السُنّة النبوية في الخوف والأمن

adli-wahid-Y9bC2h5V9c8-unsplash (1).jpg

سعاد الحكيم

منذ حوالي قرنٍ من الزمان بدأتْ تشهد المجتمعات العربية والإسلامية حَراكاً إنسانياً: أحزاباً وجمعيات ومجتمعاً أهلياً؛ حَراكاً محصوراً محدوداً وأحياناً واسعاً ممتداً، عنيفاً متقداً ظاهراً ومسلحاً، وأحياناً خافتاً خفياً دعوياً فكرياً، وتكاد تتفق كافة الأطرافِ الفاعلة في الحَراك- رغم تناقض في أهدافها وأفكارها- على ضرورة تغيير الواقع الإنساني نحو مستقبلٍ أفضل؛ ولكنها تفترق في تحديدِ العنصر الجوهريِ المعوّل عليه في عملية التغيير، هذا العنصر الذي إن بدأت به وغيّرته، لسوف يتغير كلُّ شيءٍ بالتبعية، نحو ما تراه أنه الأفضل.

وفي هذا السياق ظهرت مجموعات صغيرة أو كبيرة تُصرّ على استخدام القوة المرهبة والعنف المسلح والأسلوب القهري الغادر لإحداث التغيير، فتبيح لنفسها – باسم الإسلام – تخريب الممتلكات، ووضع المتفجرات، والمسَّ بقدسيةِ الحياة والاقتتال داخل القرى والمدن، وفيما بين بيوت العائلات وداخل المجمّعات التجارية، فتزرع الخوف والرعب وتسرق من المواطن إحساسه بالأمن والأمان، كما تعرّض المنضمين إلى مجموعاتها للهلاك المبين، واعدةً إياهم بوعودٍ ليس لها ضامن، لا من شرعٍ ولا من عقل. وكثيراً ما يقع في أسماعِنا آيةٌ قرآنية، ترددُها هذه المجموعات – الفاسدة والمفسدة – للتغرير بناسها، وهي قوله تعالى الحاكي عن عبارةٍ قالها أصحاب طالوت المقربين، يحثون بها باقي جنوده: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ﴾ [البقرة 249].

كما أن هذه المجموعات توحي لناسِها بأنها تشبه في التمثيل "أهل بدر"، الذين كانوا فئةً قليلةً في حدود الثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً  رضوان الله عليهم أجمعين، ورغم ذلك انتصروا على فئةٍ كثيرةٍ (حوالي الألف مقاتل، أي كانوا ثلاثة أضعافهم).

 

ونقول للمغرَّر بهم، أو لمن أشعرهم كلام هذه المجموعات وشعاراتها الدينية وأعمالها التخريبية بالحيرة والضياع، وأهمّه أن يعرف حقيقة الأمر: إن هذه المجموعاتِ شردتْ عن شريعة الإسلام القويم الضابطة للحراك الإنساني في حالي السلم والحرب، وحالي القوة والضعف، وأغفلتْ النهج النبويّ العظيم في تطبيق شريعة الإسلام، بإظهار ضوابطه الشرعية وأصوله الأخلاقية في حالي الحرب والسلم، وحالي القوة والضعف، كما أنها اجتزأتْ التاريخ النبوي، وأسقطتْ عمداً المرحلة المكية من حياة المرسَل لنشر الرحمة والسلام في العالمين، عليه صلوات اللهِ رب العالمين.

 

وفي سبيل تبيان السنة النبوية في السلم والحرب، والمعاهدات، والعلاقة بالآخر الديني، نتوقف عند فقرات خمس، تضع بين أيدينا جملة براهين وأدلة كفيلة بدحض العديد من حجج المجموعات المتطرفة في حَراكها العنيف المسلح المخالف للشرع والعقل:

 

الفقرة الأولى – احترامُ الرسول الكريم e للنظامِ الاجتماعي السائدِ في مكة المكرمة.

إن الرسول الكريم عليه صلوات الله، هو رسول ربّ العالمين إلى جميعِ العالمين، وهو قادر -بما أعطاه الله سبحانه من عطايا، وبما سخّر له من أمْلاك- أن يُطبق على معانديه الأخشبين(1)، ويقيمَ على أنقاض وجودهم الوجودَ الجديد لأمته؛ ولكنّه صلوات الله عليه لم يمدَّ يده الشريفة ليقلب بالقوة النظام الاجتماعيّ السائد في البلد الذي وُلد فيه ونشأ فيه وعاش شبابه فيه. هذا النظام القائم على التعصّب القبلي وما يتفرع عليه من فعالية علاقات الدم والولاء والحلف والجوار.

 

اختار صلوات الله عليه – كما يتبدّى لنا من سيرته الطاهرة طوال المرحلة المكية – أن يجعل حَراكه لنشر دعوته الحقة منضبطاً بالنظام الاجتماعي السائد في مكة المكرمة؛ ولكنه في الوقت نفسه جعل انضباطه حيّاً فاعلاً وليس استسلاماً سلبياً متخاذلاً؛ فنراه صلوات الله عليه يستفيد من تفاعله مع الآخر ضمن النظام الاجتماعي السائد للآخر؛ ليُجري تغييراً سلمياً من داخل بنية النظام نفسه، بدليل أن المؤمنين به صلوات الله عليه كانوا يزيدون ولا ينقصون(2).

