باسم الكندي
يتتبع الباحث والكاتب العُماني محمد بن سعيد الحجري في مقاله المنشور بمجلة التفاهم بعنوان (إدغار موران وثورات التقنية والمستقبل) حول فهم الذات وفهم الآخر وأثر ثورة المعلومات اجتماعياً على المجتمعات البشرية والعلاقات فيما بينها في وقتنا الحاضر.
مرّ الإنسان بالكثير من التغيرات والتحوّلات التي ارتبطت بتفكيره وسلوكه حتى سُمّيت العصور التي مرَّ بها بأهم أدواتها مثل العصر الحديدي والعصر البرونزي حتى ابتكار الكتابة التي كانت حدّاً فاصلا بين عصور ما قبل التاريخ والعصور التاريخية. هذه التحولات كانت على فترات بطيئة جعلت الإنسان مستوعبا لتغيراتها ومتكيّفاً معها إلا أنّ ما حدث في عصر ثورة المعلومات وقفزاتها السريعة المفاجئة جعلت الوعي الإنساني في حالة إرباك شديد لمواكبتها بسبب تضاعف المعرفة وتطور وسائل اتصالها بشكل مستمّر أثّرت على ثقافات الشعوب، هذا الإرباك كان مثلما نبَّه عليه (نبيل علي) في أكثر من مناسبة سببه هو كسر استقرار الثنائيات المتضادة التي ألفتها المجتمعات مثل: الفردي الجمعي، المادي اللامادي، الخيالي الواقعي، المحلي العالمي، الحالي التاريخي... إلخ ، حيث اهتزّت هذه الثنائيّات لدى الوعي الإنساني؛ فرغم أنّ عصر ما قبل المعلومات قد انحاز إلى طرف منها أو عجز عن الموالفة بينها فإنّ عصر المعلومات كسر هذا التضاد وتمكن من الموالفة بينها، مما زاد من الالتباسات والتحديات لدى الوعي الإنساني لدرجة أنّه إذا كُنّا نسمي القرن العشرين قرن (اللا يقين) فإنّ القرن الواحد والعشرين هو (قرن التعقّد) الذي تجاوز سهولة الثنائيات التي عرفها الإنسان وتحكمت بنظرته للوجود سابقا؛ وما قاله نبيل علي يقوله أيضاً روبرت أوزنشتاين وبول إيرش في كتابهما (عقل جديد لعالم جديد) من حيث إنّ عقل الإنسان وبسبب تعقيدات الحياة المعاصرة أصبح غير قادر على فهمها لتغيراتها المستمرة.
ومن مظاهر حالة الإرباك هذه ما يتحدّث عنه إدغار موران من ازدواجية الفهم/ اللا تفاهم، التواصل/ اللا اتصال، بحيث إنّ التقارب الإنساني في عصر المعلومات كشبكات الفاكس والهواتف النقالة والمحطات الصوتية والإنترنت، كان يُفترَضُ منها أن تؤدي إلى مزيدٍ من التواصل والتفاهم بين البشر ولكن ما حدث هو عكس ذلك.
كما يرى إدغار موران أيضا أنَّ الفهم هو وسيلة وغاية التواصل الإنساني بحيث لا يُمكن حدوث تقدم في علاقات البشر من دون فهم متبادل يُساعد على بناء شَرَاكات وتَبادُلٍ للمصالح أمَّا الغايات الأخرى للتواصل (غير الفهم) تستهدف عادة التأثير على البشر لتغيير القناعات وتعبئة الرأي العام المؤدية للاحتشاد المُضاد ونشر العصبية التي تُعّمِق الانقسامات والكراهية، كل هذا جعل موران يقول باستحالة بناء العلاقات دون فهم متبادل كما شدَّدَ على ضرورة إصلاح العقليات تأكيداً على الأهمية الحيوية للفهم حيث يذهب إلى أنَّ أصل هذه المشكلات الإنسانية يعود إلى التربية والتعليم لذا يقترح (التربية على التفاهم) كإحدى سبع ضرورات أساسية لتربية المستقبل .
وفي معنى فهم الآخر لدى إدغار موران نجده يقول بأنها عملية مكوَّنة من محاولة معرفة الغير، والسعي نحو التطابق معه والقيام بإسقاطات عليه ، ويرى الحجري بأن ما ذهب إليه إدغار موران في هذا المعنى هو صحيح في حالة التوجه إلى الفهم الذي يَنشُد التواصل وبناء التفاهم ولكن ما يحدث هو عكسه أو خلافه غالباً حيث نجد أنّ الرغبة في الفهم المشترك في حالات التواصل الاجتماعي عبر وسائط ثورة المعلومات قد تراجع كثيراً لأهداف أخرى، وهو ما يعلل ظهور الجيوش الإلكترونية التي أصبحت تؤثر على الرأي العام وتأخذه نحو قناعات مسبقة ومقصودة، نتيجة لسلسلة من عوائق الفهم تتمركز حول الذات والعرق والمجتمع بحيث تختزل الشخصية المتعددة في إحدى خاصيتها وهي رؤية مُضلّلة تجعلنا نُركّز على الصورة النمطية له مما يُضعف حالة التفاهم.
