هاجر السعدي
لقد جاء مقال الباحث حاتم الطحاوي: "الجغرافيا التاريخية للبحر الأحمر قبل الإسلام" المنشور في مجلة التفاهم، نتيجة استغراب وتعجب منه اتجاه المفكرين المسيحيين والمؤرخين والجغرافيين الذين لم يهتموا بتوثيق ودراسة البحر الأحمر، حيث لم يخلفوا لنا عملا واحدا قبل الإسلام بشكل مباشر. مما كان – منطقيا- يجب عليهم الاهتمام بدراسة جغرافية وتاريخ البحر الأحمر على اعتبار أن بيزنطة – وريثة التراث الكلاسيكي القديم- يمتد امتدادها الجغرافي على البحر الأحمر. ويمكننا تفسير ذلك أن المفكرين المسيحيين البيزنطيين في الحقبة قبل الإسلام كرّسوا جهودهم لدراسة علوم الدين واللاهوت على حساب باقي العلوم التي عدّوها علوما وثنية. وهذا ما يوصلنا إلى معرفة وجود نقص كبير في المعرفة الجغرافية البيزنطية المسيحية بالبحر الأحمر وسواحله في القرن السادس الميلادي. ومن الجدير ذكره حين يهمل المؤرخ التاريخ بالانقطاع عن التدوين والتسجيل، فإنه يجعل مساحة لإعادة الأخطاء التاريخية في المجتمع البشري.
يأتي حاتم الطحاوي ليؤكد ويدعم صحة الفكرة أعلاه من خلال ما استدل به من أمثلة في مقاله. ويمكنني تلخيص ما قدمه وفقا للآتي:
أفاض كل من الجغرافي اليوناني "أجاثارخيدس" في القرن الثاني قبل الميلاد، وسترابون، ثم المجهول صاحب كتاب الطواف حول البحر الآرتيري في القرن الأول للميلاد، ومعاصره بليني الأكبر في الحديث عن البحر الأحمر وجغرافيته. فضلا عما كتبه كوزماس الملاح الهندي وبروكوبيوس من القرن السادس مع بعض المصادر الأخرى المعاصرة.
وقبل أن يفند ما تم ذكره عن البحر الأحمر من قبل الجغرافيين أعلاه أشار إلى نبذة جغرافية بسيطة عن البحر الأحمر الذي يشكل منطقة وصل، ومعبرا ملاحيا بين قارتي آسيا وأفريقيا. وتعد القناة الممتدة على الساحل الأفريقي أكثر ضيقا من مثيلتها على الجانب الآسيوي. وتتخلل تلك الحواجز فتحات عميقة تسمح بإبحار السفن.
والحقيقة أن البحر الأحمر قد احتل مكانة مهمة لدى الحضارات القديمة والأمم المجاورة له. فقد أطلق عليه الفراعنة اسم " الأخضر الهائل"، بينما أسماه اليونانيون والرومان " البحر الآرتيري" بفضل لون مياهه الحمراء بعد إنعكاس أشعة الشمس عليها. وذكرت المصادر الرومانية انقسام البحر الأحمر شمالا إلى خليجين " السويس"، و"العقبة". ولقد أشار الجغرافي أجاثارخيدس منذ القرن الثاني إلى دور الملوك البطالمة في تدشين الملاحة في خليج العقبة الأمر الذي جعله صالحا أمام الرحلات التجارية البحرية.
بيد أنه لقد عُدَّ التاجر السكندري كوزماس المعروف بالملاح الهندي الوحيد بين الكتاب البيزنطيين الذي أبحرت سفينته في مياهه فشاهده بنفسه فضلا عن إشارته في كتابه إلى أنه قد استمد العديد من معلوماته عن البحر الأحمر من البحارة والسكان المحليين الذين قابلهم في مختلف الأماكن التي مرّ بها. وبالتالي كان كوزماس شاهد العيان البيزنطي الوحيد للبحر الأحمر وسواحله، على عكس باقي الأعمال البيزنطية.
وعلى الرغم من ذلك؛ يمكننا تلمّس النقص الواضح لدى كوزماس عند حديثه عن جغرافية وسواحل وموانئ البحر الأحمر وأهميته الملاحية والتجارية مقارنة بالجغرافيين السابقين. حيث أن كوزماس لم يشر إلى الميناء المصري الذي انطلق منه مرورا بالبحر الأحمر سواء أكان ميناء القلزم أم القصر القديم. على الرغم من كونه تاجرا في الأساس قبل تحوله إلى الرهبنة – وهو ما جعل رؤيته الجغرافية مصطبغة بصبغة مسيحية، كما هو واضح من عنوان كتابه- فإنه لم يكلف نفسه بالإشارة إلى الأهمية التجارية لمدينة قلزم؛ فقد اكتفى بالإشارة إلى إنه بجوار المكان الذي فرّ منه موسى وأتباعه. وقد تناول معظم كتابات الحجاج المسيحيين، الذين وصلوا من قبله القلزمَ إبان رحلات الحج، الأهمية التجارية للميناء منذ وقت مبكر.