وأذكرُ مثالين فقط يدلان على احترامه للتركيبة الاجتماعية المكية واستثمارها لصالح صحابته في الوقت نفسه:

  • المثال الأول: عندما أعلن أبو طالب عم النبي والذي تولى رئاسة بني هاشم وريادة قريش بعد أبيه عبد المطلب- بأنه يبسط حمايته على ابنِ أخيه ويناصره في الحربِ الوجودية التي استشعر أن رؤساء قريش سيعلنونها عليه، وأنه سيكون خصماً وحَرْباً على كل من يمسّه بأذى صلوات الله عليه، هنا لم يرفض النبيّ الأمي حمايةَ العم، بحجة أنه ليس على دينه وأنه لا يؤمن به رسولاً، وبذلك استثمر e النظام الاجتماعي ولم يُسقط دور القبيلة في حفظ حياة الشخص. ومن ثم حثَّ كلّ صحابته على تفعيل دور قبائلهم وأحلافهم في حمايتهم، ولم يفردْهم في خندقٍ واحدٍ معزولٍ ليسهّل الوصول إليهم وقتلهم أجمعين.. بل جعلهم مشبوكين بقبائلهم حمايةً لحياتهم.

لقد احترم الرسول الكريم  العصبية القبلية طوال المرحلة المكية؛ ولكنه بعد أن جمع المسلمين في أمة واحدة في المدينة المنورة، أبطل العصبية القبلية، سمة المجتمع "الجاهلي"، وأصبح أمن المسلم مشبوكاً بأمة المسلمين لا بقبيلته.

 

  • المثال الثاني: نراه صلوات الله عليه- بعد فَقْدِ الكفيلِ من عشيرته بموت عمِه أبي طالب، وازديادِ أذى صنايد قريش للمؤمنين- يذهب إلى الطائف، وهناكَ ذاق صلوات الله عليه مرارة قسوة إيذاء أهلها (من قبيلة ثقيف)، الذين أعدّوا لاستقبالِه أكوام حجارةٍ بركانيةٍ ورموه بها حتى سالتْ دماء قدميه الشريفتين على نعليه. ولكنه عند عودته إلى مكة المكرمة وقبل أن يدخلها من جديد، وفي ظلّ الخطر الظاهر على حياته الشريفة، أرسل إلى المطعم بن عَدي يطلب جواره، والمطعم قرشيٌ وسيّد بني نوفل.

إن رسول الله  لم يكن محتاجاً حقيقةً لحماية عمّه أبي طالب، ولا لجوار المطعم بن عدي، بدليلِ أنه e عندما أراد الهجرة إلى المدينة المنورة فتح باب بيته وخرج، وكان في الخارج عصبة أشداء من فتيان قريش، يحملون سيوفهم ورماحهم، ليسددوها إليه بضربة رجلٍ واحد، فيتفرّق دمُه على جميع قبائلهم. ماذا فعل e؟ أخذ حفنة من تراب في يده، وجعل ينثر منها على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات من سورة يس: ﴿يس * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ﴾، فأنامهم الله جل علاه وهم على حالهم(3).

 

لقد احترم صلوات الله عليه نظام الجوار، وأبقاه فاعلاً في مجتمع الإسلام في المدينة المنورة، إلا أنه رفعهُ إلى مستوىً من الرحمة والمساواة عظيما، فبعد أن كان المجير من شروطه أن يكون سيداً مطاعاً في عشيرته، أصبح يجير على المسلمين أدناهم، فأيما رجلٍ أو امرأةٍ، رفيعٍ أو وضيعٍ، أجار أحداً وجبتْ على جميع المسلمين إجارته(4).

 

الفقرة الثانية – احترامه e للقانون السائد/لا حرب أهلية في الإسلام

لا يوجد في المجتمع القبلي نظامٌ قانونيٌّ بالمعنى المعروف اليوم، ولكن كلّ ما أجمع عليه كبراء المجتمع وتعاهدوا على تنفيذه، وربما كتبوه في ورقةٍ وعلّقوه على باب الكعبة، فهو بمثابة قانونٍ ملزم. وقد احترم صلوات الله عليه ما تعاهد عليه صناديد قريش، عندما ألزموا بني هاشم بالعيش في شِعْبٍ من شعاب مكة، وعلقوا صحيفة في جوف الكعبة، تقول ما معناه: لا بيع ولا شراء ولا زواج ولا طعام ولا شراب لكل من تبع دين محمد(5).

ظلَّ الرسول الكريم صلوات الله عليه طوال ثلاث سنواتٍ تحت الشمس المحرقة وفي ليالي البردِ القاسية؛ ولكنه e حوّل بحكمته العظيمة هذه المعاناة لتكون بمثابة تأهيلٍ عمليٍّ للمؤمنين.

إن الإسلامَ لم يخلُ في الفترةِ المكية من رجالٍ أشداء أقوياء (كأسد الله حمزة بن عبد المطلب  أو الفاروق عمر بن الخطاب)، رجالٍ مستعدين ومؤهلين ومشتعلين حماساً للقتال، أو لاغتيال عتاة قريش واحداً واحداً، وكم عرضَ أحدهم ذلك على خيرِ الخلق عليه صلى الله.. ولكنه لم يأذنْ لأيِ أحدٍ بأي عملٍ عنيف؛ لقد كان حريصاً على أمن العائلات في بيوتها، وعلى حياة الأطفال الناظرة إلى مستقبلها، فلم يأذن بأي عنف؛ لأن العنف يستدعي العنف، وقد يتسبب في حربٍ أهلية، تسرق الأمن والأمان من جميع السكانِ الضالعينَ في أذية المسلمين وغير الضالعين.

