التوفيق بين العقل والوحي في قراءة النصوص الدينية

رية بنت سليمان الخزيرية

نظرا لأنَّ علم التأويل يعتمد على قراءة النصوص الدينية؛ كونها تحتوى على المعنى الخفي غير الظاهر، ومحاولة مختلف الديانات فهم النصوص المقدسة وتفسيرها وتأويلها؛ ظهرتْ عدة اتجاهات يعتمد بعضها على الاتجاه العقلي، والبعض الآخر على الوحي ومعرفة الصلة فيما بينهما. يَرِد في هذا المقال أهم ما ذُكِر في بحث الكاتب محمد بنعمر، الذي نشرته مجلة "التفاهم" تحت عنوان "التأويلية وقراءة النص الديني".

يُناقش الكاتب التأويلية بصفتها منهجا يهتم بنقد النصوص الدينية، إضافة إلى بيانها وتفسيرها، وظهرت في أوروبا لأول مرة بين جدران الكنائس؛ وذلك لمناقشة النصوص الدينية ومعرفة مدى صحتها من حيث مصدرها وأصولها وتثبيت ما تم نقله من الإنجيل شفهيا بالكتابة والتدوين.

ارتبطتْ التأويلية بفهم النص الديني المسيحي لمعرفة ما تشير إليه تلك المفاهيم من معان ودلالات في القديم أصبحت دلالات جديدة في النصوص المقدسة؛ مما جعلها غامضة مع مرور الوقت، وتحتاج إلى فهم جديد. وللخروج من هذه الإشكالية، دعا دعاة التأويلية إلى ضرورة الخروج بطريقة منهجية لفهم هذه النصوص المقدسة، وإزالة الغموض عنها، وفهم المعنى الخفي لها؛ ومنها: ظهر "علم التأويلية".

ويرى الكاتب أنَّ هناك مجموعة من النتائج التي أسفر عنها هذا النقد في الثقافة الغربية؛ فهذه النصوص الدينية لم يكتبها مؤلف واحد، بل عدة مؤلفين عبر امتدادات زمنية مختلفة، عاشوا ظروفا وأزمنة مختلفة ومتباعدة، إضافة إلى أنَّ هذه النصوص متباعدة في لغتها وأسلوبها ودلالة ألفاظها؛ فهي لا تتماشى مع المستجدات الحديثة المعاصرة.

وعليه، ولتدارك هذا الخلل في فهم دلالة النصوص في الإنجيل وتقريب المعنى، فإنه لزم بالضرورة قراءة متعددة تُجِيز تعدد المعنى، وتتجنب القراءة الأحادية التي تلغي التنوع الدلالي للنص وانفتاحه على معنى مناسب. ومن هنا، لا يكون لقارئ النصوص المقدسة أي سلطة في تأويلات النصوص الدينية، وهذا بالطبع لن يكون في صالح النصوص الدينية التي تختلف من حيث الكم والكيف، وتختلف في مفاهيمها ودلالاتها وتضطرب معانيها.

من ناحية أخرى، لا بأس باختلاف التفسير وتنوعه، ما دام هناك وضوح في دلالة النص الديني. ويناقش الكاتب الأفكار التي حملتها التأويلية بأنَّ السُّلطة ليست للنص، وإنما للقارئ؛ فبإمكانه أن يضفي على النص أفكاره ويطوعه وفق اختياراته بما يقدمه من معان؛ فمن هنا كانت نشأة التأويلية لمحاولة فهم النص المسيحي بما يحقق الانسجام والتوافق بين النص الديني وقيم العصر وبين النص الديني وقارئه بما يزيل العتمة والغموض.

ويرى الكاتب أن أكبر مُنعطف ومسار وجده هو انتقال المنهج التأويلي من نقد النصوص الدينية إلا نقد النصوص البشرية خاصة النصوص (الأدبية - الفلسفية)؛ وبالتالي فإنَّ هذا أتاح للمنهج الاتساع من دوائر علم اللاهوت إلى عالم النصوص الأدبية؛ وذلك نظرا لما يتميز به من "وسائل علمية ومنهجية في قراءة ونقد النص الأدبي". ونتيجة لهذا الانتقال في المنهج؛ أدى إلى التجانس بين النصوص الإلهية والنصوص البشرية؛ بحيث يربط القارئ الذي له سلطة في الحكم على النصوص المقدسة وفقا لمرجعتيه الفكرية.

