«ضحايا حرية الفكر»

«جيوردانو برونو» نموذجًا

بحث مقدم من الدكتورة أمل مبروك عبد الحليم  أستاذ  بكلية الآدابجامعة عين شمس-القاهرة - قسم الفلسفة
 

كلما أمعن العالم في القدم ترامت حدود المعرفة الإنسانية، واتسعت آفاقها، وتجددت الحاجة من الحين إلى الحين إلى تنقيح الآراء والمعتقدات السائدة وتصحيحها، أو نبذها والأخذ بآراء ومعتقدات مستحدثة تلائم المعرفة المتطورة والعلم الجديد. وما كان يبدو في عصر من العصور من الحقائق المسلم بصحتها قد يراه عصر آخر من قبيل الأوهام والضلال، ولكن الإنسان شديد التعلق بالآراء التي نشأ عليها، والمعتقدات التي ألفها، ومن ثم يضيق صدراً بالمصلحين والمجددين والكاشفين والمخترعين الذين يقدمون الآراء الجديدة، ويعملون على تغيير المعتقدات السالفة. وحتى اليوم قد يكون نصيب من يقوم بمثل هذه المحاولة السخرية والازدراء، أما في العصر الوسيط فكان نصيبه الهوان والشقاء والنفي، وفي بعض الأحيان كان يـُلـْحَق صاحب الرأي الجديد بطائفة المجرمين الآثمين، الذين لا يجد المجتمع أمنـه وراحته إلا في الخلاص منهم والقضاء عليهم.

وفي القرن السادس عشر كان لا يمكن احتمال أي رأي يخالف ما اصطلح على تقريره رجال الدين، وكان نصيب من يجترئ على إعلان مخالفته التعرض للعنف البالغ والعقوبة الشديدة، وقد تمثلت هذه النزعة في صورة واضحة في حياة كبير فلاسفة عصره "جيوردانو برونو" Giordano Bruno (15481600) الذي يُعد رمزاً لحرية البحث حتى يومنا هذا. ولم يكن من المنتظر من رجل متدفق الحيوية، كثير النشاط، دائم التطلع أن يظل قابعاً في صومعته، قانعًا بحياة التأمل الخالص والاسترسال في التفكير العميق، ولم تكن حالة الكنيسة في عصره تُرضي رجلاً مثله موفور الحظ من الذكاء والمعرفة؛ لذلك دفعتْهُ وثباتُهُ الفكريةُ إلى الصدام مع رجال الكنيسة الكاثوليكية، حيث أنكر الثالوث، وقال: إنّ الكون سرمدي وخالد، وإن العوالم فيه لا نهائية. ولعل أخطر اتهام وُجِّه إلى "برونو" هو سعيه إلى إقامة طائفة دينية جديدة.

ومن هنا تأتي أهمية هذا البحث الذي يلقي الضوء على فكر فيلسوف رفض أن يؤمن بما رآه باطلاً، وأبى أن يرجع عما اعتقد أنه حق. والواقع أن برونووإن كان من المتشككين في المعتقدات الدينيةلم يتعمد يوماً أن يسخر من هذه المعتقدات، ولم يكن من أصحاب النقد الهدام؛ وإنما كان فيلسوفًا روحي النزعة، مؤمنًا بمذهب الحلول، فهو يرى الله في كل مكان، وفي كل الأشياء، واعتقد أن جوهر الكمال الإلهي يملأ جنبات الكون. كانت القضية المحورية في فكر "برونو" هي تحرير العقل الإنساني من كل قيود التعصب وجمود التعاليم البالية؛ ومع أن حرية الإنسان كانت الشغل الشاغل عنده؛  فإن " برونو"في نهاية المطافكان أحد ضحايا هذه الحرية؛ ففي غياب الحرية يندثر الإنسان والأفكار والعلم جميعاً.  

العلم في عصر برونو

في القرن الثـالث عشر انبثقت روح البحث(1) بعد أن طوتها قـرون الاستعباد في العصور الأولى، ومضت هذه الروح نامية زاهية يرسِّخ أصحابُها أقدامها حيث لا تتعارض آراؤهم والمعتقدات القديمة التي تمس الدين والكون، أو حائرة مترددة حيث تصطدم الآراء الجديدة بالعقائد القديمة، ولكنها مع ذلك كسبت بين إقدامها ونكوصها قوة حملتها على أجنحة العقل إلى القرنين السابع عشر والثامن عشر (2)

وكان التنازع على العلاقات الواقعة بين السماوات المنظورة والمجال الأرضي محوراً لسلسلة من الوقائع، تصادم فيها اللاهوت والعلم صدامًا والتحما التحامًا، ونظرت الكنيسة إلى علم الفلك نظرة القانع بأنه من الأشياء العقيمة؛ اعتمادًا على حكمة ظاهرة بشرت بها التوراة، مؤداها أن الدمار لابد آت على الأرض قريبًا وأن أرضًا وسماوات جديدة ستخلف الأرض التي نعيش عليها. وأن علم الفلكإذا ما قال بغير ذلكباطل كغيره من العلوم الأخرى التي أدانتها الكنيسة. وكانت النظرة إلى علم الفلك عمومًا أنه دراسة عقيمة، ولا يرتجى منها نفع. ولقد عبر القديس "أوغسطين" St. Augustine (354430) عن هذا الرأي بقوله: "أي شأن لي في أن أعرف إذا كانت السماوات ككرة تتضمن الأرض معلقة في وسط الكون، أم أنها تشرف مرتكزة عليها من كلا الجانبين" (3).

واختلفت نظـرة رجال الدين إلى أجرام السـماء، فمنـهم من رأى أن تلك الأجسام السـماوية إنما هي كائنات حية، ولكل منها روح خاصة بها، بينما قال آخرون بأنها موطن الملائكة وبيوت سكناها، وذهبت طائفة أخرى إلى أن النجوم كائنات روحية تسيرها الملائكة كيف تشاء. وهكذا كان تركيب الكون مزيجًا من بعض التعاليم الدينية، التي عمد رجال الكنيسة إلى دمجها بنظريات "بطليموس" Ptolemy (90AD168) الفلكيـة. وأول حقيقة اكتشفوها هي أن الأرض كرة قائمة فى الفضاء على لا شيء، وبذلك فسروا كيفية دوران الشمس والقمر والنجوم حولها ؛أي فوقها في النهار وتحتها في الليل، وأن القمر أقرب الأجرام السماوية إليها، ففلكه أي مداره أقرب من كل الأفلاك إلى الأرض ،وفوقه فلك عطارد ،ثم الزهرة، ثم الشمس، ثم المريخ والمشترى وزحل، ثم فلك النجوم (4).