وهذا يعني أن أيّ حربٍ أهليةٍ، أو أي تسبّب فيها، هو مخالفة لشريعة الإسلام القويم ولسُنّة الرسول الكريم عليه صلوات الله.

 

الفقرة الثالثة – اعتماد أسلوب الإقناع والحوار

كثيراً ما يُدهش المرءُ عند تلاوته لآي القرآن الكريم أو عند النظرِ في السيرة المحمدية الطاهرة وفي الحديث النبوي الشريف من أمرين:

أولهما: لكأن صناديد قريشٍ قد تفرّغوا لصدّ الإسلام وتعذيب المسلمين.

وثانيهما: عظيم صبر سيدنا رسول الله عليه صلوات الله على الحوار مع قادة قريش، ومحاولته إقناعهم بالرسالة الخاتمة.

ولعل السبب في تفرّغ كبراء قريش لأذية المسلمين هو أنهم كانوا يعملون أشهرا قليلة في العام (حوالي الشهرين أو الثلاثة) ثم يرتعون في الكسل باقي العام، فيجلسون – في الغالب - نهاراً في فناء الكعبة يترصّدون النبي الأمي؛ لأذيته أثناء صلاته أو أثناء مروره، وينصرفون ليلاً لإشباع غرائزهم بفنون المتع واللذات.

 

شهرٌ لرحلة الشتاء إلى اليمن، وشهر لرحلة الصيف إلى الشام، وما بين الرحلتين قد ينشغلون قليلاً بخدمة الحجيج، وما عدا ذلك من أعمالٍ تفرضها الحياة يتركونها للطبقات الدنيا من العبيد والخدم.

مجتمعٌ طبقيٌ، يحتقر العملَ اليدوي، ويثمّن المال والتجارة، هذا النمط الاجتماعي البشري هو الذي رفضه الإسلام، ليقيم مجتمع المساواة والأخوة في المدينة المنورة؛ مجتمعاً يحترم العملَ ويراهً شريفاً في كل الميادين، ويثمنُ الإنسان بمنفعتِه للناس، لا بماله ولا بنسبه.

 

ولا يمكننا إحصاء مئات الحوارات التي أنشأها الرسول الكريم مع أهل مكة، إما ابتداء منه صلوات الله عليه، أو استجابةً لدعوةٍ منهم. ولكننا قد لا نجد بعد البحث والتفتيش حواراً فكرياً واحداً لكبراء قريش، كل ما نجده هو التهديد والترهيب، أو المساومات والترغيب، أو محاولات الاغتيال، أو المطالبة بأنواع المعجزات ليؤمنوا به  رسولاً.

 

ومن دراسة هذه الحوارات النبوية يتبدّى لنا نهج الرسول الكريم في اعتماد الحوار الرفيق لنشر الإسلام؛ بإقناع العقول لتلتزم الإرادة بحرية، وفي المقابل نفهم لماذا يتجه إلى العنف كلُّ مقصّرٍ في الحجج، ضعيفٍ في الحوار الكلامي، حتى الوالد في عائلته قد يصبح عنيفاً عندما تنضب حجّته ويفقد اقتداره على الحوار العقلاني.

 

الفقرة الرابعة – شبكة الأمن الإسلامية المنصوص عليها في السنة النبوية

يلخص حديث نبوي شريف مقومات الحياة الطيبة في الدنيا بأسباب ثلاثة: الأمن الشخصي والجماعي، والعافية البدنية، ورزق اليوم؛ يقول: ((مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، آمِنًا فِي سِرْبِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِه،ِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا))(6).

وقد حفظ القرآن الكريم المَنّ الإلهي العظيم على أهل مكة، بأنه تعالى أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف(7). تبين بذلك ومنذ المرحلة المكية أن الأمن هو نعمة عظمى، ويستجلب العديد من النعم الحياتية، لعل أهمها: وفرة الرزق والتنمية البشرية.

 

أن تكون الأرض من مشارقها إلى مغاربها- بطبيعتها وسكانها- معمورة بالأمن والأمان، هو غاية إسلامية مبثوثة في أحكام القرآن الكريم وتعاليم الحديث النبوي الشريف. ولكن هذه الغاية مسارها طويل، وقد لا تتحقق في العاجل المنظور؛ لأن من الناس مَنْ يُفسد في الأرض ويسفك الدماء. وعلى درب هذه الغاية نجد أن الإسلام كان سبّاقاً – لأمم العالم وحكوماتها – إلى تعيين مواضع من الأرض لتكون محميّات طبيعية وبشرية وأنموذجاً لأمن الإسلام؛ محميات هي حرم آمن – أرضاً وجواً – للبشر والشجر والحجر والطير والحيوان، وهي على التعيين: مكة المكرمة والمدينة المنورة.

