علي داود
لطالما دعا الحكماء إلى اتباع أسلوب الحوار لتقريب وجهات النظر خاصة في مجال الأديان لمكانتها المقدسة والخطرة في آن. إضافة لما يقوم به الحوار من فتح آفاق معرفية جديدة أمام العقل. ومن ضمن ما يتطلبه الحوار حتى يكون بنّاءً تصحيح المفاهيم التي يملكها كل طرف عن الآخر، والتي قد يكون استقاها من مصادر غير أصيلة أو تحت وطأة ظروف غير مناسبة كالنزاعات السياسية والمطامع الاقتصادية، وفي المقالة التي نشرها الباحث والأكاديمي المصري محمد فوزي رحيل في مجلة التفاهم محاولة جيدة وحذرة إلى حد ما لتصحيح بعض المفاهيم، التي تم نشرها في أوربا في القرن الثالث عشر الميلادي عن طريق راهب إنجليزي يُدعى متّى الباريسي، ولعلّ الكثير من هذه المفاهيم المغلوطة مازالت منتشرة حتى اليوم لأسباب تقترب أو تبتعد عن تلك المرحلة.
يُعتبر متّى الباريسي أحد كبار الكُتاب الأوروبيين في القرن الثالث عشر الميلادي، وقد كان راهبا إنجليزيا تخرج في مدرسة دير القديس ألبان، وكُلف بإصلاح نظم الرهبنة والديرية في النرويج. تكمن أهمية متّى بالنسبة للمسلمين في كتابه "التاريخ الكبير" الذي ألّفه في سنة 1240م، وقدّم فيه صورة عن الإسلام كان الهدف الأساسي منها – كما يؤكد الباحث المصري – تشويه سمعة المسلمين وتأليب الرأي الأوروبي الخاص والعام لمعاودة شن الحرب على بلادهم، وذلك بعد فشل الحملات الصليبية الخمسة التي كانت آخرها سنة 1219م بما في ذلك فشل مختلف محاولات التبشير بالدين المسيحي في البلاد الإسلامية.
لقد استقى الباريسي أخباره من أربعة مصادر أساسية وهي: تقارير المبشرين إلى البابا، ورجال الدين الكاثوليك من ذوي المناصب في المستعمرات الشرقية، والرؤية الشعبية الأسطورية التي انتشرت في أوربا عن الإسلام، وأخيرا كتابات اللاهوتيين الكاثوليك عن المسلمين. كذلك يمكن تتبع بعض الأخبار التي اعتمد عليها في المصادر الإسلامية ولكن بصورة انتقائية تخفي أكثر مما تظهر.
يمكن القول إن متّى الباريسي ركّز في كتابه على جانبين مهمين. الأول نبوة النبي محمد وقد قدّم مجموعة من الاستدلالات لإنكارها، والثاني تعاليم الإسلام وشرائعه والتي تناولها بالنقد والاستهجان.
الجانب الأول: نبوة النبي محمد
من ضمن الاستدلالات التي قدمها الباريسي لإنكار نبوة النبي محمد:
1- انتهازية محمد وبحثه عن الثروة والملك، فقد تزوج من امرأة غنية ليستطيع بمالها أن ينافس نبلاء قريش، وعندما لم يستطع ادّعى النبوة ليتبعه الناس: إنّ المتتبع لسيرة النبي محمد يدرك بشكل واضح عدم تماسك هذه الرؤية، فالنبي محمد لم يكن ينقصه شرف النسب فقد كان حفيدًا لسيد قريش الذي كان راعيا للكعبة، كما أنّ قريش عرضت عليه المال والمقام بمختلف الوسائل ليتنازل عن دعوته ولكنّه لم يفعل، وتحمل في ذلك مشاقا وصعابا كثيرة.
2- لم يؤمن بمحمد إلا الجاهلون الفقراء وقطاع الطرق واللصوص والمحرومون: لم يذكر الباريسي كبار سادة قريش وعقلاءهم ممن آمنوا بنبوة النبي محمد، ولم يهتم بأعيان يثرب وعلماء اليهود الذين اعتنقوا الإسلام رغم وضوح ذلك في المصادر الإسلامية.
3- اعتدى محمد على التجار، فقد سرق أبا جهل في مكة، وشنّ الحروب لنهب القوافل: يتغاضى الباريسي هنا عن ميزة مهمة للنبي محمد، وهي ميزة الأمانة والصدق التي تصدح بها المصادر الإسلامية، وكيف أنّه لم يخن أمانات من كذبوه وآذوه عندما تركها لهم عند ابن عمه حين قرر الهجرة إلى المدينة المنورة.