تعمّق موران في تحليله لعملية فهم الآخر وأوجزها في عبارة (يُحيل الفهم الإنساني على معرفة الذات للذات)؛ ولكن هذه الرؤية المتصلة كثيرا بالذات والانطلاق منها تطرح سؤالاً أكثر إلحاحاً حول كيفية بناء هوية ذاتية مع استيعاب الآخر وتفهّمه؟ حسب رأي موران فإن وجود هوية يقتضي فهماً عالياً للذات نفسها وهنا يذكر الحجري أنّ ذلك غير كافٍ هنا من وجهة نظره؛ معللاً بأنّ ذلك الفهم للذات أيضا يقتضي قدراً عالياً من الثقة والشعور بالطمأنينة حتى يتم ذلك الفهم في مناخ لا يُهدد الهوية، لذا إنّ تكوين هوية قوية بين المجتمعات رغم اختلاف مكوناتها يكون ضروريّاً لأنّه يُعطي معنى حقيقيا لجدوى التعارف الذي نبَّهنا عليه الله تعالى حين قال (وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) الحجرات:13، فالتعارف هنا لم يكن لجعل الهويات المختلفة في قالب هوية واحدة بل لبناء المعرفة المتبادلة التي تؤدي لتعمير الأرض وبناء الحضارة.
وفي سياق الحديث عن الفهم أم المعرفة؟ نجد أنَّ الفهم هو أداة لتحقيق المعرفة التي تنفي الجهل بالآخر. وعليه فإنَّ بناء هوية قوية عارفة بذاتها واعية بمكوناتها يُعزّز تواصلها الحضاري مع الآخر ويُجنّبها الانقسامات الحادة داخلها والتي تظهر بها تيارات تعصُّبٍ منشؤها الخوف على الهوية أو الشعور بالاستعلاء الحضاري، وفي معرض حديث موران عن أخلاق الفهم نجد أنه يُقدم آراء مهمة مثل الوصايا تتمحور حول كيفية فهم الآخر بل وفهم عدم الفهم مُلتًمِساً العذر للآخر.
ورغم أنّ الفهم والتفاهم غاية سامية وهي واقعاً غير مُتحصّلة في معظم الأحيان، لذا فإننا نجده سبحانه وتعالى يُوجّهنا إلى قيمتين كبيرتين لا تتعلّقان بالاعتقاد والمشاعر؛ ولكنهما تتعلقان بالسلوك تجاه من يخالفنا في الدين ولم يبدر منهما عدوان أو ظلم وهما: البر والقسط، لقوله تعالى (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)الممتحنة الآية 8، كما يُشدّدُ موران أيضا على التربية والديمقراطية كطريقين أساسيين للفهم وفق برامج مُعتمِدة على مناهج خاصة مع توفير نظام يكفل للجميع العدالة والمساواة أمام القانون والتوزيع العادل للسلطة والثروة.
ختاماً يذكر الحجري أنَّ كل ما كُتِبَ عن الأبعاد الاجتماعية لثورة المعلومات وأثرها على العلاقات الإنسانية بما في ذلك كتاب إدغار موران محل النظر هنا (تربية المستقبل، المعارف السبع الضرورية لتربية المستقبل) وغيرها من الكتب الأخرى التي تُحلل أو تتوقع الأثر الاجتماعي للتقنية عبر مراحل تطورها المختلفة فإن الحديثة منها أصبحت قادرة على تفجير الثورات وصناعة تحولات مختلفة لدى الشعوب وهو ما أدّت إليه من حالات الصراعات العبثية التي حدثت في عالمنا العربي كما يتوقع في ظل وجود تقنيات الجيل الخامس (الثورة الصناعية الرابعة) ستكون هناك نقلة هائلة في اتجاهات النشاط الإنساني لم يسبق لها نظير بفعل محركاتها الرئيسة كالذكاء الصناعي والبيانات العملاقة، وإنترنت الأشياء وغيرها. لهذا؛ يجعلنا نُدرك أهمية ما قدمه موران من تحليل لإشكالية المعرفة والفهم واللا فهم في الحالة الإنسانية، ودور التربية على الفهم واعتمادها مساراً رئيساً للنظم التربوية ووضع أخلاق الفهم التي أوصى بها كقاعدة أخلاقية مُضمّنة في المواثيق الدولية.