 

والسؤال الآن: ما طبيعة هذا الأمن الأصيل والمستقر في كوكب الأرض، والذي أشارت إليه الملائكة عندما تخوّفت عليه من نزول الإنسان خليفة في هذا الكوكب الجميل(8)؟ وما الدور المنوط بهذا الخليفة – من منظور إسلامي – لضمان استدامة الأمن في الأرض وسدّ منابع الخوف؟

 

وفي سياق الجواب نقول: إن الأمن والخوف مفهومان متقابلان، لا يجتمعان في قلب إنسان، بل يطرد واحدهما الآخر؛ فالشخص المطمئن القلب لكونه آمناً هو الذي لا يتوقع أي مكروه يخاف منه؛ إما على نفسه من القتل والاعتداء، والحرابة، وطوارق الأمراض... وإما على عِرْضه وكل ما يمس حصانة أهله وولده... وإما على ماله من السرقة واغتصاب الحقوق والأراضي... وإما على دينه من الفتن وقمع الحريات.. وإما على عقله من التضليل والتلبيس.. وهذا يعني أن منابع الخوف والأمن عند الإنسان أحاطت بها الشريعة الغراء في مقاصدها الخمسة التي استنبطها علماء المسلمين الأجلاء.

 

وقد بينت لنا النصوص القدسية أن الأمن أمنان: أمن حقيقي وأمن متوهم؛ فالأمن الحقيقي هو انعدام أي تهديد يُخاف منه على الدين والعقل والنفس والعِرْض والمال، وهو قوله تعالى: ﴿أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [يونس 62]. وقوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [الأحقاف 13]؛ وقوله تعالىمخاطباً موسى : ﴿قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الْأَعْلَى﴾ [طه 68]، وقوله تعالى: ﴿يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ﴾ [القصص 31]. أما الأمن المتوهم فهو الشعور الزائف الاستكباري بالأمن المستند إلى عدم تقدير للمخاطر الحقيقية، وهو جلي في قوله تعالى: ﴿أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ﴾ [الأعراف 97]، وقوله تعالى: ﴿أَأَمِنتُم مَّن فِي السَّمَاء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ﴾  [الملك 16]، وقوله تعالى: ﴿وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ﴾ [الأنعام 81].

 

وفي المقابل- وتبعاً للأمن- فالخوف خوفان: خوف حقيقي لوجود تهديد مباشر للإنسان، وخوف نفساني مبعثه مخاوف متوقعة وغير واقعة. وهذا الخوف الأخير هو الذي نهى عنه الإسلام؛ لأنه معوّق أساس للإنسان عن أداء مهماته الحياتية، وعن تفعيل دوره في عمارة الأرض. وهذا الخوف الوهمي- وفي حال الصحة والكفاية من المرض والفقر وغيره- مبعثه مخاوف النفس وهواجسها أو تخويف الشيطان، يقول تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران 175].

وبعد أن تبينت ضرورة الأمن للحياة الطيبة ولاستجلاب الرزق اللدني والثمرات من كل شيء، سنحاول في إشارات سريعة – يفرضها المقال – أن نرسم مروحة الأمن الإسلامي في السنة النبوية، ونجعل هذه الإشارات بمثابة المفاتيح للباحثين، فكل إشارة إن تتبّعها القارئ الباحث وجد في دواوين الحديث الشريف عشرات الأقوال النبوية التي تدعمها وتوسع مجال الرؤية فيها:

 

1"- المؤمن أمنة في الأرض: إن المؤمن في الاعتقاد هو من آمن بالله تعالى ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر والقدر خير وشره من الله. أما المؤمن – بالنظر إلى أدائه الإنساني - في الاجتماع البشري فهو الأمين المؤتمن على دماء الناس وأموالهم؛ قال الرسول الكريم  في حجة الوداع: ((أَلا أُخبِرُكُم بِالمُؤمنِ؟ مَن أَمِنَهُ النَّاسُ على أَموالِهِم وأَنفُسِهِم، والمُسلِمُ مَن سَلِمَ المُسلِمونَ مِن لِسَانِهِ ويَدِهِ، والمُجاهِدُ مَن جَاهَدَ نَفسَهُ في طاعَةِ الله، والمُهاجِرُ مَن هَجَرَ الخَطَايا والذُّنُوبَ))(9).

 

ونلاحظ أن الحديث الشريف لم يحبس أمن المؤمن على إخوانه من المؤمنين؛ بل أطلقه ليعمّ الناس جميعاً؛ وذلك لأن مجتمع الإسلام هو مجتمع تعددي لا أحادي، يعيش فيه المسلم وغير ذلك، والدليل أن الرسول الكريم عندما استقر في المدينة المنورة أمر بكتابة "صحيفة" هي بمثابة دستور ينظم العلاقات بين أهلها من مسلمين ويهود. وهذه "الصحيفة" تجري الاستفادة منها اليوم على نطاق واسع في تنظيم العلاقة مع الآخر؛ المواطن أو المجاور العالمي.

 

2"- الأمن العائلي: تتداخل عناصر متعددة ومتشابكة لجعل كيان العائلة بيئة آمنة لكل أفرادها. ولا نستطيع أن ننكر أن الرفاه الاقتصادي يلعب دوراً معتبراً في هذا المضمار، إلا أنه عند المحكّات الحياتية يسقط ليتبدّى ما تحته من حقيقة العلاقات. وعند التفتيش في النصوص الينبوعية نجد أربع قيم سلوكية تولد الأمن في بيئة العائلة، وهي: المودة والرحمة والرفق وحسن الأدب. أما البيت الذي يخلو من واحدة من هذه الأربع فقد ترك أهله فجوة يُخشى أن تتسع وتؤثر على حسن العلاقات، ومن ثَمّ على استقرار أمن العائلة؛ يقول تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [الروم 21]، ويقول الرسول الكريم e: ((إذَا أَرادَ اللهُ عزَّ وجلَّ بِأَهلِ بَيتٍ خَيراً أدخلَ عَلَيهِمُ الرِّفقَ))(10) ، ويقول أيضاً: ((أَكرِمُوا أَولَادَكُم، وأَحْسِنُوا آدابَهَم))(11).