والحقيقة أنه لا يمكننا الحديث عن ميناء القلزم دون الحديث عن الرواج التجاري أيضا في جزيرة تيران الواقعة على مدخل خليج العقبة، حيث أقام موظفو الجمارك بها مكتبا لمتابعة السلع والبضائع حتى عام 473م. ومع ذلك، لم نجد إشارة من كوزماس لجزيرة تيران في القرن السادس الميلادي. ولكن وجدنا عنها لدى معاصره بروكوبيوس الذي وصفها بأنها تبعد مسافة أقل من ألف عن العقبة وأن السكان اليهود الذين كانوا يعيشون بها قد خضعوا تماما للإمبراطورية البيزنطية في عهد الإمبراطور جستيان.
ومن المريب أيضا أن الملاح كوزماس الذي ارتاد البحر الأحمر بسفينته لم يشر إلى أحد أشهر الموانئ المصرية في الفترة الرومانية المتأخرة، وهو ميناء برينيقي إلى جانب ميناء القلزم.
وعلى أية حال فلم تخل كتابات الرحالة السكندري كوزماس من بعض الإشارات الأنثروبولوجية لسكان الساحل الأفريقي للبحر الأحمر مثل إشارته الوحيدة عن سكان الكهوف، والحقيقة أن تلك الإشارة لسكان الكهوف لم تكن الأولى في المصادر الجغرافية البيزنطية.
ومن المثير أيضا أن نشير إلى أنه قد حدثت هجرات قديمة لسكان سواحل البحر الأحمر منذ العصور القديمة نتيجة ظروف جغرافية ومناخية، وهو الأمر الذي دفع بعض الباحثين المتخصصين إلى ملاحظة العلاقة بين سكان قبائل البجة شرق السودان ومصر وقبائل عرب شبه الجزيرة قبل الإسلام.
كما أغفلت الجغرافيا البيزنطية أيضا أهم موانئ الجزيرة العربية على الساحل الشرقي للبحر الأحمر وهو ميناء لويكي كومي (القرية البيضاء- الحوراء) الذي يقع مقابل الميناء المصري، حيث سيطر على الطريق التجاري الممتد إلى البتراء. ثم عاد الجغرافيون البيزنطيون والمؤرخون للحديث عن ساحل الجزيرة العربية جنوبي لويكي كومي. فذكر ماركيانوس أن العرب أصحاب الخيام كانوا يسكنون الصحراء المتاخمة للساحل الشرقي للبحر الأحمر، كما أشار مروكوبيوس إلى عرب يمتلكون أراضي على الساحل يدعون ربما أهل "مدين". غير أن ذلك يخالف ما ورد سابقا لدى سترابون من وجود ساحل صخري طويل على الضفة الشرقية للبحر الأحمر، كان يصعّب مهمة السفن المبحرة بسبب وجود سلاسل من الجبال. و يمكننا أن نستنتج أن الأمر قد تغير زمن بروكيوبيوس في القرن السادس؛ إذ أصبح الساحل أكثر أمانا بعد أن بسطت بيزنطية نفوذها فاستمرت في وصف الساحل الشرقي للبحر الأحمر حتى جنوب غربي الجزيرة العربية، وعملت السياسة على توطيد العلاقة مع حكام جنوب غربي شبه الجزيرة العربية. ومن الغريب أيضا أن الجغرافيا البيزنطية تجاهلت ذكر المدخل الجنوبي للبحر الأحمر مضيق باب المندب باعتباره النقطة التي ينتهي عندها البحر الأحمر، على عكس ما ذكره صاحب كتاب الطواف في منتصف القرن الأول الميلادي. كما أنها غفلت عن الحديث عن كيفية اقتحام الأسطول الحبشي للأراضي الحميرية، فلم تذكر أي الموانئ التي حدثت فيها أحداث القتال.
كل ما ورد ذكره أعلاه يعد أدلّة تبرهن صحة رأي الطحاوي الذي توصّل إلى حقيقة نقص المعرفة الجغرافية البيزنطية قبل القرن السادس الميلادي قبل الإسلام. مما وجب على المفكرين والمتخصصين في جميع أنواع العلوم الإنسانية والطبيعية، الاهتمام بمجالهم التخصصي وحرصهم على دراسة الحاضر تكنولوجيا وتاريخيا وأنثروبولوجيا وتاريخيا واقتصاديا وفيزيائيا إلخ. فالعلم أداة تطور وحضارة الإنسان والمجتمع. ومن سمة العلم التراكم والبناء عليه.