رأس المال الثقافي... مقاربة سوسيولوجية

زينب الكلبانية

يُعد «بيير بورديو» (2002-1930م) من أهم علماء الاجتماع خلال السنوات الأخيرة، وذلك من خلال النظر إلى الإنتاج السوسيولوجي الغني والمتنوع الذي خلّفه لنا، وقد كرَّس قسما كبيرا من هذا الإنتاج لعلم الاجتماع الثقافي، وبشكل أكثر دقة لتحليل الممارسات الرمزية، وقد تناول هذه الفكرة على المستويين النظري والميداني، بالاعتماد على جهود امتدت لسنوات طويلة. وهذا ما ناقشه الباحث خالد كاظم أبو دوح في مقاله المنشور بمجلة «التفاهم».

إذ يعد مفهوم رأس المال من المفاهيم المحورية في فكر "بورديو" ولم يتعامل مع هذا المفهوم من خلال معناه التقليدي الاقتصادي فحسب – سواء أكان هذا الرأسمال وراثيا أم مكتسبا – ولكنه نظر إلى أن هذا المفهوم يمنح الفاعل قوة اجتماعية داخل الفضاء الاجتماعي، ورأس المال الثقافي.

سنحاول في هذا المقال تقديم رؤية تحليلية نقدية لمفهوم رأس المال الثقافي، خاصة مع ذيوع استخدام هذا المفهوم في السوسيولوجيا المعاصرة، على المستويين النظري والإمبيريقي. يشير مفهوم رأس المال الثقافي إلى الموارد التي يحوزها الفاعل الاجتماعي من خلال علاقته بالثقافة، سواء كانت هذه المواد موروثة من خلال كل ما يحوزه الفرد من عملية التنشئة الاجتماعية، مثال اللغة، وعناصر البنية العقلية "أنماط التفكير، الاستعدادات، نظم المعاني"، أو المكتسبة من خلال المؤهلات التعليمية، وتقاس قيمة كل مؤهل هنا بالاعتماد على عدد السنوات التي يقضيها الفرد في التَّعلُم.

جاءت جماعة الفيزيوقراط ومن بعدهم "آدم سميث" ليحرروا مصطلح رأس المال من اقتصاره على رأس المال النقدي، ليشير إلى المال والأدوات وأغراض أخرى، واستخدم آدم سميث مفهوم رأس المال ليشير إلى جميع متطلبات الإنتاج التي تُحقق الدخل، وجزءٌ من هذه المتطلبات – والذي يُعد جزءًا من رأس المال – يتمثل في القدر المناسب من المهارات التي يمتلكها الأفراد، الذين يكون لديهم القدرة على توظيفها بكفاءة، وهو ما يتم التعبير عنه بمفهوم رأس المال البشري. ولقد تعامل علماء الاقتصاد البورجوازيون الكلاسيكيون التابعون لريكاردو مع رأس المال بوصفه عملا متراكما وناتجا عن جهود الإنتاج السابقة. ويأتي بعد ذلك إسهام كارل ماركس الذي يتعامل مع رأس المال بوصفه القيمة الفائضة الناتجة عن استغلال العمال المأجورين، فرأس المال ليس في حد ذاته وسيلة للإنتاج، بل هو علاقة اجتماعية بين الطبقات الرئيسة في المجتمع البورجوازي، وعلاقة استغلال بين مالكي وسائل الإنتاج والعمال المأجورين.

وعلى الرغم من أن بورديو هو من صاغ مفهوم رأس المال الثقافي؛ فإنَّ فكرة الثقافة – التي تمثل مصدرا من مصادر المكانة والقوة – كانت موجودة ومتأصلة في النظرية الاجتماعية، خاصة الفكر المرتبط بالطبقات في أعمال كل من "ماكس فيبر" و"إيميل دوركهايم". فلقد كتب فيبر بشكل موسع حول ما أطلق عليه جماعات المكانة، ويقصد بهم الأفراد الذين تجمعهم ثقافة المكانة الواحدة أو المشتركة؛ أي الذين يمتلكون الهوية والقيم والأذواق الجمالية نفسها، وكذا أشكال الزي، والخطاب...إلخ، ويعد ذلك بالنسبة لهم مصدرًا للشرف والتميز والتكريم.

ومن الفكر الدوركهايمي اشتق بورديو فكرة أن الثقافة ذات المركز الاجتماعي والمكانة الرفيعة لها سمة القدسية؛ أي أنها تنأى بنفسها عن العالم الواقعي اليومي، كما أنها تُشكل مجموعة الرموز الثقافية التي تمثل قوة الجماعة بأسلوب مادي وجذاب ومقنع.