3"- الأمن المعيشي:وجّه الرسول الكريم  الإنسان إلى العمل والربح الحلال، وإلى الانفاق على النفس والأهل والولد بحكمةٍ واعتدال دون تقتير أو بخل أو شح. فالأمن المعيشي يرتكز - في جزء كبير منه- على حجم الدخل المادي للمعيل، إلا أنه في المقابل عُرضة للضياع من جراء تبذير أو قلة تدبير. يقول الرسول الكريم: ((مِنْ فِقْهِ الرَّجُلِ رِفْقُهُ في مَعيْشَتِهِ))(12) ، ويقول أيضاً: ((السَّمتُ الحَسَنُ والتُّؤدَةُ(13) والاقتِصادُ جزءٌ مِن أَربعةٍ وعِشرينَ جُزءاً مِن النُّبوَّةِ))(14) ، ويقول أيضاً: ((لا عقلَ كالتَّدبيرِ، ولا وَرَعَ كالكَفِّ(15)، ولا حَسَبَ كحُسنِ الخُلُقِ))(16) ، ويقول أيضاً: ((الرِّفقُ في المَعيشَةِ(17) خَيرٌ مِن التِّجارَة، أَو مِن بَعضِ التِّجارَة))(18).

 

4"- الأمن الوظيفي:نلاحظ أن الأمن الوظيفي يدور على محور قيمتين خلقيتين هما: الأمانة والإتقان؛ فأمانة العامل – أو الموظف – هي أمن لرب العمل، وإتقانه في العمل هو مدعاة لاستقراره الوظيفي أو لزيادة الدخل؛ يقول الرسول الكريم: ((إنَّهُ سَيُفتَحُ لَكُم مَشارِقُ الأَرضِ وَمَغَارِبُها، وإنَّ عُمَّالَها في النَّارِ، إِلَّا مَنِ اتَّقَى اللهَ، وَأَدَّى الأَمانَةَ))(19) ، ويقول: ((إنَّ الله يُحِبُّ إذا عَمِلَ أَحدُكُم عَمَلاً أَن يُتقِنَهُ))(20).

 

5"- الأمن الاجتماعي: إن الأمن الاجتماعي في الإسلام ليس مسؤولية السلطة منفردة؛ ولكنه مسؤولية كل شخص في المجتمع، فهو شريك فاعل في الأمن الاجتماعي؛ وذلك بأن يكون رحيماً حَسَن الخُلُق، ومفتاح خير ومشكاة منفعة للآخرين دون تمييز. يقول الرسول الكريم: ((إِنَّ المُؤمِنَ لِلمُؤمِنِ كَالبُنيَانِ، يَشُدُّ بَعضُهُ بَعضاً، وشَبَّكَ أَصَابِعَهُ، أو بينَ أصَابِعِه))(21) ، ويقول أيضاً: ((لَا يَدخُلُ الجنَّةَ مِنكُم إلَّا رَحيمٌ)). قالُوا: يا رسولَ الله، كلُّنا رَحيمٌ، قال: ((ليسَ رحمةَ أحدِكُم نفسَهُ وأَهلَ بَيتِه حتَّى يَرحمَ النَّاسَ))(22). وفي روايةٍ : ((ولَكِنْ رحمةُ العامَّة))(23) ، ويقول أيضاً: ((أَحَبُّ النَّاسِ إلَى الله U أَنفَعُهم لِلنَّاس))(24). ويقول: ((الخَلْقُ كلهم عيَالُ اللّهِ فأَحَبُّ الخَلْقِ إلى اللّهِ أَنْفَعهُمْ لعِيَالِهِ))(25). ويقول أيضاً: ((لا تَحَسَّسُوا، ولا تَجَسَّسُوا، ولا تَنَافَسُوا، ولا تَحَاسَدُوا، ولا تَبَاغَضُوا ولا تَدَابَرُوا، وكُونُوا عِبادَ الله إِخوَاناً))(26). ويقول: ((رَأسُ العَقلِ بعدَ الدّين التَّودُّدُ إلى النَّاسِ، واصطِناعُ الخَيرِ إلَى كلِّ بَرٍّ وفَاجِرٍ))(27). ويقول: ((الْمُؤْمِنُ مُؤْلَفٌ وَلَا خَيْرَ فِيمَنْ لَا يَأْلَفُ وَلَا يُؤْلَفُ))(28).

6"- أمن الشوارع والطرقات:لقد سوّى الله تعالى الأرض وجعل فيها مسالك وفججاً لتكون منارات للمسافرين، وحذّر الرسول الكريم من تغيير هذه المنارات؛ لما يترتب عليها من أذى؛ يقول: ((لَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ مَنَارَ الْأَرْضِ(29)))(30). ويقاس عليها أي تغيير لعلامة أو إشارة أو لافتة تضعها الدولة مناراً للمقيم والغريب وعابر السبيل. إضافة إلى ذلك، توجد عشرات الأحاديث النبوية التي تنص على القيم الخلقية التي يتعين التحلي بها لكل من يتصدّى للجلوس في الطرقات، أو للسير فيها.

 

7"- الأمن السياسي:إن أمن المدن والقرى والدول هو خط أحمر في شرع الإسلام الحنيف، ولا يحلّ لإنسان  أو جماعة  ترويع الأهالي بثورة مسلحة، مهما كانت الظروف؛ فالدرب المفتوح – شبه الوحيد – هو التغيير السلمي لنمط التعايش أو للحكم السائد.

