مداخل فقة الحياة في منظومة الزواج

عبد الرحمن الحوسني

ناقشت الكاتبة سوسن الشريف في مقالها والذي يتحدث عن مدخل فقة الحياة لتأسيس منظومة الزواج وتطرقت إلى العديد من العناصر، ومن أهمها المقاصد لهذا المدخل أي الأهداف، ومن ثم القيم أي المعاني الإنسانية،  ومن ثم السنن وتعني القوانين الإلهية، ومن ثم  الغيب وأخيرا الأحكام الشرعية .

إن فقة الحياة حركة متكاملة بين مجموعة المفردات المكونة للمدخل الذي يؤدي إلى تبني مواقف نابعة من مَعين الرؤية الإسلامية الشاملة على أساس استلهام النموذج ومعرفة المقصد لا على أساس الاكتفاء بمعرفة الحكم أو الفتوى فقط. فحاجة الواقع إلى الفقه ليضبط سيره ويضمن له مشروعيته أمر لا نقاش فيه، أما حاجة فقة الحياة إلى الواقع هي حاجة ماسة لكي يسدده وينميه ويغنيه؛ فلذلك الفقه ينمو بنمو الواقع ويتطور بتطوراته، ويتجدد بين الحين والآخر. فلهذا السبب يظهر الاحتياج إلى الاجتهاد في حياة متحركة ومتجددة ومتطورة، تولد المستجدات، وتثير الإشكالات. فإذا كان فقه الواقع هو حسن فهم الواقع المعيشي بملابساته المختلفة، فإن فقه الحياة يختلف عنه نوعياً في أنه يُعنى بالضوابط القيمية والمقاصدية والشرعية التي تسيّر هذا الواقع وتوجِّهه.
ومن أولى العناصر الخمسة لمدخل فقه الحياة هو المقاصد. ويقصد بالمقاصد لغة استقامة الطريق، والاعتماد. والمقاصد تعني الأهداف المعتدّ بها شرعا والمراد من ذلك تحقيقها في كل مجال من مجالات الحياة المعيشية، وهي مرتبطة مع المقاصد الخمسة أو الكليات الشرعية الخمس والمتعارف عليها وهي حفظ الدين، وحفظ العقل، وحفظ النفس، وحفظ النسل أو العرض، وحفظ المال. والمقاصد في الأصول لها معنيان: أولاً، مقاصد المكلف وتندرج تحت قاعدة فقهية واحدة وهي (الأمور بمقاصدها) وثانيًا، مقاصد الشرع أو مقاصد الشريعة التي ذكرناها.

إنَّ المقصد الأساسي من أي فعل حضاري يسعى إلى أمرين إما دفع الضرر (المستوى السلبي من الرؤية أو الحركة)، أو جلب المصلحة (المستوى البنائي) فالحفظ عملية عمرانية، وليس فقط عملية محافظة إستاتيكية. والقاعدة الأولى هنا في فقه الحياة أنه إذا رجع الحكم الفقهي بالإبطال على مقصد من المقاصد المعتد بها، فإنَّ هذا يستدعي ضرورة مراجعة هذا الحكم الجزئي بما يتسق والمقصد الشرعي الكلي. وعن تفعيل المقاصد في حياتنا ومجالات الحياة، في مجال الزواج مثلاً، نجد أن المقصد من هذا المجال هو حفظ الدين وحفظ النسل أو الفرج وحفظ النفس.

ومقاصد الشريعة الإسلامية من الزواج ما هي إلا مقاصد أصلية ومنها ما هو مقاصد تبعية، والمقاصد الأصلية هي الغايات والحكم التي لأجلها شرعت الأحكام أصالة. فالمقاصد الأصلية ما أراده الله من تشريعه للأحكام في المحافظة على مقصود الشرع. فالمحافظة على مقاصد الشريعة الخمس هي محافظة على المقاصد الأصلية لأحكام الشريعة جملةً وتفصيلاً وهذا هو مقصود الشرع أن يحفظ للخلق دينهم، وأنفسهم، وعقولهم، ونسلهم، وأموالهم. وأما المقاصد التبعية فهي التي روعي فيها حظ المكلف.

