هاجر السعدية
يعد مقال رشدي راشد (المجتمع العلمي والتقاليد الوطنية) من المقالات التي تعرّي حقيقة المجتمعات العربية الغارقة في وهم سعيها لعلمنة مجتمعاتها. يمكننا القول إن كل شيء يعبر عن نفسه عن طريق عدده (كميته) فعندما يتواجد مجموعة من العلماء والخلاقين والمبدعين والمؤسسات والمراكز والمخابر العلمية في مجتمع ما هذا يعكس مدى رقي ثقافة البلد الحاضن لهذه الطاقات المنتجة؛ ولكن رشدي - وأنا متفقه معه- ينفي هذه الافتراضية في مجتمعاتنا العربية حيث يشير إلى فكرة أن عدد الجامعات ومراكز البحوث والتذكير بعدد الأطباء والمهندسين مهم دون أدنى شك لكن هذا لا يشكل بالضرورة مدينة علمية أومجتمعا علميا. قد يحدث إن هذا العدد لا يحمل في طياته إلا عملية إعادة إنتاج ثقافي واستيراد ثقافة وتطويعها على مجتمع يختلف من حيث معاييره وبنيته وعوامله. فالحديث عن المجتمع العلمي مهمة أبعد من أن تكون سهلة.
ولا يمكن الكلام عن المجتمع العلمي دون الكلام عن البحث العلمي ( فالمجتمع العلمي يكون موجودا حينما توجد تقاليد وطنية في البحث العلمي تمهد لوجود هذا المجتمع العلمي) وفي حال عدم وجود تقاليد وطنية للبحوث لا يبقى أمامنا سوى كمية من المعلمين والتقنيين. ولقد أورد الباحث رشدي راشد لإيضاح ما أكده ثلاثة أمثلة مأخوذة من تاريخ العلوم في هذه المنطقة (العربية) من العالم، وقبل ذكر الأمثلة نستوقف لذكر بعض الوقائع التاريخية – التمييز بين العلم الكلاسيكي والعلم الحديث والعلم الصناعي-. لقد تطور العلم الكلاسيكي فيما بين القرن التاسع الميلادي والنصف الأول من القرن ال17 م ونشأ أول الأمر في المراكز المدنية الإسلامية وباللغة العربية، ولقد تم تنشيط هذا العلم من جديد في نهاية القرن 16 وخلال النصف الأول من القرن الذي يليه بدأ يضمحل في مكان نشأته. وكان هذا العلم مكتوبا باللغة المسيطرة التي كانت العربية في بادىء الأمر ثم اللاتينية فيما بعد.
أما العلم الحديث فهو أوروبي، ويمكن أن نؤرخ بدايته بشكل تقريبي مع نيوتن وخلفائه في القرن 18م، نقصد بهذا العلم أنه نشأ وتطور في أوروبا الغربية فقط ويتميز هذا العلم عن الكلاسيكي بنزعة قوية إلى توحيد فروعه، وبأشكال من التنظيم خاصة به مثل متحف الإسكندرية ونماذج بيت الحكمة وبيت العلم في القاهرة والمدارس الدينية النظامية والمراصد والمستشفيات ومراكز حقيقية للبحوث مع مخابرها إلخ. كل هذه أصبحت ضرورية بفضل خاصية أخرى من خصائص العلم الحديث وهي تقوية البعد التطبيقي الهادف إلى المنفعة.
وأخيرا فإن العلم الحديث يتميز عن الكلاسيكي بتطلبه نشر قواعد العلمية والأخبار العلمية أي أنه يعتبر العلم ثقافة، وهذا ما لم يكن قد حصل من قبل ومن هنا بدأ بروز الفلسفات العلمية، ووفقا لتلك الظروف لقد أصبح مفهوم المجتمع العلمي نفسه وتكوين هذا المجتمع وتأثيره مغايرا لما كان في العصر الكلاسيكي وبدأ يظهر إلى الوجود تصور آخر للتعليم والبحث، والجدير بالذكر أنه لا يمكن القيام بالتعليم والبحث دون تدخل السلطة والدولة وقد سعت بعض الدول الجديدة في القرن 19 إلى تملك هذا العلم مثل مصر واليابان، وكانت الدولة الوطنية مدفوعة بشكل ظاهر بدافع إستراتيجية عسكرية واقتصادية أيضا. ويمكننا أن نعزي فشل مصر في تحقيق هذا العلم إلى عدم تجاوب أصحاب القرار أي النخبة السياسية والأوساط الاقتصادية ورفضهم الالتزام الإداري والواعي بالعمل على تملك العلم. بينما العلم الصناعي أي علم المجتمعات الصناعية التي تنتج وتستهلك البحث بمعنى آخر تقوم بتصنيع البحث، أي أن البحث يجرى في مراكز ومؤسسات ومخابر خاضعة لطرائق تنظيم وإدارة خاصة مما تسهم في تطوير التطبيقات العلمية على الصناعة، ووفقا لمعنى العلم الصناعي اختلف لدينا مفهوم المجتمع العلمي وهكذا.