يقول الرسول الكريم: ((مَن أَطَاعَني فَقَد أَطَاعَ اللهَ، ومَن عَصَاني فَقَد عَصَى اللهَ، ومَن يُطِع الأَمِيرَ فَقَد أَطَاعَني، ومَن يَعصِ الأَمِيرَ فَقَد عَصَاني))(31) ، ويقول أيضاً: ((خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذينَ تُحِبُّونَهُم ويُحِبُّونَكُم، ويُصَلُّونَ عَلَيكُم وتُصَلُّونَ عَلَيهِم، وشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذينَ تُبغِضُونَهُم ويُبغِضُونَكُم، وتَلعَنُونَهُم ويَلعَنُونَكُم))، قِيلَ: يا رَسولَ الله، أَفَلا نُنَابِذُهُم بِالسَّيفِ؟، فقال: ((لا، مَا أَقَامُوا فِيكُمُ الصَّلاةَ، وإِذَا رَأَيتُم مِن وُلاتِكُم شَيئاً تَكرَهُونَهُ فاكرَهُوا عَمَلَهُ ولا تَنزِعُوا يَداً مِن طَاعَةٍ))(32) ، ويقول أيضاً: ((لا تَقْرَبوا الفِتْنةَ إذَا حَمِيَت، ولا تَعرَّضُوا لَها إذَا أَعرَضَت، واصْبِرُوا لَها إذَا أَقْبَلَت))(33) ، وعن الإمام علي كرم الله وجهه أن رسول الله قال له: ((إِنَّهُ سَيكُونُ بَعدي اختِلافٌ أَو أَمرٌ؛ فإِنِ استَطَعتَ أَن تَكُونَ السِّلْمَ(34) فافْعَلْ))(35).

 

8"- الأمن العلمي والدعوي: رفع الإسلام عالياً رتبة العلم ومكانة المعلّم من البشر، يقول الرسول الكريم عن نفسه: ((إِنَّمَا بُعِثتُ مُعَلِّماً))(36). ويقول أيضاً: ((لَيسَ مِن أُمَّتي مَن لَم يُجِلَّ كَبيرَنا، ويَرحَمْ صَغيرَنا، ويَعرِفْ لِعَالِمِنا حَقَّهُ))(37).

فالعلم حياة ونور وأمان من الفتن؛ يقول الرسول الكريم: ((سَتَكُونُ فِتَنٌ؛ يُصبِحُ الرَّجُلُ فِيها مُؤمِناً ويُمْسي كَافِراً، إِلَّا مَن أَحيَاهُ اللهُ بِالعِلمِ))(38) ، ويقول e: ((إنَّ ممَّا يَلْحَقُ المُؤمِنَ مِن عَمَلِهِ وحَسَناتِهِ بعدَ مَوتِهِ عِلماً علَّمَهُ ونَشَرَهُ ))(39)

أما خُلُق الإسلام في العلم والتعلُّم والتعليم فيتجلّى في قيم عديدة، وفي آدابٍ اعتنى السلف الصالح بجمعها وحفظها وتدريسها لطالب العلم، ونكتفي هنا بالإشارة إلى قيمتين هما: التيسير والتدوين. يقول الرسول الكريم: ((يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا))(40) ، ويقول أيضاً: ((إنَّ أَحَبَّ الدِّينِ إلَى الله الحَنِيفِيَّةُ السَّمْحَةُ))(41) ، وفي شأن التدوين أخرج الترمذي أنه كان رجل من الأنصار يجلس إلى رسول الله فيسمع منه الحديث، فيعجبه ولا يحفظه، فشكا ذلك إلى رسول الله، فقال:  يا رَسولَ الله، إِنِّي لَأَسمَعُ مِنكَ الحَديثَ فيُعجِبُني ولا أَحفَظُهُ، فقال رَسولُ الله: ((اِستَعِنْ بِيَمِينِكَ، وأَوْمَأَ بِيَدِه لِلخَطِّ))(42).

 

ونختم هذه الفقرة الرابعة بالقول:

نتوقف هنا لا لأننا استوفينا خيوط شبكة الأمن في السنة النبوية؛ بل لأن المقام لا يحتمل المزيد، وقد أشرنا في حدود المتاح إلى الخيوط الكبرى.إن خزائن الحديث النبوي الشريف هي معين متدفق، وكلما تكشّفت مجريات الحياة الحديثة عن مخاطر جديدة(43) زادت همة علمائنا على الغوص والتحليق في أعماق وآفاق النص النبوي.

الفقرة الخامسة – المسلمون في الحبشة

هذه القطعة من تاريخ المسلمين التأسيسي هي حجةٌ في مواجهة كلّ صوتٍ يرتفع اليوم ليقلب نظام حكم مستقر، ويقول للمسلم- ونحن سمعناه كثيراً- إن صومك وصلاتك وعبادتك غير مقبولة؛ لأنك تعيش في وطنٍ حكومته غير إسلامية.

لقد أذن الرسول الكريم للمستضعفين من المسلمين في مكةَ المكرمة بالهجرة إلى أرض الحبشة، وطمأنهم بأن فيها ملكاً لا يُظلم عنده أحد.

