باسم الكندي
يتتبع الباحث الأردني سامي عطا عبد الرحمن -في مقاله المنشور بمجلة التفاهم "الصَّرْفَةُ وإعجاز القرآن الكريم عرضٌ... ونقضٌ"- آراء العلماء القائلين بأن إعجاز القرآن كان بالصَّرْفَة مُبينًا بُطلان هذا القول ومؤكّداً على أن القرآن معجزٌ بذاته.
تحدّثَ سامي عطا عبدالرحمن بدايةً عن معنى الصَّرْفَة لغويًا كونها على وزن فَعْلَة؛ بمعنى: ردُّ الشيء عن وجْههِ، يقول الله تعالى: "وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ" (التوبة:127)؛ أي رجعوا عن المكان الذي استمعوا منه، وقيل انصرفوا عن العمل بشيءٍ مما سمعوا، وقوله تعالى: "صرف الله قلوبهم" أي أضلَّهم الله مجازاةً على فِعلهم، أي أن الصَّرْفَة في اللغة لا تخرج عن معنى الردّ والرجوع والتحوُّل والتقلّب أي صرف الشيء عن وجهه إلى جهة أخرى. أما اصطلاحًا، فَتَعني أنَّ الله صَرَف هِمم العرب عن معارضة القرآن، وكانت في مقدورهم؛ لكن عاقهم عنها أمرٌ خارجي، فصار معجزة كسائر المعجزات، ولو لم يصرفهم عن ذلك لجاءوا بمثله.
وقد اختلف القائلون بالصًّرْفَة وقصدهم منها؛ حيث قالوا إنَّ الله لِكي يتحدّاهم حَالَ بين فصحاء العرب وبُلغائهم وبيْنَ الإتيان بِمثلِ القرآن بأمور ثلاثة؛ أولها: أنَّه صَرَفَ دواعيهم وهِمَمهم عن القيام بمعارضة القرآن ولولا ذلك لأتَوْا بمثله، أما ثانيها: أنه سبحانه سَلَبَ العرب العلوم التي كانوا يملكونها والتي كانت تؤهلهم للإتيان بما يُشاكل القرآن؛ ولولا هذا السلب لأتَوْا بمثله. أما ثالثها: أنَّهم كانوا قادرين على معارضة القرآن ولديهم العلوم اللازمة لذلك، ولكن الله منعهم بالإلجاء على جهة القسر من معارضته رغم قدرتهم فتقهقروا عن ذلك لغلبة القوة الإلهية على قواهم.
يُعزى القول بالصَّرْفّة عند كثير من الباحثين أنَّها وفدت إلينا من بعض التيارات الخارجية خاصة من الهند؛ حيث ظهرت كفكرة عندما تُرجمت الفلسفات الهندية في عهد الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور ومَنْ جاء بعده؛ فتلقَّفها بعض المسلمين عن طريق المشتغلين بالفلسفة أو من الذين يتلقفون كل وافدٍ من الأفكار حتى ركنوا إليها واعتنقوها وطبّقوها على القرآن حين قالوا: إن العرب -إذ عجزوا عن أن يأتوا بِمثل القرآن- ما كان عجْزُهم لأمرٍ ذاتيٍّ من ألفاظه ومعانيه ونسْجِه ونظْمِه؛ بل كان لأن الله صرفهم عن أن يأتوا بمثله، وقد أكّدَ الجاحظ -في كتابه البخلاء- أن فكرة الصَّرْفةُ جاءت من الخارج.
هذا.. وقد قال عدد من شيوخ المعتزلة بالصَّرْفَة -أبرزهم النَّظام البصري (ت 221هـ) أستاذ الجاحظ- حيث كان أول من جهرَ بهذا القول ودعا إليه، ورغم أن الصَّرْفَة ظهرت في البداية لديهم إلا أن مفهومها شملَ ثلاثة مفاهيم هي:
- مفهوم النظّام الذي ينفي عن القرآن الإعجاز، ويقول إنَّ القرآن لاشكَّ بِأنه كلامٌ بليغ استحسنه العرب، وكان مُقدَّماً عندهم، إلا أنّهم كانوا باستطاعتهم الإتيان بمثلِه لولا أنهم صُرِفوا مقهورين بقوة خارجة عنهم، لا طاقة لهم على دفعها، وقد رفضَ الجاحظ هذا القول واستنكره كما استنكره جمهور المسلمين وردُّوا عليه ردوداً مقنعة.. كالفخر الرازي في كتابه "تسهيل نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز".
