مصالح المقيمين في أوروبا، وبما يجيب عن قضايا المواطنة ومشكلاتها بعمق وأصالة واتزان(11).
الضوابط الإسلامية للتفاهم المذهبي المعاصر ومستلزماته:
إن التفاهم بين أهل المذاهب الإسلامية المعاصرة ينبغي أن تحكمه جملة ضوابط وتقيمه عدة مستلزمات؛ وذلك من أجل ضمان حصول هذا التفاهم ودوامه وتحقق آثاره المرجوة.
ومن أبرز هذه الضوابط:
- أن يكون التفاهم المذهبي قائماً على أساس الإيمان بالله تعالى ومجموع أركان العقيدة الإسلامية المعروفة؛ وذلك لأن التفاهم تدعو إليه هذه العقيدة، ويحث عليه الإيمان الراسخ بالله الواحد الأحد، فهذا التفاهم يحقق مقتضيات الإيمان والعقيدة المتعلقة بتحقيق المودة بين المسلمين وتآخيهم وتوحدهم على التوحيد واتفاقهم على الإيمان والإسلام.
- أن يكون التفاهم المذهبي قائما على أساس الوحدة الإسلامية والأخوة الإيمانية، التي تظل إحدى المطالب الرئيسة والغايات الكبرى للعقيدة والشريعة ولقيام الأمة وشهودها على الناس. قال تعالى: وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُون (المؤمنون: ٥٢)
- أن يكون التفاهم قائماً على أساس هدي النبوة المباركة وتوجيهها وبيانها لأحكام الاختلاف وآدابه وسننه. ومعلوم أن الاختلاف المحمود قد حدث في زمن النبي صلى الله عليه وسلم(12).
- أن يكون التفاهم المذهبي قائما على أساس إرشاد السلف الصالح، وآثار أئمة المذاهب وأعلام الفقه ومجموع الفقهاء العالمين المتسامحين مع الآخر، المراعين للاختلاف، المتعاونين على المعروف والخير. وشواهد ذلك كثيرة(13).
- أن يكون التفاهم المذهبي قائماً على أساس متين من العلم الغزير والأدب الرفيع، والإحسان للمخالف والرفق به وعدم تحقيره أو غيبته ونميمته وتصيد أخطائه وتتبع عوراته (14)، فموضوع الاختلاف بين أهل المذاهب فقهي وفكري ومنهجي، وليس يتعلق بكرامة المخالف وسمعته وأسرته وتدينه وسلوكه، ولذلك لزم التنبيه والتنويه؛ حتى لا يتجاوز المخالف حدود خلافه ومعارضته للآخر المذهبي والفقهي.
- أن يكون التفاهم المذهبي قائماً على أساس مراعاة مبدأ الأولويات الشرعية وقانون الموازنات بين الخيارات والمصالح والبدائل والحلول؛ ففي الفقه الشرعي والواقع الحياتي شيء مقدم على شيء وأمر أولى من أمر؛ فوحدة المسلمين مقدمة على اختلافهم المفضي إلى التنازع، وأخوتهم ومودتهم أولى وأحرى. ويعد التفاهم المذهبي أحد أبرز الشروط الضرورية لتطبيق مبدأ الأولويات ولإجراء قانون الموازنات، حيث يجمد هذا التفاهم الاختلافات المذمومة التي قد تؤثر على ما هو أهم وأولى، كأولوية حماية الشعائر والثوابت الإسلامية، التي قد يتعطل أداؤها أو يختل بسبب شدة الهجوم عليها والتشكيك فيها، وكأولوية الاستحقاق المدني والسياسي، الذي قد يتأخر تحقيقه أو تتآكل أقداره إذا انشغل المسلمون بخلافاتهم المذهبية وتوتراتهم الفقهية.
