هاجر السعدية
في مقاله "الفكر السياسي الإسلامي المعاصر نحو مؤسسة القيم وإعادة بناء العلاقة بين الدين والسياسة" يتساءل عبدالحكيم أبو اللوز حول مدى وجود "البعد المؤسساتي" في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر، ووظف مفهوم المؤسسة بمعناه الكلاسيكي حسب مونتسكيو؛ فإنّ مؤسسة شعب ما، تعني نقل مجموعة من الأفراد تحركهم الميول والغرائز الذاتية إلى حالة اجتماعية يعترفون فيها بسلطة تكون خارج مصلحياتهم. فالمؤسسة وفق هذا المعنى تصبح أحد معايير الانتماء للمجتمع، وتقوم العلاقات بين أفراد المجتمع على مبدأ تساوي المواطنين وتخوّل لهم التعرّف على الحقوق والواجبات التي تلزمهم إزاء بعضهم بعضا.
يمكنني أن أوجز الفكرة التي يطرحها الباحث في مقالته العلمية، والتي أجدني غير متفقة معها؛ حيث يطغى عليها الطوباوية. وفي أسلوب الكاتب يتبين أنّه يسجل فكرته وهو مدفوع بهاجس نصرة الأمة الإسلامية؛ وهذا ما يجعلنا نأخذ عليه ذلك؛ حيث منشأ دفاعه لأفكاره نفسيًا أكثر مما يكون منطقيًا، وهذا ما يجعله يقع في فخ غياب الموضوعيّة في الطرح وطغيان العاطفة؛ فهو يسعى إلى تبديد التحديات التي تواجه الفكر السياسي الإسلامي المعاصر وذلك من خلال إعادة توظيف القيم إيجابيا، أي تحويلها من مجرد معانٍ أخلاقية وتربوية إلى مؤسسات سياسية لها ضوابط وأهداف خاضعة للقواعد والرقابة. يبدو للوهلة الأولى أنّ هذا التنظير برّاق، وسوف يحقق وجود المجتمع المُتّزن والمثالي الذي رسمته شريعة الدين الإسلامي، ولكن حين نأتي إلى النظر في واقع المجتمعات العربية الإسلامية التي تبرز ديانتها، وتعمل على المتاجرة باسم الدين، والتضليل لعقول الشعوب باسم الدين نتساءل منطقيا: ما الفائدة الحضاريّة والتنموية للدول التي تعلن ديانتها؟
على أيّة حال الباحث يحاول استعراض مغامرة جديدة تهدف إلى رسم علاقة جديدة بين الدين والسياسة بمنظور مختلف، تسعى لتجاوز أخطاء الأجيال السالفة. واستدعى ذلك كشف التصور النظري الذي تنطلق منه المشاريع الفكرية الهادفة إلى مؤسسة القيم الدينية؛ وفي نقطة ثانية كشْف الأبعاد التي تفتح عليها هذه المحاولات.
أولا: من الإصلاح إلى إعادة البناء: هدفت القوى الإسلامية المعاصرة والتي تعتبر امتدادا زمنيا ومكانيا لتيار الصحوة إلى إعادة وصل علاقاتها مع الفكرة الإصلاحية وذلك عبر خطاب تتملّكه نزعة التوفيق بين الفكرتين الإصلاحية والصحويّة من خلال مشروع يجمع هذين المنطلقين، ولكن من جهة أخرى تبيّن وجود حركة نقد كبيرة لأطروحات الفكر السياسي الإسلامي الكلاسيكي من خلال النتائج الاجتماعية والسياسية التي تعترف بأنّ التراث العربي في السياسة أبدى نفورًا شديدا من تجسيد فكرتي الأمير والشورى، وهذا ما أظهر أنّ الخطاب الإسلامي المعاصر يمثل مشروعا لإعادة بناء الفكر الإسلامي أكثر منه محاولة لإصلاح هذا الأخير. فالجيل الرابع الذي حمل لواء هذا المشروع (الغنوشي، التُرابي... إلخ) تحمّل مسؤولية التجديد وتجاوز سلبيّات الأجيال السابقة التي تمثلت في رأيه بشكل عام (انطباع فكرها بالصيغة المثالية والوقوف في التعبير عن الأفكار الإسلامية عند الحدود الأخلاقية والدينية الصرفة) فهذه السلبيات تمثلت عند الجيل الأول (ابن تيمية، ابن القيم... إلخ) في وقوفه عند القراءات المتسرعة لعهد التشريع والمُفضية في الغالب إلى البحث عن أسانيد دينية لتبرير الواقع بدل السيطرة عليه، مما أدى إلى إنشاء كتب السياسة الشرعية؛ وهي معزولة عن الواقع التطبيقي، وكانت النتيجة غياب الرؤية الدستورية القائمة على المنظور غير التسليمي مع السلطة. كذلك يعاب على الجيل الثاني (محمد عبده، الأفغاني... إلخ) توفيقيته المباشرة والسطحية بين القيم الإسلامية وما يقابلها من مبادئ دستورية غريبة.