حفظَ المهاجرون - بأقوالهم وأفعالهم - للأجيال كافةً أصول الإسلام في العيش داخلَ مجتمعٍ غير مسلم، وأدوا الأمانة بإعطاء صورة جميلة وحقيقية عن الإسلام، ونعدّ أقوالهم وأفعالهم من أصول الإسلام؛ لأن الرسولَ الكريم أقرّهم عليها، وإقرارُه شريعة.

ظهرتْ هذه الأصول بدايةً في كون المهاجرين طلبوا من الحاكم قبول الإقامة في بلده (ولم يدخلوا خلسةً وبشكل غير قانوني)، ثم مارسوا عباداتهم، وأقاموا كيانهم الاجتماعي المشدود بنظام الإسلام، ضمن المجتمع الكبير الذي نزلوا بين أهله (حملوا أمانة صورة الإسلام المنعكسة لدى الآخر من خلال تصرفات المسلمين)، ثم نسجوا أواصر مودةٍ مع أهل الحبشة (لم يتعرضوا لأحدٍ بأذى، ولم يستبيحوا الأموال والدماء بحجة أنهم غير مسلمين).

واللافت للنظر - وهذه هي الحجة الشاهد- أن النبي الأمي صلوات الله عليه عندما أمر بالهجرة إلى المدينة المنورة، لم يأمر المسلمين المهاجرين في الحبشة بذلك. بل ظل قسمٌ كبير منهم إلى السنة الخامسة للهجرة وربما بعدها بقليل، وحاشا لله سبحانه أن يكون الرسول الكريم قد تركهم صدفةً أو نسياناً لهم، كلُّ شيءٍ مقصودٌ لرسول الله، وكلُّ فعلٍ وتركٍ فهو منه سنةٌ وشرعة.

إذن، نجد في هذا الإقرار النبوي فسحةً للمسلم – في عصرنا – في أن يقيم حيث تقيمه الظروف وإنْ في دولةٍ غير مسلمة، ولكن ضمن شرطين هما: توفّر العدالة وضمانُ الحريات؛ فهذان الشرطان تحقّقا للمسلمين في مجتمع الحبشة؛ فالملِكُ لا يُظلم عنده أحد، والمسلمون كانوا يتمتعون بحريةٍ تسمح لهم بممارسة عباداتهم، وبالمحافظة على خصوصيتهم ضمن المجتمع العام.وعند فقدان شرطٍ من هذين الشرطين يتعينُ على المسلم أن يرحل (لا أن يخرّب النسل والزرع)، فأرضُ الله واسعةٌ، ومجتمعاتُ الإسلام  اليوم منتشرةٌ.

 

وختاماً نقول:

إن السنة النبوية القويمة – في مكة المكرمة – واضحة البيان بأنه لا يحق لأي جماعة مسلمة ترويع الناس وممارسة العنف والتسبب بثورات غير محسوبة وربما بحرب أهلية، وإن كانت هذه الجماعة مقيمة في وطنها الأم، ورأت – بالتأويل – أن المجتمع القائم "جاهلي" وأن الحكم المسيطر "جاهلي". وهذا لا يعني قتل كل محاولة للتغيير بل يعني وجوب تبني سياسة التغيير السلمي من داخل بنية المجتمع القائم.

إن السنة النبوية القويمة – في المدينة المنورة – أسست لشبكة أمن وأمان، يبدأ نسيج خيوطها من الإنسان الشخص، وتمتد لتشمل عائلته، ومحيط أهله وجيرانه وبيئة السوق والعمل وسلامة الأرض والزرع، والطبيعة بمياهها وهوائها وحيوانها وأشجارها.

إن النصوص النبوية في الخوف والأمان جاهزة دانية قطوفها في معظم الأحوال، وأيضاً حاملة لإمكانات استنباط غير محدودة لمواكبة تطور الحياة على كوكب الأرض. والأهم في الأمر، ألا يُترك الموضوع رهن التداول العلمي، بل يصل إلى كل إنسان عبر برنامج ترشيد متكامل؛ ليعرف كل مواطن أن الحفاظ على الأمن وعدم التسبب بأي خوف على الحياة أو الصحة أو المال أو العرض أو العقل أو الدين هو جزء من ممارسته لدينه وإيمانه.

***

هوامش:

(1) الأخشبين: وَهُمَا جَبَلَا مَكَّةَ:أَبُو قُبَيْسٍ، وَالْجَبَلُ الَّذِي يُقَابِلُهُ، صحيح مسلم بشرح النووي،ص 486.. وعن عُرْوَة أَنَّ السيدة عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا زَوْجَ النَّبِيِّ e،أَنَّهَا قَالَتْ لِلنَّبِيِّ e: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ؟ قَالَ: لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ وَكَانَ أَشَدَّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ، إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلَالٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ، فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلَّا وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي، فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِلِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ. فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ، فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ: يَا مُحَمَّد،ُ فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ، إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمْ الْأَخْشَبَيْنِ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ e: بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلَابِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لَا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا.. صحيح البخاري، كتاب بدء الخلق، حديث رقم 3059.