مستلزمات التفاهم بين أهل المذاهب الفقهية المعاصرة:
هذه المستلزمات هي بمثابة الوسائل والكيفيات التي يمكنها أن تحقق التفاهم المذهبي وتقويه، وتفعله في الحياة الفقهية والعمل المذهبي. وأبرز هذه المستلزمات:
- المستلزمات النفسية والإرادية التي تعبر عن محبة الآخر المذهبي ومودته وعدم بغضه أو كراهيته. وهذا من أمارات الإيمان وعلامات الأخوة بين المسلمين.
- المستلزمات التربوية التزكوية الإسلامية التي ينبغي أن تسود بين العاملين في الحقل الفقهي وفي الحياة المذهبية، وذلك على نحو الإحسان للمخالف والرفق به وإكرامه وزيارته وتهنئته واحترامه وتنزيله منزلته التي تليق به، سواء على صعيد منزلة العلم والإفتاء والتوجيه، أو على صعيد منزلته الاجتماعية والإنسانية لما يكون زائراً أو ضيفاً أو مستنصحاً أو مستعيناً أو محتاجاً إلى أي أمر مشروع قد أنيط بذمة من طلب منه، في حدود المباح والمتاح.
- المستلزمات العلمية والمعرفية التي ينبغي أن تسود في تحقيق التفاهم المذهبي، حيث يكون التفاهم قائماً على المدارسة العلمية الكافية وتقديم المعارف الشرعية اللازمة التي تقنع بالتفاهم وتدفع إليه. وهو ما يجعل هذا التفاهم قائماً على قاعدته الصلبة ومتطلباته العلمية المختلفة.
- المستلزمات الإعلامية والخطابية التي ينبغي أن تسود فيها روح المسامحة الدائمة والمجاملة المحمودة والتواصي بالخير والمعروف ودوام الود بين المسلمين، وأن تستبعد منها روائح التفريق والقدح والتشويه والتشهير، وأن تزول منها سائر مظاهر التحقير للآخر الفقهي المذهبي وصور تقليل مكانته وإضعاف رأيه والطعن في التزامه وتدينه.
- المستلزمات الإجرائية العملية التي قد تدعو إليها ظروف معينة وحالات خاصة. ومن ذلك: أن يقيم أهل المذاهب إجراءات الثقة أو إعادة إجراءات الثقة بينهم، بسبب قيام التوتر والتنافر بينهم، سواء بطريق التحريض على ذلك، أو بطريق آخر ذاتي أو موضوعي، داخلي أو خارجي. ومن قبيل هذا الوضع: ظهور الاختلافات المذهبية فور التخلص من حالة الكبت السياسي والقهر الاجتماعي، فيبرز كل طرف مذهبي يدعو إلى مذهبه، وقد يكون في ذلك معارضاً لمذهب غيره أو مشككاً فيه. وهذا قد يسبب في زيادة التوتر، وربما يحصل أقدارا من التناحر والتدابر، ولذلك يتعين القيام مباشرة بإجراءات سريعة لإعادة الثقة ومنع التوتر وكبح تداعياته ومآلاته. ثم بعد ذلك يُصار إلى الحوار الجاد بعلم غزير وأدب رفيع وروح عالية من الموضوعية والصدقية.
نحو مذكرة تفاهم مذهبي:
إن الذي ندعو إليه وعلى وجه السرعة: إبرام مذكرة تفاهم مذهبي تتحدد فيها أرضية التعامل العقدي والأخلاقي والتشريعي والحضاري بين أهل المذاهب، والتشاور بخصوص المشترك المذهبي والوطني، وتعزيز أواصر الأخوة، وتمتين روابط المعرفة العلمية والاجتهادية، واستبعاد أي مظهر للتوتر والاحتقان، والتركيز على الأولويات الكبرى والكليات الجامعة، وتفويت الاستدراج والاستفزاز –من الداخل أو الخارج- لكي لا نقع في التنازع والفشل وذهاب الريح. وسوف تتاح الفرص بعد ذلك للنفير الفقهي والتناظر الشرعي، من أجل تحقيق العلم وتحرير مواضع النزاع وتقليل الاختلاف وتقرير التعايش الأخوي الرائع والتنوع المذهبي الجميل. قال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (الأنفال: ٤٦) والحمد لله رب العالمين.