ومن النظرة الإجمالية أعلاه نستنتج أن العلم يلزمه تكوين وبناء مؤسسات خاصة به إلى جانب وجود ثقافات ومجتمعات مؤهلة أكثر من غيرها لاستقبال العلم الحديث وتملكه، وهذه المجتمعات هي تلك التي ورثت العلم الكلاسيكي منذ تاريخ طويل، ولكن هذه القوة الكامنة تبقى دون جدوى إذا لم يجر تنشيطها بشكل إرادي، كما نستخلص إنه لم يكن هناك تطور متساو لمختلف المجتمعات سواء أكان العلم كلاسيكيا أم حديثا أم صناعيا. ولم يكن العلم الكلاسيكي أو الحديث أو الصناعي شيئا ينقل من مجتمع إلى آخر، كذلك ليس هناك نشر ممكن للثقافة العلمية من مجتمع إلى آخر عن طريق الترجمة أو نقل العلماء، وما إليه دون أن تتواجد البنية التحتية اللازمة. ولن يستطيع أي مجتمع أن يتملك العلم دون أن يبني لنفسه وبنفسه تقاليده الخاصة بالبحث. ولتبيان هذه الفكرة استعان الباحث بأمثلة المثال الأول بغداد (العلم الكلاسيكي)، الثاني مصر (العلم الحديث) والأخير مصر أيضا (العلم الصناعي).
ازدهرت بغداد في بداية القرن 9م حيث نشطت حركة الترجمة في الفترة الثانية التي وصلت من خلالها إلى الأوج. مما صاحب حركة الترجمة هذه زيادة عدد العلماء والمؤلفات وازدادت التخصصات بشكل مطرد، وبرزت مدارس متنافسة، والجدير ذكره أن مشروع الترجمة في بغداد خص عدة علوم في آن واحد ولم يكن يقتصر على العلوم ذات المنفعة العلمية مثل الطب والتنجيم كما ادعى البعض؛ بل شمل أيضا العلوم الاجتماعية والإنسانية. مما يستوقفنا هنا استفهام لماذ جرى نقل علوم الإرث الهلينستي في تلك الفترة وفي بغداد؟ الإجابة حتما وجود طلب من المجتمع، فكل الدراسات التي نقلت من اليونانية إلى العربية تبين أن الخلفاء وناصري العلم أسسوا المكتبات والمراصد وشجعوا بكرم البحث والترجمة. والجدير بالإشارة إليه أن عملية الترجمة لم تخضع لتصور سابق وتخطيط، وهذا لا يعني أنهم قاموا بترجمة كل ما يلقى أمامهم بل إن الروايات التي أوردها المترجمون أنفسهم تبين بالعكس؛ أن العلمية كانت مقصودة ومنظمة.
المثل الثاني (مصر) في القرن 19م كانت تحت قيادة محمد علي باشا ويمكننا أن نوجز فلسفة قيادته وإدارته لمصر في ذلك الوقت. إنه قام لأسباب عسكرية واقتصادية بتملك العلم الحديث أي العلم والتقنيات الأوروربية، وحقق ذلك من خلال عمل إصلاح جذري للنظام التربوي حيث أضاف للنظام التقليدي نظاما حديثا حتم إضعاف النظام السابق ولكنه لم يلغه. فأنشأ مدارس عديدة متخصصة بمساعدة العسكريين والمهندسين الأوروبيين، إلى جانب قيامه بابتعاث عدد كبير من الطلبة إلى أوروبا لكنهم ما إن عاد الطلاب إلى مصر حتى اصطدموا بافتقار مصر إلى مؤسسات البحث. فتجربة محمد علي باشا ضحية لوهمين: الأول توجيه الاهتمام بنتائج العلم دون تأمين الوسائل لإعداده، والثاني الاقتناع بإمكانية الاستغناء عن البحث الأساسي.
المثل الثالث (مصر) في النصف الأول من ق20م، حيث استعان البحث بذكر سيرة مصطفى مشرفة؛ فهو باحث تلقى التدريس بداية مسيرته في مصر ثم واصل التدريس في إنجلترا. ونجد في قصته تبرير سبب غياب روح الإبداع والعطاء العلمي في مجتمعاتنا العربية. ويؤكد لنا هذا التاريخ أنه يجب البدء بالدعم المادي والعلمي للمؤسسات في البلاد العربية التي تسير في اتجاه تملك العلم.