وكان علم الفيزياء والكونيات الذي تستند إليه هذه النظرية الفلكية قائمًا بصورة أساسية على مخطط "أرسطو الذي جعل من الأرض مركزاً للكون ،تعلوه مناطق من الماء والسهول والنار، ثم يتبعها القمر والأجرام العليا، التي يتصل كل منها بفضـاء ضخم يتحركوفقاً لعلم الطبيعة الأرسطيحـركةً دائـرية منتظمة حول الأرض يستلزم سكونها في مركز الكون، ثم جاء "بطليموس" وقرر سكون الأرض بوصفها مركز الكون، ودوران الشمس وسائر الكواكب حولها، واعتنقت الكنيسة هذا الرأي، وأهملت الرأي المضاد الذي عـُرِفَ عند قدماء الفيثاغورية.

أدرك "بطليموس" كروية الأرض؛ لكنه لم يعترف بحركتها، بل على العكس تمامًا، دافع بشدة عن استحالة تحرك الأرض، سواء أكانت تلك الحركة دورانية أم انتقالية. ولقد تصور أن تحرك الأرض يتنافى مع العقل، وبرهن على ذلك متصوراً أن الأرض في أثناء دورانها سوف تُخلـّف الهواء وراءها، كما ستُخلّف وراءها الأشياء التي يحتويها الغلاف الجوي (كالطيور المحلقة التي لن تتمكن من اللحاق بدوران الأرض، ومن ثم سوف يتحتم عليها بدورها أن تتخلف)، كذلك الأمر بالنسبة للحركة الانتقالية للأرض، فهي مستحيلةفي رأي "بطليموس"بالقدر نفسه؛ لأن الأرض في هذه الحالة ستترك مجال السماء، وسنرى جزءًا صغيرًا من الكرة الأرضية ليلاً، في حين نرى الجزء الأكبر نهارًا. ولم يدرك "بطليموس" أن المسافات الواقعة بين النجوم هي مسافات هائلة تجعل الانحراف الجانبي للأرض غير قابل للملاحظة على الإطلاق (5).

لاحظ "كوبرنيقوس"Copernicus  (14731543) أن نظام" بطليموس" لا يقدم تفسيرًا مقنعاً لحركة الكواكب ؛فلئن كانت الشمس والقمر والنجوم تبدو أنها تدور في السماء كل أربع وعشرين ساعة على نحو يمكن تصوره أو توقعه ؛فإن هذا لا ينسحب على الكواكب، فأحياناً تبدو وكأنها ترتد في حركة راجعة إلى الوراء، وكان مخطط "بطليموس" محاولة لإيجاد حل لهذا الإشكال (6).

وإذا فحصنا البراهين التي قدمها "كوبرنيقوس" لنظريته الجديدة سنجدها غير كافية  من وجهة نظر المعرفة التي لدينا اليوم ؛ ولكنه تمكن من تقديم آراء تتناسب مع السهولة التى يتميز بها نظامه؛ فهو لا يرى أن الكواكب تتحرك بسرعة ضخمة في مداراتها الهائلة، ووجد الأقرب إلى الصحة أن الأرض تدور حول محورها؛ لذلك فإن سرعة الحركة الموضعية في كل بقعة أصغر بالمقارنة بالسرعة الأصلية لحركة الأرض بدرجة كبيرة. ويرد "كوبرنيقوس" على اعتراض "بطليموس" ذاهبًا إلى أن الأخير اعتقد أن الحركة الدورانية للأرض تتضمن قوة؛ بينما هي في حقيقتها حركة طبيعية تختلف قوانينها عن قوانين الحركة الاهتزازية المفاجئة اختلافًا بينًا (7). وهنا يمكن القول: إن جوهر إسهام "كوبرنيقوس" للعلم يكمن في استبصاره العميق بأن حركات الكواكب التي تشبه الانقلاب يمكن تفسيرها  بطريقة أسهل مما فعل "بطليموس"، لو افترضنا أن الكواكب تدور حول الشمس، وأن الأرض نفسها كوكب يدور حول الشمس في الوقت الذي تدور فيه حول محورها يومياً. ولقد برهن "كوبرنيقوس" على أننا لو افترضنا هذا الفرض؛ فإنه يمكننا أن نستغني عن معظم الدوائر الصغيرة (8) التى افترضها "بطليموس"، وهكذا نبسط حسابات الفلك تبسيطاً عظيماً (9).

لم يكن كشف "كوبرنيقوس" بقادر على أن يحظى بموافقة جميع الأوساط العلمية لو لم تكن أبحاث العالم الألماني "يوهان كبلر"Kepler  (15711630) قد أدخلت عليه بعض التحسينات. ولقد حاول "كبلر" أن يوفق بين نظرية "كوبرنيقوس" في حركة الأفلاك ونظرية عقول الأفلاك التي قال بها "أرسطو"؛ فكل فلك في نظره يحركه عقل، ومن الممكن أن تتصور نفسًا واحدة هي المحركة للعالم كله؛ ولكننا يجب أن نقيس هذه الحركات بالحساب الرياضي الدقيق، وأن نعبر عن هذه الظواهر الطبيعية بلغة الرياضة وبالقوانين الحسابية (10). واصل "كبلر" ملاحظات أستاذه "تيكوبراهي"Tycho Brahe  (15461601) (الذي ذاعت شهرته كمصمم للأجهزة الدقيقة) مستعيناً بجهاز الأجرام السماوية، كما حدد "كبلر" مسار كوكب المريخ بناء على عدة ملاحظات فردية، حتى استطاع أن يعلن بيقين أن مسار المريخ بيضاوي الشكل، كما اكتشف -بفضل القياسات المحضة- قوانين أخرى تتعلق بحركة الكواكب، والتي سُميت فيما بعد بـ "قوانين كبلر". ويمكن تلخيصها على النحو التالي:

القانون الأول: أن الكواكب تسير في مدارات بيضاوية مع الشمس في أحد المراكز، بينما يظل المركز الآخر شاغرًا.