أمّا الجيل الثالث (سيد قطب، المودودي... إلخ) فلوحظ عليه فهمه الخاطئ لمفهوم الشمول؛ أي اعتبار أنّ الإسلام دين شامل يعني رفض التدرج في الإصلاح. وخلص أحد المفكرين بعد هذا التقييم إلى التأكيد على أنّ نقطة الضعف الخطيرة في الفكر الإسلامي قديمه وحديثه هي عدم التناسب بين الوسائل والغايات؛ مما أضفى على مقولته مسحة مثالية.
ولتجاوز كل هذه السلبيات رفع المفكرون الإسلاميون المعاصرون مشروع إعادة بناء الفكر الإسلامي بأجياله الثلاثة من خلال الاستناد إلى جوهر الفكرة المستندة إلى المنهج التثقيفي من الناحية الفكرية والنهج الاعتدالي في جانب الدعوة، إضافة إلى الرغبة في اللحاق بالمدنية الحديثة والانفتاح على المؤثرات الحضارية، والتعامل معها تأثيرًا وتأثُّرا ولكن مع إنضاج المحاولات التوفيقية؛ مما يستوجب خطابا إسلاميا يواكب تحولات العصر وقضاياه.
واستنتج من هذا وجود وعي متزايد لدى الفكر الإسلامي بأزمة الفكر السياسي المنطلق داخل المرجعية الإسلامية، وبضرورة تطويره من خلال نظرية الدولة والسلطة تتسم بخصوصيتها وحداثتها معا.
وفي الزاوية الثانية ارتكز الباحث على تنظير ومحاولة منه لمؤسسة القيم الدينية وإعادة بناء العلاقة بين الإسلام والسياسة، ويشير المفكرون الإسلاميون اليوم على غرار سابقيهم إلى أنّ طبيعة الإسلام لا تقبل الفصل بين الدين والسياسة، فالاختلاف يكمن على مستوى تحديد درجة التناغم الحاصل بين عنصري: الدين والسياسة. فالعلاقة بينهما علاقة دمج وانصهار أي انصهار الدولة في الدين؛ بحيث يكون الإسلام دين الدولة وتكون الدولة أداة لخدمة الشريعة. مشروع إعادة بناء العلاقة بين الدين والسياسة تتضح محاولته في خلق تطور وتمثُّلات جديدة لمفهوم السياسة واكتشاف أبعاد جديدة في علاقته بمفهوم الدين. أي أنّ الخطاب الإسلامي أصبح يتحدث عن الدين باعتباره مصدر تربية ذاتية وجماعية لا غنى للنظام السياسي عنها. فإذا كانت الدولة هي محرك السلطة فالدين هو روحها. والخطر أن ينفصل الروح عن الجسد حيث يزول العقد الجمعي وينهار النظام الاجتماعي. بيد أنّ تحديد القيم الإسلامية بالشكل الذي يُمكِّن من إعادة بناء العلاقة بين الدين والسياسة مهمة لازالت في مرحلة البناء رغم الجهد المعتبر؛ لذلك نرى أنّ تماسك هذا المشروع يتطلب تراكما للاجتهادات لوجود محطة توفيقية بين الدين والسياسة. وبناءً عليه؛ فإن الفكر الإسلامي لن يكون نقيضا للفكر العلماني بشكل مطلق. ومع جهود الباحث في توصيف هدفه وفكرته القائمة على إعادة التأسيس لعلاقة جيّدة بين الدين والسياسة إلا أنّه وبمثلما أشرت أعلاه، التنظير يبدو براقًا ولكن تبدو مشكلتنا أعمق ولم تكن مجرد فشل عابر أو تعثرات عابرة، وإنّما المشكلة في الرواسب والعقول التي باتت ضحية لأنظمة استبدادية اتخذت من الدين مدخلا لتثبيت جذور الفساد.