جدل الهوية في رواية «ليون الأفريقي» لأمين معلوف

فاطمة إحسان

تتناول رواية "ليون الأفريقي" لأمين معلوف حياة الرحالة والعالم والدبلوماسي الأندلسي الحسن بن محمد الوزان، الذي شهد الأعوام الأخيرة من عهد الدولة الإسلامية في الأندلس، ثم هاجر مع أسرته إلى المغرب وقام برحلات إلى شمال إفريقيا ومصر، قبل أن يختطفه القراصنة الإيطاليون ويعيش في البلاط البابوي حيث تغير اسمه إلى ليون دي مويتشي وتزوج فتاة متنصرة من يهود الأندلس وأنجب منها ابنه "يوسف" أو "جوزيف" أو "جيوسبي" الذي يروي لنا قصة حياته. لكن ليون عند معلوف شخصية تحمل أبعاداً عدة، تزاوج بين ثنائيات ضدية مبلورةً هويّة بالغة التعقيد، يتناولها الباحث المغربي الحسين الإدريسي في مقاله المنشور بمجلة التفاهم، والمعنون بـ"جدل الأنا والآخر في رواية ليون الأفريقي"، والذي سأقوم هنا بمحاولة لتلخيصه وشرحه.

بين يدي الروائي

بدأت علاقة أمين معلوف صاحب رواية "ليون الأفريقي" بالكتابة الأدبية تحت وطأة الاغتراب، بعد انتقاله لفرنسا، وبقائه فيها إبّان الحرب الأهلية في وطنه لبنان، وكانت رواية "الحروب الصليبية كما رآها العرب" باكورة أعماله. تتكئ هذه الرواية إلى عناصر التاريخ بصورة أولية، وتوظف هذه العناصر لاستخلاص قيم إنسانية كالتسامح والإخاء والمحبة وتوجيهها للقارئ. في هذا السياق تندرج روايتا "سمرقند" و"حدائق النور" اللتين تجمعان بين أسلوب السيرة الذاتية والاستناد للمرتكزات التاريخية، وحين نصل إلى "ليون الأفريقي" محور مقالنا هذا نجد أن بطل الرواية الحسن بن محمد الوزان، لا يمكن تصنيفه ضمن انتماء محدد، فلا يوجد تعريف أفضل من ذلك الذي افتتح به أمين معلوف الرواية على لسان ليون: "ختنت أنا حسن بن أحمد الوزان، يوحنا- ليون- دومديتشي، بيد مزين، وعمدت بيد أحد البابوات، وأدعى اليوم (الأفريقي)، ولكنّي لست من أفريقيا ولا من أوروبا ولا من بلاد العرب، وأعرف أيضاً بالغرناطي والفاسي والزياتي، ولكنني لم أصدر عن أي بلد، ولا عن أي مدينة، ولا عن أي قبيلة، فأنا ابن السبيل، وطني هو القافلة، وحياتي أقل الرحلات توقعاً".

 

ثنائية الوزان بين الظاهر والباطن

قبل التوغل في ثنائية الظاهر والباطن لا بد من الاطلاع على معالجة المحقق أصل العمل الروائي "وصف أفريقيا"، لتمييز لمسات أمين معلوف على شخصية الحسن الوزان، فإذا كان أمين معلوف قد ولف ثنائية الظاهر والباطن باعتبارها مظهراً من مظاهر التسامح والانفتاح، فإن المحقق الراحل محمد حجي يعد ذلك ذكاءً من الوزان وقدرة عالية على التأقلم مع البيئة المسيحية حين تظاهر بالتمسح وحمل اسم حاميه البابا، فصار يدعى ليون أو يوحنا الأسد الغرناطي أو الإفريقي، تستراً وتطبيقاً لمضمون الآية الكريمة: "من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مصمئن بالإيمان"، لكن هذه قراءة يرفضها البعض بحجة أنها تتضمن تأويلاً يفرض على شخصية الوزان تعسفاً، رغم أن محمد حجي قد دعم وجهة نظره بأربعة أدلة هي:

1- الصبغة الإسلامية الظاهرة في كتاب (وصف أفريقيا)، عندما يتحدث المؤلف عن عادة أو عيد إسلامي ناسباً نفسه إلى جماعة المسلمين قائلاً (عندنا)، بينما لم ينسب نفسه للمسيحيين، فقال (عندنا هنا في إيطاليا) على سبيل المثال.

2- اهتمام الكتاب بالملامح الإسلامية في المدن والقرى التي زارها المؤلف.

3- توثيق التواريخ في الكتاب وفقاً للتقويم الهجري فيما عدا مرات قليلة ورد فيها التاريخ الميلادي.

4- تمسك المؤلف باسمه الإسلامي رغم مرور سنين على أسره وتداول اسمه المسيحي.