القانون الثانى: أن كل كوكب يقطع مسافات متساوية في أوقات متساوية. ووضع صيغة رياضية، وهي أن المساحة التي يعبرها في لحظة معينة نصف قطر يربط الشمس بكوكبٍ ما، تظل ثابتة بالنسبة لهذا الكوكب.

القانون الثالث: إن نسبة مربع مدة دوران الكوكب إلى مكعب متوسط المسافة بينه وبين الشمس تظل واحدة في حالة جميع الكواكب.

وإذا ما أخذنا هذه القوانين الثلاثة وجدنا أنه يمكن التنبؤ بموقع أي كوكب في السماء في أية لحظة دون الرجوع إلى أية نظرية خاصة بالدوائر الصغيرة التي كانت ما تزال في علم الفلك عند "كوبرنيقوس"(11).

وعندما جاء "جاليليو" Galileo  (15641642)  أدخل إلى علم الفيزياء أفكارًا ومبادئ أساسية ظلت قائمة حتى القرن الحالي، وأسهم فحصه لقوانين سقوط الأجسام في قيام الفيزياء الرياضية، ووضع القانون الأساسي للحركة، وهو قانون القصور الذاتي والمعروف بـ "القانون الأول من "قوانين نيوتن" في الحركة، ونصه: "إن كل جسـم يتحرك في خط مسـتقيم وبسرعة منتظمة ما لم تؤثر عليه قـوى خارجية، وإن هذه الحركة لا تتوقف أبداً من تلقاء نفسها" (12).

لقد أعطى "جاليليو" للعلم الحديث منهجه الكمي التجريبي؛ فالتجارب التي قـام بها لإثبات قانون سقوط الأجسام حددت أنموذج المنهج الذي يجمع بين التجربة وبين الصياغة الرياضية لنتائج هذه التجربة. وبفضله اتجه جيل من العلماء إلى استخدام التجارب فى الأغراض العلمية، ومع ذلك فإن هذا التحول العام إلى استخدام المنهج التجريبي لا يمكن أن يُعد نتيجة لجهد شخص واحد؛ بل هو نتيجة لتغير في الظروف الاجتماعية التي حررت أذهان العلماء من الاهتمام بالعلم اليوناني في صورة النزعة المدرسية، وأدى بطريقة طبيعية إلى قيام علم تجريبي (13).

وتتمثل أهمية الآراء التي قال بها "جاليليو "في أنها حطمت -بشكل قاطع- التمييز الأرسطي بين الأرض والسماء، بالكشف عن زيف الفكرة القائلة بكمال الأجسام السماوية، وأحلت اتساق الطبيعة محل التسلسل القديم بين كائنات يعلو بعضها فـوق بعض، كذلك أثبتت هذه الآراء نظرية "كوبرنيقوس وخرجت بها مـن حيز الرياضيات إلى حيز الوجود الطبيعي، وأخضعت كل الأجسام لنوع واحد من القوانين، وفسرت حركة الأجسام عن طريق القوانين الديناميكية، لا عن طريـق علل غير مادية، وكان من الطبيعي أن تثير مثل هذه الآراء عاصفة من المعارضة الشديدة، شنها أولئك العلماء المعاصرون لجاليليو الذين كانوا يقدسون أفكار أرسطو (14).

وهكذا، شهد القرن السادس عشر في أوروبا ثورة ثلاثية: ثورة على السلطة الكنسية وهي الإصلاح، وثورة من أجل تحقيق التوازن بين العلوم (فلكيون يستخدمون حججاً فيزيائية لدعم أفكارهم)، وثورة في علم الفلك تتعلق بنظام الكون أشعل "كوبرنيقوس" شرارتها، ثم نفذها "جاليليو" و"كبلر" ومن خلفهم.

لا نهائية الكون

كانت المحاولات الأولى لاكتشاف النمط الذي تجرى عليه أحداث العالم محدودة، بالقدر الذي تسمح به رؤية الأشياء في تحركاتها، إما على مستوى المقاييس الإنسانية أو على المستوى الأكبر في علم الفلك. ولقد عوملت حركات الأجرام الفلكية من الناحية الهندسية فقط، وكانت النجوم الثابتة يندر أن تخضع للمناقشة؛ لأنها بدت لا تتحرك باستثناء دورانها اليومي حول القطبويرجع هذا لبعدها الهائل عن الأرضفكان التصور أنها مثبتة في كرة تدور حول الأرض التي تعد مركزًاً لها. أما عن القمر والشمس والكواكب، فقد تتابع الفلكيون أرسطارخوس فبطليموس فكوبرنيقوس فكبلر، ليبحثوا عن المسارات التي تسلكها هذه الأجرام (15).

ورأى الإنسان -على ضوء ما قال به "كوبرنيقوس"- أن وطنه ليس هو المركز الثابت المهيب للكون الذي يدور حوله كل شيء؛ إنما هو من ضمن الشظايا المادية التي تدور حول نجم عادي من النجوم العديدة في السماء. وإذا لم تكن الشمس مركز الكون ولا الأرض ، فأين هو المركز الحقيقي للكون إذن؟ وهل يمكن أن يوجد مركز حقيقي (16)؟ وإذا لم تكن الأرض هي المركز، فلمَ تكون الشمس؟ نحن نجد أن لهيب الشمعة يتضاءل كلما ابتعدنا عنها. ألا يمكن أن تكون هذه حال الشموس أيضاً؟ ألا يمكن في الحقيقة أن تكون جميع النجوم ذاتها شموساً وأن تظهر كل شمس جديدة وكأنها مركز الكون؟ فأين هي إذن حدود الكون (17)؟ وهل له من حدود؟ أليس هو بالأحرى غير متناهٍ، فيه لانهاية من العوالم المماثلة لنظامنا الشمسي؟ ربما يكون هنالك الآلاف من الشموس التي تدور الكواكب حولها، وربما كانت كل واحدة من هذه الكواكب مأهولة بكائنات أفضل أو أسوأ منا، وربما أيضاً تكون الطبيعة متماثلة في جميع أقسامها؛ ففي كل مكان عوالم، والمركز في كل مكان وليس في أي مكان. وعلى ذلك فحدود عالم "بطليموس" الضيقةالتي لم يحطمها تماماً حتى "كوبرنيقوس" ذاتهأخذت تتطاير أمام "برونو" كلما اندفعت نفسه في الفضاء اللامتناهي (18).

