فاطمة إحسان
لعل مصطلح "الأمة الإسلامية" واحد من أكثر المصطلحات التي تعرّضت للتفكيك والتحريف وإعادة الترسيم على مر التاريخ الإسلامي، بفعل عوامل سياسية وفكرية كثيرة تعرضت لها المنطقة، أما مصطلح "القيادة" فهو مصطلح لا يعرّف إلا في سياق التجربة، من هنا يتساءل مصدّق الجليدي في مقاله "التوازن بين الأمة والقيادة" المنشور في مجلة التفاهم عن العلاقة بين هذين المفهومين من أوجه فكرية وتاريخية متعددة، وسنحاول في هذه الصفحة الإلمام بأهم ما أشار إليه.
يتطرق الجليدي في البدء لمفهوم الأمة، فهي وفقاً للتعريف الذي يميل إليه: جماعة من الناس تتماثل في صفات ذاتية كالنسب أو اللغة أو الدين، وهي تتألف عادةً إما من دول عظمى (كما كان الحال في الفترة الأولى من الخلافة الإسلامية) أو من مجموعة دول تدين بالدين نفسه، وتجمع مواطنيها قضايا مشتركة كمواجهة أعداء معينين (كماهو الحال في بداية نشوء الدول)، أمّا المجتمع الإسلامي فقد احتاج في سبيل نشوئه إلى تأسيس عدد من النظم والقوانين، وهذه النظم كما شرحها الطاهر بن عاشور في كتابه "أصول النظام الاجتماعي في الإسلام"، تنقسم إلى فنّين أصيلين: الفن الأول هو فن قوانين المعاملات كالعدالة والمساواة، والفن الثاني هو فن القوانين التي تحفظ وضع الأمة من الاختلال كحماية الدولة وإدارة الاقتصاد.
أمّا مفهوم القيادة فوقائع التاريخ الإسلامي تشهد على تعدد أشكاله وأوجه التعدد والصراع بين أطرافه، فقد شهدت بعض الفترات صراعات ظاهرة بينما شهدت فترات أخرى هدنة متفقا عليها، كالهدنة بين معاوية والحسن بن علي على سبيل المثال، أو بين السلطتين المادية والمعنوية، أو هدنة مفروضة كاللجوء للعمل السري إلى حين ظهور فرصة للانقلاب على السلطة في وقت لاحق. وتكمن ضرورة البحث في هذه الأوجه في أنه لا يمكننا التعامل مع حاضر الأمة دون اتخاذ موقف من الماضي برموزه الذهنية والسياسية والمخزون النفسي الذي خلّفه وراءه.
القيادة وتشكلها الرمزي والتاريخي
1- البعد الرمزي للقيادة في الفلسفة الإسلامية: قام الجليدي باستقصاء مفهوم القيادة في تاريخ الفلسفة الإسلامية عبر ثلاثة أعمال رئيسة هي: كتاب "السياسة" لابن سينا، وكتاب "آراء أهل المدينة الفاضلة للفارابي"، وكتاب "تلخيص السياسة" لابن رشد.
يتفق هؤلاء الفلاسفة الثلاثة على أنّ الفيلسوف هو أجدر الناس بالقيادة نظراً لما يتمتع به من رجاحة العقل، فقد جاء في كتاب "تلخيص السياسة" لابن رشد أنّ "الحكام في هذه المدينة هم بلا شك الفلاسفة الذين توفرت فيهم إلى جانب الحكمة كل الفضائل الخلقية وغيرها من الفضائل". والمقصود بالفيلسوف هو العالم، حيث لا يوجد من هو أعلم من الفيلسوف في العصور القديمة، لاسيما وأنّ الفيلسوف لا يختص علمه بأمور جزئية وإنما يشمل كليات الأمور في مختلف المجالات التي تحتاجها الدولة. من جهة أخرى يحذر ابن رشد عبر تلخيصه لآراء أفلاطون في السياسة من الحكام الذين يتظاهرون بالحكمة وهم أبعد الناس عنها، فهم في الغالب يميلون إلى اللذات بشره، ونحو القتل والتعذيب ولا يملكون أي فضيلة خاصة تردعهم عن ارتكاب هذه الأفعال.