وجوهر مفهوم رأس المال الثقافي لدى بورديو من خلال استخداماته لهذا المفهوم في أعماله عن فرنسا المعاصرة – هو معرفة الفرد بالثقافة الجمالية المتميزة ذات المركز الاجتماعي الرفيع وإدراكه لعناصرها، مثل ذلك الفنون الرفيعة، والثقافة الأدبية، والقدرة اللغوية. ويذهب بورديو إلى أنَّ رأس المال الثقافي يتمثل في ثلاثة أشكال هي:

الأول: الحالة المادية المتحدة أو المجسمة: وهي الحالة التي تتعلق بترتيب وتنظيم العقل والجسد، وهي تتطلب من الفرد بذل الوقت والجهد بهدف تكوين ومراكمة رأس المال الثقافي، ويبذل الفرد هنا الوقت والمجهود؛ وذلك من أجل الارتقاء الذهني والاستيعاب.

الثاني: وهو الحالة الموضوعية، مثال البضائع الثقافية (الصور، الكتب، والقواميس...إلخ)، ويعني هذا أنَّ رأس المال الثقافي يتمثل في الأشياء المادية، ولذلك فهو قابل للنقل من حيث ماديته، وهنا يؤكد بورديو على وجود علاقة ما بين هذا الشكل من رأس المال الثقافي ورأس المال الاقتصادي؛ حيث إن ملكية الفرد لمثل هذه الأشياء المادية تطلب منه أيضًا ملكية رصيد من رأس المال الاقتصادي.

الثالث: وهي الحالة التنظيمية، وهي حالة التكوين العضوي، والتي تقدم خصائص وسمات رأس المال الثقافي، كما في المؤهلات العلمية، وهذه الأخيرة هي إحدى الطرق لإثبات حقيقة امتلاك الفرد لرأس المال الثقافي.

وهذه الحالة هي التي تفرق بين رأس المال الخاص بالتعليم الذاتي، ورأس المال الثقافي الخاص بالجماعة الحاكمة، والذي قد يتحصل على فوائد قليلة في سوق التبادل الاجتماعي، ورأس المال الثقافي المقرر أكاديميا من خلال المؤهلات العلمية المعترف بها رسميا، وهذه الأخيرة هي التي تمنح لحائزيها قيمة مضمونة وشرعية، ويشكل هذا جوهر الاختلاف ما بين المنافسة المعروفة رسميا وشرعيا، وبين رأس المال الثقافي البسيط والذي يحتاج إلى إثبات ذاته باستمرار.

تعد قابلية أشكال رأس المال إلى التحويل أو التدوير والتبادل هي أساس الإستراتيجية التي تهدف إلى التأكيد على إعادة إنتاج رصيد رأس المال، أو زيادة منافع الفرد وعوائد رصيده من رأس المال الذي في حيازاته. ولقد أولى العديد من العلماء هذه العملية كثيرا من الاهتمام، فمن خلال رأس المال الاجتماعي يستطيع الفاعلون أن يحوزوا المواد الاقتصادية، مثل القروض والإعانات، ويستطيعون تنمية رأس مالهم القافي عبر صلاتهم وعلاقاتهم مع الخبراء والأفراد ذوي الثقافة أو أصحاب الأرصدة العالية من رأس المال الثقافي.

ومن ناحية ثانية يتطلّب تراكم رأس المال الاجتماعي لدى الأفراد استثمارا لكل من الموارد الاقتصادية والثقافية. وهُناك يُشير إلى أن الفاعلين في أي مجال يسعون وراء مصالحهم ومنافعهم، سواء أكان ذلك بوعي منهم أو دون وعي، ودائما يوجد صراع من أجل الحفاظ على هذا التوزيع المتفاوت واستمراريته، أو إعادة إنتاجه بشكل آخر، ويتضمن هذا الصراع محاولات مستمرة تهدف إلى تحويل رؤوس الأموال من شكل إلى آخر.

ويُمكن أيضا تحويل رأس المال الثقافي إلى رأس المال الاجتماعي أو رأس المال الاقتصادي؛ فالطبيب النفسي الذي يحصل على مؤهلات علمية عالية في تخصصه، ويمتلك مهارات مهنية عالية، يمكن له أن يحقق ذيوعا وانتشارا في مهنته أكثر من أي طبيب آخر، وهذا يمكنه من حيازة رصيد كبير من رأس المال الرمزي ورأس المال الاقتصادي.

ليس هذا فحسب بل من الممكن لمن يحوز رصيدا مناسبا من رأس المال الثقافي أن يصبح من نخبة مجال السلطة العام؛ ففي بولندا، كشفت إحدى الدراسات عن أن جماعات النُخبة التي ترتكز على رأس المال الثقافي استطاعت أن تحقق نجاحات واسعة في المسرح السياسي البولندي، ودعهما في ذلك تلك التحولات السياسية والاقتصادية التي شهدها المجتمع البولندي في الآونة الأخيرة، ومجمل هذه التحولات دعمت من المكانة الاجتماعية للأفراد الذين يمتلكون رصيدا كبيرا من رأس المال الثقافي، هذا الرصيد هو الذي سمح لهم بإحكام سيطرتهم على الحياة السياسية.

 

أخبار ذات صلة