----------------------------------------------------------
هوامش:
- مراعاة المصالح في المذاهب الفقهية الإسلامية، نورالدين الخادمي، مجلة التسامح، ص51، العدد 30، السنة الثامنة، 1431/2010.
- ينظر الموسوعة الفقهية الكويتية، 2/291 وما بعدها، وأدب الخلاف، عبد الله بن بية، موقع الإسلام اليوم،الأربعاء، 23 رجب 1424هـ/10 يناير 2007م
- أو علم الفقه المقارن.
- كقاعدة هل العبرة في العقود للمقاصد والمعاني أم للألفاظ والمباني؟، القواعد الفقهية، ص64، علي أحمد الندوي، دار القلم، دمشق، ط4، سنة 1418هـ/1998م. وكقاعدة العبرة بالحال أو بالمآل؟، المرجع نفسه، ص 246.
- ينظر كتب القواعد الفقهية، مبحث الضوابط الفقهية التي فيها خلاف بين العلماء.
- القواعد الفقهية، الندوي، ص32، والموسوعة الفقهية الكويتية، 2/298.
- القواعد الفقهية، الندوي، ص 229.
- جمهرة القواعد الفقهية في المعاملات المالية، علي أحمد لندوي، 2/892، شركة الراجحي المصرفية للاستثمار، ط1، سنة 1421هـ/2000م.
- جاء في الأشباه والنظائر للإمام السيوطي: "لا ينكر المختلف فيه ولكن ينكر المجمع عليه"، ط، التجارية، ص 141.
- الموسوعة الفقهية الكويتية، 2/297.
- وهذا معروف بكثرة في بعض الأفلام الأجنبية التي تصور العرب والمسلمين على أنهم قتلة ومغتصبون للأرض والعرض وغير ذلك.
- انظر على سبيل المثال ما كتبه الدكتور عبد المجيد النجار في كتابه فقه المواطنة للمسلمين في أوروبا، المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، د.ت، وما كتبه فيصل المولوي في كتابه المسلم مواطنا في أوروبا، الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، 1429/2008، وما كتبه عبد الله يوسف الجديع في كتابه تقسيم المعمورة في الفقه الإسلامي، المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث، دبلن، 2007م.
- من أبرز الشواهد على ذلك: حديث بني قريظة "لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة" واختلاف الصحابة رضي الله عنهم في معنى الحديث، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم للمعنيين.
- انظر أدب الاختلاف، عبد الله بن بية.
مما ذكره العلماء في أدب الاختلاف الفقهي بين المسلمين الأدب العقدي والأدب التربوي والأدب العلمي، أدب الاختلاف، عبد الله بن بية
[i]ينظر الموسوعة الفقهية الكويتية، 2/291 وما بعدها، وأدب الخلاف، عبد الله بن بية، موقع الإسلام اليوم،الأربعاء، 23 رجب 1424هـ/10 يناير 2007م
[ii]كقاعدة هل العبرة في العقود للمقاصد والمعاني أم للألفاظ والمباني؟، القواعد الفقهية، ص64، علي أحمد الندوي، دار القلم، دمشق، ط4، سنة 1418هـ/1998م. وكقاعدة العبرة بالحال أو بالمآل؟، المرجع نفسه، ص 246.
[iii]ينظر كتب القواعد الفقهية، مبحث الضوابط الفقهية التي فيها خلاف بين العلماء.
[iv] القواعد الفقهية، الندوي، ص32، والموسوعة الفقهية الكويتية، 2/298.
[v]جاء في الأشباه والنظائر للإمام السيوطي: "لا ينكر المختلف فيه ولكن ينكر المجمع عليه"، ط، التجارية، ص 141.
[vi]الموسوعة الفقهية الكويتية، 2/297.