2- الإمامة القائدة في مدارس الفكر الإسلامي القديم:
اعتبر فقهاء أهل السنة والجماعة الإمامة من فروع الدين، فهي اجتهاد بالدرجة الأولى وليست أمراً تعبدياً، على العكس من الشيعة الإمامية والإسماعيلية التي عدّت الإمامة أصلاً من أصول الدين، فالدين يقتضي السلطة القائدة والإمام عندهم قائم على الشرع، ولا تقوم الشريعة بدونه، في حين ظل الإمام عند أهل السنة حارساً للشرع وليس من مقتضياته، أما الجماعات الأولى من المحكّمة فقد رفضوا ضرورة الإمام السياسي غير الشرعي للمشروع الإسلامي عبر شعارهم "لا حكم إلا لله".
المسار التاريخي لتشكل مفهوم القيادة وتطورها في الحضارة الإسلامية
يرسم ابن خلدون في مقدمته الشهيرة المسار الذي سلكته القيادة في طريقها من الخلافة إلى الملك المحافظ على معاني الخلافة، وصولاً إلى الملك البحت (السلطنة) حين اختفت معاني الخلافة ولعل الكلمة الأقدم فيما يتعلق بالمهمات الاجتماعية للسلطة، هي تلك المنسوبة للإمام علي، والتي قالها في معرض إثباته لأهمية السلطة: "لا بد للناس من أمير برّ أو فاجر، يضم الشعث ويجمع الأمر، ويقسم الفيء، ويجاهد العدو، ويأخذ للقوي من الضعيف". وفقاً لهذا النص، ثمة أربع وظائف أساسية للقيادة: ضمان تماسك المجتمع، وتصريف الشؤون الاقتصادية للدولة، والدفاع عن الأرض، وإثامة العدالة القضائية، وهي وظائف تصنف ضمن المجالات الأربعة التالية: المجال المدني، والمجال الإقتصادي، والسياسة الخارجية، والمجال القانوني والقضائي.
طوال التاريخ الإسلامي كان ثمة توتر دائم بين السلطتين السياسية والفكرية؛ مما أدى بطبيعة الحال إلى صراع مستمر، كانت أول بوادره هو ذاك الصراع الذي وقع بين الخليفة الثالث عثمان بن عفان، والصحابي أبي ذر الغفاري، لكن هذا التوتر لم يصل دائماً إلى حد الصراع المعلن، ففي أغلب الأحيان كانت السلطة السياسية تقمع السلطة المعنوية أو الفكرية التي كانت للفقهاء عادةً.
الأمة الإسلامية اليوم
يختتم الجليدي مقاله بأنه على الرغم من أن الدولة الإسلامية قد تفككت تماماً، إلا أن كيان الأمة ما زال حاضراً، بل ازداد حضوراً وقداسة في وجدان المسلمين بمرور التاريخ، لكن هذا الرأي قد يبدو حالماً إلى حد ما، فمفردة "الأمة" اليوم تبدو غريبة على أسماع الكثيرين ممن لم يشهدوا مثالاً أو محاولة حتى لاسترجاع كيان "الأمة الإسلامية" الذي لم يكن متحققاً في الواقع إلا إبان عصور الخلافة الإسلامية، إذ لم تنجح أي دعوة وحدوية لبناء كيان سياسي موحّد بعد ذلك، لا التيارات القومية العربية ولا حتى الأساس الإسلامي للتقريب بين الدول التي كانت تمثل الأمة الإسلامية يوماً ما، وإن كان هذا المفهوم حاضراً بصورة شكلية فذلك من منطلق المقاومة والرفض للواقع الدموي المفكك، لا أكثر.