- مفهوم الجاحظ والرماني لها وهو لا يقدح في بلاغة القرآن، ولا ينكر تفوَّقَّه، بل هو يُقرُّ بهذا الإعجاز، ويعترف به، ويُحس أن ما جاء به القرآن خارجٌ عن طوق البشر ومقدورهم، أي أن الصَّرْفَة هي ضربٌ من التدبير الإلهي والعناية الربانية، جاءت لمصلحة المسلمين لِيَحفظ القرآن من عبث العابثين والمشكّكين به، وقد صرف الله نفوس القوم عن معارضة القرآن، لا لأنهم قادرون على مثله والله مَنَعَهم من ذلك -كما قال النظّام- ولكن لئلا يكون لأهل الشغب متعلًّقٌ يتعلقون به فيُؤثّروا على أصحاب النفوس المريضة.
- مفهوم القاضي عبدالجبار (ت 415هـ)؛ حيث أبعد مفهوم الجبرية الذي ساد في حديث النظّام والجاحظ والرماني عنها؛ لأنها كانت عندهم جميعا شيئا خارجا عن إرادة القوم قد جُبِروا عليها جبراً؛ حيث قال إن الصَّرْفة هي صَرْفَة ذاتية، ذلك أنَّ العرب أدركوا بفطرتهم أن أسلوب القرآن لا يُمكن مجاراتُه ومعارضته، فانصرفوا ذاتيا عن معارضته، بلا قهر أو جبر من قوة خارجية؛يقيناً منهم بعجزهم عن ذلك.
كذلك هناك من أهل السنة من قال بالصَّرْفَة كأبي الحسن الأشعري (260هـ-324هـ) وابن حزم الظاهري وأبو العباس القرطبي وغيرهم، كما قالَ بالصًّرْفَة من الشيعة الإمامية الاثني عشرية الشيخ المفيد في كتابه (أوائل المقالات)؛ حيث ذكر في معرِض حديثِهِ في وجه إعجاز القرآن أنَّ جهة ذلك هو الصرف من الله تعالى لأهل الفصاحة واللسان عن معارضة النبي -صلى الله عليه وسلم- بمثله في النظام عند تحدّيه لهم، وجعل انصرافهم عن الإتيان بمثله -وإن كان في مقدورهم- دليلاً على نبوته، كما قال بالصّرفة آخرون كالشريف المرتضى والطوسي في كتابه (تمهيد الأصول في علم الكلام)، وكذلك ابن سنان في كتابه (سر الفصاحة).
وتصدَّى عددٌ من العلماء للقول ببطلان الصَّرْفة مثل الخطّابي البُستي (317-388هـ) حينَ ردَّ على من قال بالصًّرْفة بمعنى أن الله صَرَف الهِمم عن المعارضة، وإن كانوا قادرين عليها غير معجزين إلا بأمر خارج عن إرادتهم مُستدلّاً بقوله تعالى: (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَىٰ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) سورة الإسراء (الآية:88)، والتي أكّدَ من خلالها أن معنى الصًّرْفة التي وصفوها لا يلائم هذه الصفة، فدلَّ على أن المراد غيرها، كما قال السيوطي والباقلاني وابن عطية وغيرهم بفساد القول بالصَّرْفة، وختاماً نتفق حول ما عرضَه الباحثُ من حقائق بَيّنَ فيها بُطلان القول بالصَّرْفَة؛ هي:
- لو كانت المعارضة ممكنة وإنما منع منها بالصَّرْفَة؛ لم يكن الكلام معجزًا وإنما يكون المنع هو المُعجِز وليس القرآن.
- أن القول بالصَّرْفَة ينقض باقي الأوجه (النظم والإخبار عن الغيوب والوجه العلمي) التي قيل بأنها من وجوه إعجاز القرآن.
- الإجماع منعقدٌ على إضافة الإعجاز للقرآن الكريم.
- أن قريش مع شدة ملاحاتها للنبي -عليه السلام- ومع أن القرآن ذَكَرَ آباءهم وأوثانهم بغيرِ ما يُحبون، لم يتحركوا لأن يقولوا مثله؛ إذعانًا لبلاغته وفصاحته، مع أن القرآن تحدّاهم بأن يأتوا بمثل أقصر سورة منه، فما فعلوا لئلا يُسِفُّوا في تفكيرهم، فدلَّ هذا على عجزهم المطلق.
- أن القرآن جَذَبَ الكثير من العرب للإيمان به لِما فيه من قوة بيان وإيجاز معجز؛ حيث أدركوا أنَّ إعجازه ذاتي نابعٌ منه وأنه فوق طاقتهم.