فالمقصد الأصلي من الزواج في الإسلام هو طلب الولد والتناسل، وكما نعلم أن النسل لا يوجد إلا بالنكاح وهو مشترك بين الرجل والمرأة، وأن بني آدم يتزاوجون، والحيوانات تتزاوج، وكل المخلوقات الحية في هذه الأرض تتزاوج كما ذكر الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز ((ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون)). وغاية كل هذا هو عبادة الله تعالى وتعمير هذه الأض والتناسل وطلب الأبناء، وبذلك يكتمل البناء الأسري فتتوسع دائرة الزواج  من فردين اثنين إلى مؤسسة جماعية تتكون من العديد من الأفراد. والمقصد الأعلى من التناسل ومن النكاح عموماً ليس هو إشباع الغريزة الشهوانية المجبولة في بني آدم؛ فهذا لا يعد إلا مقصدا تبعياً .

وفي حفظ الدين يتجنب العلاقات الغير مشروعة وإتيانها بشكل محرم،  وأما حفظ النفس والعرض بالعفة وحمايتها من الأمراض الجسدية والنفسية التي تنشأ عن العلاقات المحرمة، مثل الإيدز وما شابه ذلك بالإضافة إلى الخيانة الزوجية التي تؤدي إلى تشتت الأبناء وتفكك الأسرة وتدميرها وقد يصل إلى تشرد الأطفال. ولذلك قال الله سبحانه وتعالى (ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا).

وثاني العناصر الخمسة لمدخل فقه الحياة هو القيم وتعني مجموعة من المعاني الإنسانية العليا السارية في كل فعل أو قول صدر من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في قوله سبحانه وتعالى (قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا وما كان من المشركين)، وكما يمكننا الإشارة إلى القيم المرتبطة بالزواج: أولا السكن، والمودة، والرحمة كما وردت في العديد من الآيات التي تدل على ذلك، ثانيا المعاشرة بالمعروف كما ورد في الآية (وعاشروهن بالمعروف)، وذكر الله تعالى في كتابه العزيز (ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما) فهنا تدل على قيمة الدعاء بأن يكون الزوج والذرية قرة أعين. وأما القيمة الأساسية في الزواج فهي السكن والرحمة والمعروف.

 

ومن العناصر الخمسة لمدخل فقه الحياة أيضا، السنن وتعني القوانين الإلهية وهي تصدر من مصادر التشريع الإسلامي وهي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، فالسنة هي قانون الله العادل في الخلق، المؤثر في حياة الإنسان. ويمكننا تقسيم السنن إلى قسمين: القسم الأول يشمل تلك السنن القاضية التي تحدث على كل مخلوق على وجه الأرض دون تدخل إرادي، مثل الموت والحياة والسنن الكونية والحياتية. وأما القسم الآخر فيشمل تلك السنن الشرطية المرتبطة بالفعل البشري على سبيل السبب والنتيجة ويمكن التعرف عليها من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة. والزواج من سنن الله الكونية ويرتبط الإخفاق فيه والنجاح بكيفية تعامل الزوجين في إطار منظومة الأسرة.

ويأتي العنصر التالي من مدخل فقه الحياة وهو الغيب. والغيب بمعنى محدد هو المساحة غير المدركة بمجرد العقل والحواس والموازية للواقع المشاهد. ويمكننا تقسيم الغيب إلى قسمين: الغيب المطلق والغيب النسبي. أما الغيب المطلق فهو ما لا يدركه الإنسان ابتداءً لا بالعقل ولا بالحس، وأما الغيب النسبي فهو ما لا يدركه الإنسان بالحواس المجردة. إن عنصر الغيب في مدخل فقه الحياة يدفع المجتهد إلى محاولة استشراف المستقبل في اجتهاده ومراعاة السنن الإلهية وطبائع العمران والأمم. وآخر العناصر الخمسة لمدخل فقه الحياة، الأحكام الشرعية وهي الإطار التشريعي الحاكم لفعل المسلم وقد قامت مختلف المذاهب الإسلامية بالاجتهاد المُثمر في هذا المجال وتعد الأحكام الشرعية السياج الواقي للاجتهاد والسعي في ضلال فقه الحياة.

                                   

أخبار ذات صلة