والواقع أن رؤية "برونو" لكونٍ غير متناه يحتوي على عوالم حية لا حصر لها يتجاوز عالم "كوبرنيقوس" الشاسع جداً، وإن كان ما يزال متناهياً. نظر "برونو" إلى الطبيعة والأجرام السماوية، وانتهى إلى واحدية الكون، مطبقاً نظرية "كوبرنيقوس" على سائر الأجرام السماوية قبل مجيء "جاليليو" "ونيوتن"Newton  (16421727) اللذين أقاما الدليل على حركتها في الفضاء(19). وذهب إلى أن الوصول إلى الحقيقة يجب أن ينبع من الطبيعة، وبذلك يكون من أوائل الذين رفضوا اتباع مناهج الأقدمين، وبصفة خاصة الدراسات الفيثاغورية التي أعيد إحياؤها على يد" كوبرنيقوس واعتمدتها التفسيرات الهندسية التي أضافها "توماس ديجس" عام  1576 ،وذلك من خلال الوصف التام للأجرام السماوية، ولكن هذا الأخير وضح الخطوط الإجمالية للانتقال من "كوبرنيقوس" إلى الكون اللانهائي، ويعدمن هذا المنطلقأول كوبرنيقى يبدل مفهومه الرئيس عن عالم مغلق بآخر عن عالم مفتوح ولا نهائي؛ وذلك حين أضاف إضافات مهمة في توصيفه لكوكب زحل، هذا الجرم السماوي اللا محدود والساكن، والذي تزينه أضواء لا تـُحصى، والذي يعد نقطة لامعة بين سائر أجرام السماء .

لم يقبل"ديجس" مشهد العالم الكوبرنيقي؛ بل تجاوزه إلى ما وراءه وكان ما يزال تحت سيطرة المفاهيم الدينية أو صورة السماء الكائنة في الفضاء، وبدأ يخبرنا بأن "مجرة النجوم الثابتة لا نهائية، وتتمدد بنفسها لأعلى صورة كروية؛ ولهذا فهي غير متحركة". ويضيف: "إن هذه المجرة هي مكان مزين بأضواء الابتهاج المتلألئة، والتي لا تـُحصى، وهي تتفوق كثيراً على شمسنا من حيث الكم والكيف"؛ ولذلك فإنها "ساحة الرب العظيم ،ومستقر النخبة والملائكة السماوية". وهكذا يضع "ديجس "كل نجومه في سماء دينية وليس في سماء فلكية، وهو يحاول الفصل بين عالمنا (عالم الشمس والكواكب) ،وعالم القبة السماوية (مكان الرب والملائكة والقديسين) (20).

وهنا وجدت عناصر علم الفلك الحديث مصطلحاتها المبكرة في عدة أرجاء، ورفضت الفكرة القديمة المنادية بانحصار الكون في مكان مغلق محدود، وجاء "برونو" وركز اهتمامه نحو كون لا نهائي، رفض من خلاله أفكار "أرسطو" و"بطليموس" (والتي كُتِبَت قبل "جاليليو" و"كبلر")، وأعلن فيها بوضوح أن: "العـالم غير محدود، وبناء على ذلك لا يوجد فيه جسم يمكن أن يوصف بأنه أكثر بساطة ليكون في موضع المركز، أو على المركز، أو على المحيط أو بين الطرفين للعالم" (21). ولكن السؤال: على أي أساس رفض "برونو" رؤية أرسطو لنظام العالم؟ .

أعلن رسطو "أن الحركة الدائرية طبيعية لكل الأجسام؛ لأن الدائرة هي الشكل الهندسي الكامل، وإن حركة كل شيء محكومة بميل فطري في الشيء ليجد "موضعه الطبيعي" في العالم، فالحجر يغطس في الماء؛ لأن الموضع الطبيعي للأحجار هو باطن المجرى، واللهب يتصاعد فى الهواء؛ لأن موضعه الطبيعي في السماء ... وهكذا، وفسر رسطو "هذا بافتراض أن الأجسام لها درجات مختلفة من الثقل والخفة، وأن الترتيب الطبيعي للعالم هو الترتيب وفقاً للثقل. فالأجسام الثقيلة تتخذ مواضعها إلى أسفل، والخفيفة فوقها (مثل طبقات الزيت والماء)، وظل هذا الرأي سائداً حتى عارضه "برونو حيث رفض التصور الأرسطي بوجود ثقل أو خفة في ذاتها في وزن الأشياء، الأمر الذي سبق قوانين "نيوتن" (عن الجاذبية).

تصور "برونو" العالم المادي كفضاء لا متناه، ليس خاوياً؛ ولكنه ممتلئ بمادة طيعة لدنة تذكرنا بالأثير في الفيزياء، وتوجد في هذا الأثير عوالم لا حصر لها مشابهة لعالمنا، وإن التغير الدائم يجرى عليها. يقول في كتابه الكون اللانهائي وعوالمه: "العالم غير المتغير هو عالم ميت، والعالم النابض بالحياة يجب أن يكون قابلاً للحركة والتغير" (22). ويقول في موضع آخر: "يبدو لي في حكم المؤكد أنه طالما أن كل شيء يشترك فى الحياة، فلابد من وجود عدد لا يحصى من المخلوقات التي لا تعيش فينا فحسب؛ بل تعيش أيضاً في جميع الأشياء المركبة". ويضيف "برونو" إلى ذلك فيقول: "عندما نلاحظ أن شيئاً يموت فينبغي علينا أن نعتقد أن هذا الشيء لم يمت ولكنه يتغير، وأن الذي ينتهي هو مجرد التركيب والانسجام العارضين. ولكن الأشياء التي يتحول إليها هذا الشيء بعد ذلك تبقى خالدة سواء أكانت روحية أم مادية" (23).