ولوجود التقارب بين الثقافة الغربية والثقافة العربية الإسلامية؛ دعا كثير من المثقفين والباحثين في قضايا التفسير والتأويل إلى قراءة النص القرآني وفق الشروط والمبادئ الموضوعة للمنهج التأويلي، على أن يتم مراعاة النص ومصدريته. ومن أجل الوقوف على طبيعة هذا المنهج وملابساته وإمكانياته المعرفية والمنهجية، تمَّ عقد مقابلة مع الدكتورة رقية جابر العلواني التي عملت على نقد المنهج وقراءته تطبيقا وترجمة، وقد تجسد ذلك في مؤلفاتها وبحوثها. أوضحت في البداية أنَّ قضية التأويل والفهم تعود في جذورها لمحاولة الفهم في تحديد الصلة بين العقل والنص، وهي إشكالية قديمة بين فلاسفة اليونان؛ فهناك من يعتمد على العقل وتقديراته وأحكامه؛ أمثال: خريزيوس ممن أرجع الأشياء القبيحة والحسنة إلى العقل وحده، وسرى تأثير ذلك على جميع الديانات ومنها اليهودية؛ فاخترع فايلو الإسكندراني زعيم المدرسة اليهودية قانون التأويل كمنهج لتحديد العلاقة بين العقل والوحي؛ حيث أكد أن العقل والوحي موصولان بالحق إلى النهاية، وانتقد التوجه المتمسك بحرفية النص الكتابي، واتجه إلى اعتماد أن العلاقة بين الدين والعقل لابد أن ترتكز على متابعة العقل لتقريرات الوحي.

ويرى الكاتب أن الفكر الديني الإسلامي ارتبط التأويل فيه بالإشكاليات الأولى التي أثارها بعض المفكرين بديانات أخرى -ومنها اليونانية- ومن تلك الإشكاليات: خلق القرآن، والقضاء والقدر، والصفات الإلهية؛ مما أدى بتلك النزاعات التجريدية في الفكر الإسلامي إلى بروز نوع جديد من التأويل، فاتجه المؤول إلى تفسير القرآن الكريم بناءً على نزعاته الشخصية بفهم مسبق من الذات إلى النص، ليجد تأويلا يُلائم نزعاته ودوافعه؛ وبالتالي فقد أدى ذلك إلى أنْ يكون القرآن نقطة ارتكاز تبرير على فكر المؤوَّل وليس نقطة انطلاق للقارئ أو المخاطب.

والقرآن الكريم بإعجازه المتنوع والمتعدد، خاطب الأجيال المختلفة بنص ثابت وقواعد محددة في تأويله وأحكامه؛ حيث كان العلماء السابقون يقفون كثيرا عند البحث عن تأويل القرآن، خوفا من الوقوع في التأويلات الفاسدة المنحرفة، وبالتحديد الآيات التي تتعلق بالعقائد وأصول الدين، ويبقى النص على ما هو عليه، إلى أن يكون التأويل بدليلًا أو قرينة.

بعكس ما حدث مع النصرانية؛ فقد ظهرت الحركة النصرانية التي تحثُّ على قدرة العقل الفردي على تأويل النصوص وفهمه واستيعابه، ولا يقتصر للتأويل في حدود الكنسية؛ مما فتح المجال أمام التأويلات المستحدثة والمعتمدة على النظريات الجديدة. ومع دخول أوروبا عصر النهضة، وانحسار دور الكنيسة، استعاد العقل حريته التي فقدها بسلطة الكنسية وتشريعات رجالاها، وهذه الحرية التي وهبت للعقل حرية مراجعة كل معتقداتها السابقة، ووضعها على المحك والنقد والتحليل.

من ناحية أخرى، يرى الكاتب أنَّ نظرية النقد التاريخي من أبرز الاتجاهات وأخطرها في مجال نقد النصوص، وتنصُّ تلك النظرية على أنَّ النصوص الكتابية بوصفها صدى لتاريخ انقرض وباد ومضى، وأن الوحي هو تراكم تاريخي خاضع لسُنَّة الزمان والمكان والتحولات، ومن ضمن هذه التأثيرات نظرية الدارونية التي حاول الغرب إسقاطها كثيرا على مستوى مختلف العلوم والمعارف، إلا أنَّ أثرها امتد ليشمل دائرة النصوص الدينية.

ويذكر الكاتب في نهاية المقال مجموعة من المقترحات؛ منها:

- لابد من التمييز وعدم التسوية بين الطرح النابع من الذات الواعية والمدركة لرسالتها محتكمة إلى نصوص القرآن والسنة الصحيحة، والطرح المشبوه النابع من الذات المسلية فكريا ومنهجيا، لا تمييز بين الدين بوصفه وضعا إلهيا وتأويل هذا الدين والاجتهاد فيه.

- الحفاظ على الدين ومقاصد التشريع لا يكون بمحاصرة كل فكر تجديدي مهما بلغ صدق توجهاته وأطاريحه، بمعنى الحاجة للتجديد والاستمرار في الطرح تعد من الضروريات؛ لذلك لا يتم الأمر بوضع سد لها، وإنما بمقابلة الحجة بالحجة.

- أهمية الوقوف على إسهامات أئمة المقاصد القدامى والإلمام الكافي بما توصلوا إليه من قواعد وضوابط الكشف عنها وتفعيلها، ويمكن الاعتماد على ذلك بالأدوات الاستقرائية التي تبدأ بالبحث الواسع للوصول إلى الحقائق.

أخبار ذات صلة