4- محمد لم يكن يعلم ما سيقع له من سوء فيتجنبه: لم يدّع النبي محمد غير أنّه بشر أوحي له، ولم يدّع أبدًا أنّه يعلم الغيب من عند نفسه، وهذه – كما يشير الكاتب – ميزة في الإسلام بحيث يدعو للأخذ بالأسباب للوصول إلى النتائح المرجوة.
5- شهوانية محمد، فقد كان محبا للنساء بل وطامعا في نساء أتباعه، وفي قصة زيد بن حارثة خير مثال على ذلك: مرة أخرى انتقى الباريسي من سيرة النبي محمد ما يخدم أغراضه فقط، وتغاضى عن حقيقة أن زوجة زيد كانت في الأصل ابنة عمة النبي وأنّه هو الذي زوّجها بزيد، وأمّا زواجه منها لاحقا فقد كان لحكمة إلغاء عرف التبني عند العرب حيث كان النبي قد تبنى زيدا سابقًا، ولو كان النبي محمد شهوانيا كما يدّعي الباريسي لما تزوج سيدة كبيرة في السن وهو في ريعان شبابه ولصار من رواد بيوت صويحبات الرايات، ولما تزوج بعد السيدة خديجة إلا بالأبكار، في حين ينقل لنا التاريخ أنّه لم يتزوج ببكر غير السيدة عائشة، وكل من زيجاته لها ظروفها وتبريراتها.
6- محمد مات مسمومًا على يد امرأة تدعى زينب، ولو كان نبيا لأنقذ نفسه من السم: وردت رواية مشابهة في بعض المصادر الإسلامية، ولكنها تنسب الحدث ليوم خيبر الذي كان قبل أربع سنوات من وفاة النبي محمد، وبالتالي تكون هذه الدعوى غير سليمة.
الجانب الثاني: تعاليم الإسلام وشرائعه
تناول الباريسي عددا من تعاليم الإسلام بقصد النقد والاستهجان، منها:
1- القرآن وحي شيطاني كتبه محمد بنفسه واقتبس فيه من الإنجيل والتوراة: لم يرد الكاتب على هذه التهمة بشكل خاص، ولكنّها قديمة قدم زمن النبي محمد نفسه، وقد رد القرآن الكريم عليها بقوله: "وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان".
2- يحق للمسلم القادر اتخاذ أربع زوجات مع عدد لا يحصى من الجواري، وذلك لإكثار عدد المسلمين: لقد فات الباريسي أنّه بالرغم من وجود هذا التشريع في الإسلام إلا أن له قيودا وأحكاما، وأن المجتمع الإسلامي معظم رجاله يكتفون بزوجة واحدة.
3- من يرتد من المسلمين عن دينه يُستتاب ويُعطى فرصة ثلاثة أيام لمراجعة نفسه فإن أصر يُقتل: يوافق الكاتبُ الباريسي في هذا الصدد بحجة أن هذا الحكم إنما جاء لردع من تسول له نفسه التلاعب بدين الإسلام رغم عدم اتفاق كل المفكرين المسلمين عليه لدرجة أن بعضهم أنكر وجوده بشكل صريح.
إضافة إلى هذه التعاليم التي انتقدها الباريسي هناك مجموعة أخرى نقلها كما هي صحيحة أو مع بعض التناقض كعقيدة المسلمين في التوحيد والصيام والصلاة ويوم الجمعة ومكانة النبي محمد ونبوة النبي عيسى.
بعد صورته المشوهة والمتناقضة عن الإسلام يقدم الباريسي لجمهوره عددا من أسباب انتشار الإسلام يمكن تلخيصها في استخدام المسلمين لأساليب القوة والإغراء. لم يتناول الكاتب في مقالته ردا على هذه الأسباب، واكتفى بالإشارة إلى تعمد تشويه صورة الخلفاء بعد بتشويه صورة النبي محمد، وجدير بالذكر هنا أنه لم يغب عن الباريسي أصل خلاف الشيعة والسنة حول الخلافة وقد استغله لخدمة غرضه.
إنّ المتتبع للتاريخ الإسلامي بحيادية لن يستطيع أن يجزم أن الفتوحات الإسلامية خاصة ما بعد فترة الخلافة الراشدة كانت خالية من أي عناصر الأذى للآخرين، وهو في الحقيقة جدل مفتوح إذ أنّ بعض المفكرين المسلمين أنكر صراحة شرعية تلك الفتوحات، ولكن اعتناق شعوب كثيرة للإسلام في شرق الأرض وغربها وفي حالات كثيرة واندماجهم التام بثقافاتهم في الإسلام وتعاليمه وإلى اليوم لهو دليل في حد ذاته أن الأسباب التي نقلها الباريسي ليست ثابتة بالمطلق.