وهنا يرى "برونو" أننا إذا نظرنا بعمق إلى الكينونة والمادة فسوف نستخلص عدم وجود أي شيء اسمه "الموت"الذي يظن الناس أنه يدرك البشر والمادةفهذه المادة لا تتلاشى بل تتغير، وتغيـرها يحدث في جميع أنحاء الفضاء (24). إذن، كل الأشياء تتغير ولا شيء يفنى، الوحدة فقط هي التي لا تتغير، هي فقط الخالدة. وترجع هذه الفكرة إلى الفلاسفة القدماء المؤمنين بالمذهب الذري، الذين يرون أن الأبدي هو غير القابل للتجزئة أو التقسيم، و"أبيقور"Epicurus (341270 BC) من أوائل دعاة هذا المذهب، ثم جاء "لوكرتيوس" Lucretius (9955 BC)  ليردد هذه الفكرة ذاتها، التي انتقلت من خلاله إلى عصر النهضة، وتبناها "برونو" حين تحدث عن الجوهر اللا متغير، والذي يحوي كل شيء ومصدر كل متغير. ويجمع هذا الجوهر بين خاصيتين؛ فهو مادة من حيث قدرته على الامتداد والتحرك ،وهو صورة أو روح أو إله من حيث قدرته على الوجود الذاتي (25).

ليست المادة والصورة جوهرين متمايزين عند "برونو" ؛ولكنهما مظهران لجوهر واحد، ويمتد جذرهما المشترك في الجوهر الكلي الإلهي الذي لا يتميزان عنه إلا من الناحية المنطقية فحسب (26). وهذا الجوهر الإلهي عينه يمكن أن يُعَّد الموضوع الخصب أو الرحم المادي لكل الأشياء ذات الجهة تارة، والروح أو التعبير النشط للطبيعة تارة أخرى. فالله مادة وصـورة، ذات وروح أو عقل وفعل، هو كل ذلك على السواء. ولا وجود لكائن أو مبدأ أسمى من الطبيعة في جملتها، ومن ثم كانت فلسفة الطبيعة هي النوع المشروع الوحيد من الميتافيزيقا. ومعرفة الجوهر الذي له صورة المادة معناه أن نكون على معرفة جوهرية بالله، حتى وإن كان ما يزال ثمة تقدم لا نهاية له علينا أن نقطعه فيما يتعلق بتجلياته الجزئية في الطبيعة والتاريخ الإنساني (27).

وعلى هذا النحو يمكن أن نتخذ من معرفتنا بالمادة والصورة استدلالاً مباشرًا ضروريًا إلى الله، وبهذا يرى" برونو" أن فلسفة الطبيعة والميتافيزيقا شيء واحد. ولقد قال القديس "توما الأكويني"  Aquinas (12251274):  إنه لو لم يكن ثمة جوهر سوى التغير والطبيعة المحسوسة؛ لكانت الفلسـفة الطبيعـية هي أيضاً الفلسـفة الأولى أو الميتافيزيقا. ويؤكد "برونو" مقدمة هذه القضية الشرطية من خلال نظريته في المادة  والصورة، وبذلك يستنتج أن الطريق الميتافيزيقي الوحيد إلى الله يمتد من خلال واحدية الجوهر الطبيعي (28).

خلاصة القول أن "أرسطو" (ومعه الروح اليونانية بعامة) نظر إلى العالم على أنه متناهٍ ورأى أن المتناهي أعلى قدراً من اللامتناهي؛ لأن المتناهي محدود، أما اللامتناهي فغير محدود بطبيعته. أما "ديكارت " Descartes (15961650) فقد دافع عن فكرة "برونو" عن لا تناهي الكون، وأكد أن القول (بأن الكونالذي خلقه اللهغير متناه) يؤْذن بأن قدرة الله لا متناهية، وفي هذا تمجيد لهذه القدرة. ومن بعده جاء "اسبينوزا" Spinoza (16321677) فقرر أنه لا يوجد إلا جوهر واحد (الله أو الطبيعة)، وتبعاً لذلك فإن هذا الجوهر يجب أن يكون غير متناهٍ، سواء في ماهيته أو في عدد صفاته. أما "ليبنتز" Leibniz (16461716) فيقرر أن لا نهائية النفس هى لا نهائية الكون، وأحسن العوالم الممكنة تعكس لا نهائية الله.

ميتافيزيقا برونو

إذا أراد الفيلسوف أن يبلغ مرتبة اليقين التام عليه أن يقيم بناء العالم على أساس ميتافيزيقي، فالميتافيزيقا هي وحدها سند اليقين؛ أي أنها تكفل صحة الأفكار الواضحة في صلة بعضها ببعض وفي صلتها بالحقائق الواقعة. ولقد حاول "برونو" أن يضفي طابعًا مطلقًا على فلسفته عن الطبيعة، أو تحويلها إلى ميتافيزيقا تفسر الوجود من خلال وحدة جوهرية في الكون هي الله. والله عند "برونو" لا يمكن أن يوجد في أي مكان من الكون اللامتناهي؛ لأنه يجب أن يوجد في كل مكان، وكما أن الصوت الذي يمكن سماعه في كل مكان فى حجرة يكون موجوداً بآسره فى كل جوانب الحجرة، وكما أن الحياة ذاتهاكما يقولهى التى تجعل أصبعى يشير، وقلبى يخفق، وعقلى يفكر؛ كذلك يجب أن يكون الله موجوداً فى جميع أرجاء الكون، فهو حياة الكون اللامتناهى وروحه. والطبيعة هى الله فى الأشياء، والقوة والحياة التي تسري في الكل يجب أن تعيش فى كل جزء من الأجزاء. يقول "برونو": "الله يحتوي بداخله سائر الأشياء، فكل الأشياء موجودة فيه وهو التطور لكل الأشياء" (29).