جدل الأنا والآخر في الرواية

أولاً: مظاهر الجدل العقائدي

قبل الولوج إلى العمل الروائي تستوقفنا عبارة تتوسط بياض صفحة كاملة للشاعر الإيرلندي و.ب ييتس، في قوله: "لا ترتب مع ذلك بأن ليون الأفريقي، ليون الرحالة، كان أيضاً أنا"، وهو ما يخرج ليون الأفريقي من شخصيته التاريخية إلى رمز يخترق المستقبل. لعل أبرز الأدلة على ذلك هو أن الثنائيات المشيرة للتمايزات العقائدية في الرواية، لا تتناول ديانة بالنقد دون الأخرى، ولا تتبنى هوية عقائدية محددة، ومما يساعد على إظهار هذه التمايزات على ألسنة شخصيات مختلفة، فينتقد بعضها المسيحية في حين تُنتقد اليهودية على ألسنة أخرى.

ثانيا: مظاهر الجدل القومي

تمتد ثنائية الذات والآخر إلى المستوى القومي رغم السمة العقائدية الطاغية على العمل الروائي. يحيلنا السارد إلى إشارة على التعددية اللغوية للبطل في المدخل بقوله: "تسمع في فمي العربية والتركية والقشتالية والبربرية والعبرية واللاتينية والعامية الإيطالية"، وهذه التعددية لا تعبر في جوهرها عن فصل بين الذات والآخر لأنها تعددية نابعة من ذات واحدة، وعلى لسان واحد.

مظاهر الجدل على مستوى الهوية الجنسية

تظهر متغيرات الهوية الجنسية في الرواية في أنماط السلوك الفردي والجماعي، وهي متغيرات لا تبنى على الجنس كمعطى بيولوجي وإنما كمتغير يعكس نمطاً من التفكير السائد وأشكالاً اجتماعية مؤسسة على هذا النمط، وهي أشكال تتدثر بأغطية دينية متداخلة كما نقرأ في الفصل الأول المعنون بـ(عامر سلمى الحرة): قال لي أمي "كنت حرة وكانت جارية، ولم يكن الصراع بيننا متكافئاً. كان بوسعها أن تستخدم على هواها جميع أسلحة الغواية وأن تخرج دون حجاب، وأن تغني وترقص وتصب الخمر وتغمز بعينها، في حين كان لزاماً عليّ بحكم وضعي ألا أتخلى قط عن وقاري، وألا أظهر كذلك أي اهتمام بملذات أبيكِ". ما يمكن استشفافه من هذا الشاهد هو تحويل الفتاة المسيحية إلى سلعة اشتراها محمد من الجندي الآسر لها، وبما أن السلعة تستخدم مظاهر الأنوثة كرأس مال لها، فإن المشتري سيدخرها للترفيه (الرقص، الموسيقى، المتعة) لكن يبدو أن هذه المظاهر تصاحب امتيازات تغبطها عليها الزوجة "الحرة".

نقائض الثنائيات الضدية ودلالاتها

لا يمكن الجزم بأن رواية "ليون الأفريقي" قائمة على ثنائيات ضدية أساساً، فعلى الرغم من تقديم الروائي للجدل من خلال أطراف متصارعة إلا أنه قدم مشاهد عملت على دحض هذا الجدل، لتقول بأن الثنائيات الضدية لم تشمل جميع الفئات والجهات والمواقف المطروحة في العمل، وإنما كانت تتحرك بجانب هذه الثنائيات مواقف تنقضها حسب خصوصياتها الدينية والاجتماعية، على سبيل المثال نلاحظ نقض الثنائيات في الحديث عن السلطان الذي انصرف إلى الملذات على الرغم من تحذير طبيبه إسحاق حمون، فالظاهر أن المنصب قد منح للآخر دينياً على أساس الكفاءة العلمية والمهنية، ولم تمنع مخالفته عقائدياً من تقليده المنصب.

خلاصة

عمل أمين معلوف على اقتباس نصوص ومشاهد وشخصيات جاهزة من (وصف أفريقيا)، مما شكل حسب رأي جوليا كريسفا "فسيفساء من الاستشهادات"، وقام بنسج قالب سردي يحتوي هذه الفسيفساء يتضمن الثنائيات التي أشرنا إليها في المقال، معتمداً ما أطلق عليه عبد الملك مرتاض "لغة المناجاة"، أي تضمين خطاب داخل خطاب آخر، الأول داخلي والثاني خارجي، ولكنهما يندمجان تماماً لإضافة بعد حدثي أو سردي أو نفسي إلى الخطاب الروائي. ولعل معلوف قد اختار هذا الأسلوب السردي بهدف الإضاءة على جوانب مختلفة من شخصية الوزان المعقدة بكل الدلالات التي يوحي بها هذا الوصف.

أخبار ذات صلة