(2) عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ أَخْبَرَهُ قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْب، أَنَّ هِرَقْلَ قَالَ لَهُ: سَأَلْتُكَ هَلْ يَزِيدُونَ أَمْ يَنْقُصُونَ فَزَعَمْتَ أَنَّهُمْ يَزِيدُونَ وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حَتَّى يَتِمَّ، وَسَأَلْتُكَ هَلْ يَرْتَدُّ أَحَدٌ سَخْطَةً لِدِينِهِ بَعْدَ أَنْ يَدْخُلَ فِيهِ فَزَعَمْتَ أَنْ لَا وَكَذَلِكَ الْإِيمَانُ حِينَ تُخَالِطُ بَشَاشَتُهُ الْقُلُوبَ لَا يَسْخَطُهُ أَحَدٌ.. صحيح البخاري، كتاب الإيمان، حديث رقم 51

(3) انظر القصة في السيرة النبوية لابن هشام، طبعة دار الجيل، بيروت 1975، ج2، ص 91.

(4) عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ النَّاسَ عَامَ الْفَتْحِ عَلَى دَرَجَةِ الْكَعْبَةِ فَكَانَ فِيمَا قَالَ، بَعْدَ أَنْ أَثْنَى عَلَى اللَّهِ أَنْ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُّ حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الْإِسْلَامُ إِلَّا شِدَّةً،...يَدُ الْمُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ ... يُجِيرُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَدْنَاهُمْ وَيَرُدُّ عَلَى الْمُسْلِمِينَ أَقْصَاهُمْ، ثُمَّ نَزَلَ.. مسند أحمد، مسند المكثرين من الصحابة، حديث رقم 6973.

(5) انظر بشأن خبر الصحيفة: ابن هشام، السيرة النبوية، ج2، ص 3 وما بعد.

(6) سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، حديث رقم 4141.

(7) يقول تعالى [قريش 1 – 4]: ﴿لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ * إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاء وَالصَّيْفِ * فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ * الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾.

(8) الإشارة إلى قوله تعالى حاكياً تخوّف الملائكة: ﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ﴾ [البقرة 30].. إن عبارة الملائكة تدل ضمناً على أن الأرض قبل نزول الإنسان فيها كانت بيئة آمنة.

(9) مسند أحمد، باقي مسند الأنصار، حديث رقم 234438.

(10) مسند أحمد، باقي مسند الأنصار، حديث رقم 23906.

(11) سنن ابن ماجه، كتاب الآداب، حديث رقم 1211.

(12) مسند أحمد، مسند الأنصار رضي الله عنهم، حديث رقم 21188.

(13) التُّؤدة : الرِّفق .

(14) سنن الترمذي، كِتَاب الْبِرِّ وَالصِّلَةِ عَنْ رَسُولِ اللَّهِe، حديث رقم 2010.

(15) الكَفُّ : العَفافُ .

(16) سنن ابن ماجه، كتاب الزهد، حديث رقم 4218.

(17) الرِّفقُ هُنا : الاقتصادُ والتَّعفُّف .        

(18) البيهقي، شعب الإيمان، ج5، ص 252، حديث رقم 6556.

(19) مسند أحمد، باقي مسند الأنصار، حديث رقم 22599.

(20) البيهقي، شعب الإيمان، حديث رقم 5312 و4915.

(21) صحيح البخاري، كتاب المظالم، حديث رقم 2314، وكتاب الصلاة، حديث رقم 467.

(22) البيهقي، الآداب، حديث رقم 32.

(23) الحاكم النيسابوري، المستدرك على الصحيحين، ج4، ص 168.

(24) الطبراني، المعجم الأوسط، ج 4، ص 360، حديث رقم 6026؛ والمعجم الصغير، ج 2، ص 106، حديث رقم 861.

(25) الطبراني، المعجم الكبير، ج 10، ص 86.

(26) صحيح مسلم، كتاب البر والصلة والآداب، حديث رقم 2563.

(27) شعب الإيمان، ج 6، ص 256، حديث رقم 8062.

(28) مسند أحمد، باقي مسند المكثرين، حديث رقم 8945.

(29) مَنارُ الأَرضِ: المنارُ: العلامةُ التي تَكونُ على الطُّرُق، وقد لُعِنَ من سرقَها أو شوَّههَا. 

(30) صحيح مسلم، كتاب الأضاحي، حديث رقم 1978.

(31) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، حديث رقم 3417.

(32) صحيح مسلم، كتاب الإمارة، حديث رقم 1855.

(33) الهيثمي، مجمع الزوائد، ج 7، ص 305.

(34) أي الصَّابرَ المُسالِم.         

(35) مسند أحمد، مُسْنَدُ الْعَشَرَةِ الْمُبَشَّرِينَ بِالْجَنَّةِ، حديث رقم 697.

(36) سنن ابن ماجه، كتاب المقدمة، حديث رقم 229؛ وسنن الدارمي، المقدمة، حديث رقم 349.

(37) مسند أحمد، باقي مسند الأنصار، حديث رقم 22249.

(38) سنن ابن ماجه، كتاب الفتن، حديث رقم 3954، وسنن الدارمي، المقدمة، حديث رقم 338.

(39) سنن ابن ماجه، كتاب المقدمة، حديث رقم 242.

(40) صحيح البخاري، كتاب العلم، حديث رقم 69.

(41) الطبراني، المعجم الأوسط، ج7، ص 229.

(42) سنن الترمذي، كتاب العلم، حديث رقم 2666.

(43) مخاطر تتعلق بالأمن الغذائي، والأمن البيئي، وأمن الأنهار والبحار والبحيرات والآبار، والأمن الإعلامي والتواصلي.. باختصار، ينهض أمن إسلامي قيمي – للباحثين – في مواجهة أي خوف أو خطر يطرأ مع توسع مجالات الحياة ومع التقدم العلمي الحثيث.

أخبار ذات صلة