وحدة الوجود  

دفع التأمل "برونو" إلى البحث عن الثابت وراء المتغير، فوجد في الذات الإلهية اللانهائية وحدة الوحدات، والأصل في جميع الأشياء، والواحد المطلق غير القابل للتجزئة (30)؛ يقول: "من يجد الوحدة يكون قد وجد المفتاح الذي يستحيل من دونه التأمل الحقيقي للطبيعة" (31). ويصف هذه الوحدة بالسهولة والاستقرار والديمومة؛ فهى وحدة أبدية، وهي الكينونة الحقيقية وسبب الأسباب. وظهر اهتمام "برونو" بوحدة الوجود أو واحديته في مبحثه عن "السبب والمبدأ والوحدة"، ويتضمن هذا المبحث عرضاً لمذهب "أفلاطون" والأفلاطونية المحدثة،  كذلك يشـير إلى الفلاسفة السابقين على "سقراط". ويبدأ "برونو" بالتمييز بين المبدأ والسبب؛ فالمبدأفي نظرههو الذي يدخل في تركيب الشيء ويكون ضرورياً لكينونته، في حين أن السبب خارج عن هذا الشيء ،حتى وإن كان يتفق معه كضرورة لكينونته. هكذا آمن "برونو" بحلول المطلق في الكون (أو الطبيعة)، وأطلق عليه روح الكون الذي يجعل منه وحدة واحدة؛ يقول "برونو": "إن الوحدة بلا نهاية، وهي تشمل كل شيء" (32). وإذا كانت الوحدة تشمل كل شيء؛ فإن التعدد رغم ذلك يظل موضوعًا للتجربة الإنسانية. ومن التعدد الكامن فى الوحدة حتى التعدد الظاهر في الكون، نرىكما يقول برونوتغيراً في المنحى ينبغي على الفيلسوف أن يضطلع     به (33)، وعلى حد قوله: "إن جميع الأشياء هي في حقيقة الأمر شيء واحد بلا تمييز، غير أنها مسألة تفوق قدرة البشر على الوصف ".

وفي كتابه "ظلال الأفكار" ذهب "برونو" إلى أن الإنسان ظِلٌّ للواحد الذي يعجز المرء عن وصفه، وأن الخير والشر شيء واحد إذا نظرنا إليهما من منظور الأبدية (34). يقول: "إن أفكارنا مزيج من النور والظلال؛ ولذلك لا تمثل الحقيقة المطلقة التي لا سبيل إلى الوصول إليها. ورغم هذا، فإن العقل يستطيع الارتفاع فوق المدركات الحسية، كما يستطيع تحقيق الوحدة عن طريق التعددية" (35). إذن الأفكار ما هي إلا ظلال للحقيقة، وعملية التذكر هي استخدام ظلال هذه الظلال. يقول برونو: "في هذا العالم- بحسب كهف أفلاطون- لا يمكننا أن نرى سوى ظلال الحقيقة التي تظهر على جدرانه، ظلال الأفكار التى تتشكل وتتكون عند الحد الأعلى للسماوات" (36).

يطبق" برونو"في ظلال الأفكارتوافق المتعارضات Coincidence of opposites لـ "نيقولا دى كوسا" Cusa (14011464) في مراتب الوجود، والذي شرحه "مارسيليو فيشينو"Ficino (14331499) في كتابه "اللاهوت الأفلاطوني" ، وهو مذهب يسعى إلى استجلاء "الروح العاقلة"، وهي روح تجمع بين روح العالم والروح الإنسانية. والرأي عند "فيشينو" أن الروح العاقلة تحتل مركز الوجود بوصفها الصلة التي تربط بين العالم المحسوس والعالم القابل للفهم (37). وهنا يشير "برونو" إلى سمات معينة في وظائف الإنسان العقلية والأخلاقية بحسبانها البرهان الذي يتوج "الواحدية الإلهية الشاملة" (Pantheistic Monism)؛ فالعقل هو أعلى قوانا الإدراكية؛ أي أنه أعلى من الحس ومن الذهن المرتبط بالحس. ولقد لاحظ "نيقولا دي كوسا" من قبل أن الملكتين الأخيرتين تبقيان أسيرتين لتناهي الأشياء وتباينهما، على حين يرد العقل إلى بساطة الماهية الواحدة الكامنة وراء الأشياء. وهذه العملية تعبر عن اقتناع عقلنا الفطري بأن هناك جوهراً واحداً غير متناهٍ وراء تعدد الظروف المتناهية. وفى المجال الأخلاقي نجد سعادتنا الحقيقية في تأمل الكون بوصفه كُلاًّ إلهياً، ونتغلب على الخوف من الموت حين نتأمل في الطبيعة الأبدية غير الفانية للمظاهر اللا متناهية للمادة والصورة، أو العقل. ومن هنا فإن تأملنا للجوهر الإلهي الفريد يُعُّد شكلاً من أشكال حبنا للواحد (38).

الجوهر الإلهي

ترجع فكرة "الجوهر" إلى" أرسطو"، والجوهر عنده هو الماهية التي يقوم عليها وجود كائن فردي، هذه الماهية تظل ثابتة وإن تغيرت كل الخصائص الخارجية التي تميز هذا الكائن من حجم وكيفية علاقات ... إلخ. إذن الجوهر هو ما يوصف بصفة أو بأخرى، ومن ثم يكون موضوعاً للقضية المنطقية. ولقد ظلت هذه الفكرة الأرسطية سائدة حتى دافعت عنها الفلسفة المدرسية فى العصر الوسيط، فأكدتها وزادتها توضيحاً؛ بحيث برهنت على صحة معرفتنا بوجود الجوهر الروحي المطلق أو الله (39). و"أرسطو"عند برونوقد عجز عن تقديم حل حقيقي لمشكلات التباين والتغير، بل لقد أساء فهم الطبيعة الحقيقية للجوهر الإلهي. يقول: "إن أرسطو لم يعثر على الموجود، ولم يعثر على الحقيـقة؛ لأنه لم يدرك الوجود على أنه واحد" (40). لقد استخدم الفيلسوف اليونانيفيما يرى برونوكلمة "وجود" في مواضع كثيرة، ولكنها خالية من حقيقة جوهر الطبيعة الفريد؛ ومن ثم لم يتمكن من تنظيم أحكامنا عن الطبيعة وعن الحياة تنظيماً سديداً، ومعرفة الوجود في حقيقته الميتافيزيقية معناه معرفة أنه لا وجود إلا لجوهر واحد في الكون.

وضع "برونو" مفهومه عن طبيعة الله وصلة الإنسان به من خلال رؤيته الحية للكون، وخرج من هذه الرؤية عن التعاليم المسيحية بمذهب في وحدة الوجود، بوصفه مذهباً في "واحدية الجوهر والطبيعة" (Monism of Substance and Nature). لقد تحولت العقيدة المسيحية في وجدانه إلى مجموعة من الرموز الفلسفية التي لا تتوافق مع الفكر الديني التقليدي. ومن هنا رفض أي تسليم بالوحي على أنه حقيقة (سواء في صورته الكاثوليكية أو البروتستانتية)، كما رفض أن ينظر إلى الأخلاق المسيحية بوصفها سبيلاً إلى السعادة        الإنسانية (41). لم يكن "برونو" يؤمن بالدعوى القائلة بحقيقتين إحداهما للّاهوت والأخرى للفلسفة، بل كان يدعوعلى النقيض من ذلكإلى نظرية صارمة ذات حقيقة واحدة، تحتوي فيها الفلسفة وحدها على معرفة واضحة صريحة بالله والإنسان والطبيعة؛ يقول: "يـُدرك الوجود من خلال مبادئ أسـاسية، تـُطلق بصفة عامة: المبدأ الميتافيزيقي والمبدأ الفيزيقي (الطبيعي) والمبدأ المنطقي ... وهذه المبادئ الثلاثة هي: الله والطبيعة والفن، وتـُعالج هذه الحقائق من خلال الإلهي والطبيعي والإصطناعي" (42). وكان لا يرى اللاهوت إلا أداة عملية للمحافظة على المسيحية المستقرة ولتنظيم السلوك العام، ولا يراه علماً نظرياً وعملياً قائماً على الحقائق الموحى بهـا. ولم يكن مدفوعاً في هجومه بالتقوى المسيحيةكما ذكرنا سلفاًأو حتى بالكشوف العلمية الجديدة؛ بل كان مدفوعاً بنزعة الواحدية في الميتافيزيقا والأخلاق، ومن ثم أخذ على عاتقه أن يبين خطـأ "أرسطو" في تصور الموجود، ومن ثم إخفاقه في الوصول إلى حكمة ميتافيزيقية (43).

وخلاصة القول

قبل أربعة قرون أحرقت الكنيسة الكاثوليكية "جيورادنو برونو" في ميدان الأزهار "dei Fioro" بروما في 16 فبراير عام 1600، وبدأت محاكمته عام 1592 ، ووجهت إليه تهمة الخروج عن العقيدة المسيحية، والدعوة إلى نظرية "كوبرنيقوس" في الفلك والاشتغال بالسحر، والتواصل مع بعض ملوك الدول الأجنبية الذين يهددون الكنيسة الكاثوليكية بدعوى "الإصلاح الديني". كذلك قوله: إن لا نهائية الله (في الأزلية والأبدية والطبيعة) تتضمن لا نهائية الكون، وقوله أيضاً: إن في الأرض روحاً حساسة عاقلة، وإن في الكون عوالم لا حصر لها، وإن الله يصنع العوالم باستمرار؛ لأنه يرغب في خلق الكثير منها. واللافت للنظر، أن "برونو" كان مؤمناً بالكنيسة الكاثوليكية، ولكن إيمانه بها كان مشروطاً بتحفظين: أولهما: أن سيطرة الكنيسة في مجال العقيدة والأخلاق تصلح للعاجزين عن توجيه أنفسهم. وثانيهما: أن السلطة الكنسية العليا ينبغي أن تسمح بحرية البحث طالما أنه يؤمن في الأساس بسلامة العقيدة المسيحية. وهذا يتعارض مع رفضه أي تسليم بالوحي على أنه حقيقةٌ مسلَّم بها، كما يتعارض أيضاً مع رفضه النظر إلى الأخلاق المسيحية بوصفها سبيلاً إلى السعادة الإنسانية.

ومن هذا المنطلق وجد "برونو" أن فَهْم الدين القائم على ازدواجية مطلقة (ازدواجية الله والكون، والروح والمادة) فهمٌ خاطئ، لذلك لجأ إلى إحياء الديانة "الهرمسية" ؛حيث يتحد الإنسان بالله بوصفه كلي الوجود وفيضاً نورانياً نابعاً من الضياء الإلهي، هذا الاتحاد ملأ عالم "برونو" بالمثل، وجعل في فلسفته الدينية مكاناً عظيماً للسحر؛ ليمكن الإنسان من الارتقاء بالسيطرة على ظلال العالم المادي.

...

هـوامـش الـبـحـث

ـــــــــــــــــــــــــــــــ

  1. كانت الحياة العلمية فى العصور الوسطى مقيدة بقيود الكنيسة، ولذلك كانت الكشوف العلمية نادرة، ولم يستطع المشتغلون بالعلم أن يفكروا بطريقة فردية، بل كانوا يعتقدون فيما قاله أسلافهم، واضعين نصب أعينهم تطابق العلم مع ما ترضى عنه الكنيسة.
  2. فؤاد صروف، أساطين العلم الحديث، دار المقتطف، 1935، ص 1 .
  3. نقلاً عن : أندروديكسون وايت [- A, D, White, History of warfare of science with theology in Christendom, ]

وقام بترجمته الأستاذ إسماعيل مظهر تحت عنوان: "بين الديـن والعلم، تاريخ الصراع بينهما في القرون الوسطى إزاء علوم الفلك والجغرافيا والنشوء، دار العصور للطباعة والنشر، القاهرة، 1930،  ص 3031 . انظر كذلك: د. عبد الله العمر، ظاهرة العلم الحديث "دراسة تحليلية وتاريخية" سلسلة عالم المعرفة، الكويت، عدد (69)،  1938، ص 36 .

  1. يعقوب صروف، بسائط علم الفلك وصور السماء، دار المقتطف، 1923، ص 5 .
  2. هانز ريشنباخ، من كوبرنيقوس إلى آينشتين، ترجمة ودراسة  حسين علي، وكالة زووم برس للإعلام، القاهرة، 1995،  ص4142. انظر أيضاً  حسين علي، فلسفة العلم المعاصر ومفهوم الاحتمال، الدار المصرية السعودية للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة، 2005، ص 49.[- Andrew Baker, Scientific Method in Ptolemy's Harmonics, Cambridge,  قارن كذلك:  New York, Cambridge University press, 2000, p. 25. ]
  3. انظر: علي الشوك، الثورة العلمية الحديثة وما بعدها، دار المدى للثقافة والنشر، سوريا، دمشق، 2004، ص 19. [- Angus, Armitage, A, The World of Copernicus (Sun, Stand Thou still),  قارن كذلك : New York, New American Library, 1951, p.20.]
  4. هانز ريشنباخ، المرجع سالف الذكر، ص 44. [Owen Gingerich, The Eye of Heaven (Ptolemy Copernicus Kepler)  قارن كذلك : The American Institute of Physics, 1993, p.37.]
  5. نظرية الدوائر الصغيرة هي النظرية التي تجعل الدوران مركز دائرة صغيرة، غير أن هذا المركز محمول على محيط دائرة أكبر منها .
  6. راجع : ولترستيس، الدين والعقل الحديث، ترجمة د. إمام عبد الفتاح، مكتبة مدبولي، القاهرة، 1998، ص 74 . [- Richard H, Schlagel, From  Myth to Modern Mind: A Study of the  لمزيد من التفصيل انظر: Origin and Growth of Scientific Thought, New York, P, Lang, 1996, p. 69.]
  7. د. نازلي إسماعيل حسين، الفلسفة الحديثةرؤية جديدة، المكتبة القومية، القاهرة، 1983،  ص 7071 .
  8. انظر: [- Job Kozham Thadam, The Discovery of Kepler's Laws ,The interaction of Science, Philosophy and Religion, Notre Dame, Ind, University of Notre Dam press, 1994, p. 55.  ]
  9. انظر: هانزريشنباخ، من كوبرنيقوس إلى آينشتين، ص 53. [- Stillman, Drake, Galileo: Pioneer Scientist, Toronto, Buffalo:  قارن كذلك: University of Toronto press, 1990, p. 20.]
  10. حسين علي، فلسفة العلم المعاصر ومفهوم الاحتمال، ص 56
  11. المرجع السابق، ص 57. [- Jerome J, Langford, Galileo, Science and The Church, Ann Arbor قارن كذلك:  : University of Michigan press, 1992, p. 65.]
  12. جيمس جينز، الفيزياء والفلسفة، ترجمة جعفر رجب، دار المعارف، القاهرة، 1981، ص 145.
  13. تمتع برونو منذ نعومة أظفاره بدقة الملاحظة، وكان في طفولته ينظر إلى جبل سيكالا Cicala  ( في مدينته الصغيرة ) على أنه "مركز العالم"،  وكان ينظر إلى بركان فيزوف (Visuvius ) فيراه أجرد قاحلاً يخلو من الخضرة والأشجار،  ثم ينظر إلى ما وراء هذا البركان  فيرى قرية سيكالا الزاهرة بكرومها النضيرة، قد أصبحت بعيدة مظلمة وموحشة. وبذرت هذه التجربة بذور الشك في نفسه، فلم يعد يعرف الأساس الذي يمكن بناء أي يقين عليه.
  14. لمزيد من التفصيل انظر:[ Classic Philosophers, The Philosophy of Giordano Bruno 

 - http: // radical academy.com/philbruno.htm.2005. ]

(18) جون هرمان راندل، تكوين العقل الحديث، ترجمة جورج طعمة، الجزء الأول، دار الثقافةبيروت، الطبعة  الثانية، 1965، ص 379 .

 

19- راجع فى ذلك  [- Hilary, Gatti, The Natural Philosophy of Giordano Bruno, Midwest 

  Studies in Philosophy, vol. 26 (Jan 2002) p. 118. ]

(20)   [- Francis R, Johnson and S, V. Larkey, Thomas Diggs, The Copernican System and  The Idea of The Universe, The Huntington Library Bulletin, 1943, p. 116.   ]       

(21) راجع فى ذلك : A, Bruno, Ash Wednesday Supper edited and translated by Edward-  Gosselin and Lawrence, S, Lerner Renaissance Society of America, 1995, pp. 22- 33.                    

22- Bruno, on The Infinite Universe and Worlds quoted by Dorothea, Waley, Singer, Giordano Bruno, His Life and Thought: With annotated translation of his work, on infinite universe and worlds, New York, Greenwood press, 1968, p. 247.

23- quoted by Henri, Michel, The Cosmology of Giordano Bruno, trans by R., E., Maddison, Cornell University press, 1973, p. 348. 

24- Giusppe, Candela, An overview of the cosmology, Religion and Philosophical Universe of Giordano Bruno, Italica, vol. 75, no. 3 (Aut 1998) p. 350. 

25- كولنجوود، فكرة الطبيعة، ترجمة  أحمد حمدى محمود، مراجعة  توفيق الطويل، مشروع الألف كتاب، الهيئة العامة للكتب والأجهزة العلمية، القاهرة، 1968، ص 119.

- Bruno's Cosmology, Giordano BrunoWikipedia, The Free Encyclopedia. انظر كذلك :

http://en.Wikipedia,org/wiki/Giordano_Bruno, 2005.

26- Greenberg, Sidney, The infinite in Giordano Bruno: with a translation of his dialogue, Concerning The Cause, Principle and one, New York: King's Crown press, 1950. pp. 7576.

27- جيمس كولينز، الله في الفلسفة الحديثة، ترجمة فؤاد كامل، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، القاهرة، 1998،  ص 4950 .

28- المرجع السابق، ص 50 .

29- Bruno, Cause, Principle and Unity and Essays on Magic, Translated and edited by Richard J., Blackwell and Robert de Lucca, with an introduction by Alfonso Ingegno, Cambridge University press, 1998, p. 68. 

30- Louis Horowitz, The Renaissance Philosophy of Giordano Bruno, New York, ColemanRoss, 1952. p. 316. 

31- Bruno, Cause, Principle and Unity, p. 70. 

32- Bruno, Cause, Principle and Unity, p. 71. 

33- Alessandro G. Farinella, Giordano Bruno: Neo-Platonism and The Wheel of Memory in The Deumbris Idearrum, Renaissance Quarterly, vol. 55 (July 2002) p. 596.

34- Frances, A, Yates, The Art of Memory, Routledge and Kegan Paul, London, 1966, p. 225.

35- Quoted  by Alessandro G, Farienella, op. cit., p. 620. 

36- Ibid, p. 62.

37- Dorothea Waley, Singer, Giordano, His life and Thought, p. 244.

38- جيمس كولينز، الله فى الفلسفة الحديثة، ص52

39-  عزمي إسلام، مدخل إلى الميتافيزيقا (ما بعد الطبيعة)، مكتبة سعيد رأفت، القاهرة، 1978،  ص48 .

40- Bruno, Cause, Principle and Unity, p. 27. 

41- جيمس كولينز، المرجع سالف الذكر، ص 43 .

42- Bruno, On The Composition of Images, signs and Ideas, Translated by Charles Doria, edited annotated by Dick Higgins, New York, Willis, Locker and Owens, 1991, p. 7.

43- جيمس كولينز، المرجع السابق،  ص 4344 .

 

 

أخبار ذات صلة