حلم مجتمع المعرفة العربي

زهرة ناصر

يستخلص لنا الكاتب مسعود ضاهر في مقالته "مجتمع المعرفة في اليابان والدروس المستفادة عربيا" أهم الدروس المستقاة من المجتمع المعرفي الياباني الذي تبنى فلسفة القوة النظيفة التي تقوم على التركيز على الطاقة الإبداعية الخفية لدى الشعوب وأبرزها التراث الثقافي، والقدرة على التواصل والإبداع.

ومجتمعنا العربي إلى أن يُصبح مجتمع معرفة، بحاجة إلى إرادة سياسية قوية تسخر كل الإمكانات المالية والبشرية والمؤسسية في ثلاثة أنشطة رئيسة وهي: إنتاج المعرفة، ونشرها، والتعامل معها في حل قضايا المجتمع، والتي تُعد بمثابة المقياس للتقدم والتطور في هذا العصر

 

إنتاج المعرفة

 المؤسسات الأكاديمية هي المراكز المحورية لهذا النشاط العلمي الحيوي، لما لها من وظيفة أساسية في تشجيع البحث العلمي وتنشيطه نظراً لكونه أهم وأعقد أوجه النشاط الفكري الذي يهدف إلى زيادة معرفة الإنسان ورفع قدرته على التكيف مع بيئته والسيطرة عليها واكتشاف الحلول للمشكلات التي تواجه المجتمع وأفراده، وهو ضروري لبناء دولة عصرية تتمتع بالرخاء. لذلك لابد من أن تكون البحوث التي تُنَفَّذ مرتبطة بخطة التنمية التي تضعها الدولة، حيث لا يمكن تحقيق أي تقدم علمي حقيقي من دون وضع سياسة عامة للبحث العلمي.

الإنفاق على البحث العلمي في الدول العربية يكاد يتسم بضعف حجمه، وبارتباط الأموال المخصصة له بالميزانية العامة بمعنى أن أمواله تأتي من اعتمادات الميزانيات، وبمعنى آخر غياب العلاقة بين مؤسسات البحث العلمي الحكومية وبين المشاريع الصناعية في القطاع الخاص، وبالتالي النتيجة هي تراجعنا في التنمية التكنولوجية، في حين نرى ونلاحظ الثبات لميزانية البحث العلمي في اليابان رغم مرورها بأزمات كبيرة منذ أكثر من عشر سنوات، وركود اقتصادي حاد. هذا المجتمع الذي تُوظف فيه المؤسسات الرسمية والخاصة نسبة عالية من موازنتها على الأبحاث العلمية تكاد تكون بين النسب الأعلى في العالم لا يبخل أبدا على أماكن إنتاج المعرفة كما هو الحال في دولنا العربية. أضف على ذلك تشويهها وتعثيرها وقمع حريتها بدعوى الدين وتارة أخرى باسم العادات والتقاليد­­؛ لذلك لا نتشاءم إذ قلنا بأن بناء مجتمع معرفي في دولنا العربية من أشبه المستحيلات.

 

نشر المعرفة:

يصاحب نشاط إنتاج المعرفة نشاط آخر وهو تحدٍّ حقيقي نتعامل فيه مع المعلومات والبيانات على أنها مخزون معرفي يمكن من خلاله تكوين رأس مال يسهم في التنمية الإنسانية، ويتم نشر هذه المعرفة بعدة وسائل منها وسائل الإعلام، والتنشئة، وأهمها هو التعليم، وفي مجتمعاتنا العربية أخطر مشكلات التعليم كما ذكرها الكاتب هي تردي نوعيته وذلك يعني افتقار الموارد المخصصة للتعليم إلى القدرات الأساسية  للتعلم الذاتي، وملكات النقد والتحليل والإبداع وبالتالي يفقد التعليم هدفه التنموي والإنساني لأجل تحسين نوعية الحياة وتنمية قدرات الإنسان.

وبالنظر إلى التعليم الياباني الذي ساعد اليابان في التحول إلى دولة حديثة قائمة على مجتمع معرفي صحيح، نجد أن هنالك ملامح وخصائص في نظامهم لا تتوافر لدينا ومنها المركزية في التعليم حيث يقوم هذا المبدأ على توفير المساواة في التعليم ونوعيته لمختلف فئات الشعب بغض النظر عن كل شيء، وبالرغم من المركزية في الإشراف على المعلمين إلا أنهم صُناع قرار بالمدرسة ويتمتعون بقسط عالٍ من الحرية، ومن الخصائص الأخرى المهمة في التعليم الياباني روح المسؤولية والعمل الجماعي لدى الطلبة وهذه الخاصية تشكل قوة نفسية رائعة في مواصلة التعليم، والخاصية الأخرى في نظام التعليم الياباني هي التركيز على مبدأ الجد والاجتهاد؛ إذ يعتبرون من أكثر الطلاب إقبالا على الدراسة، ويتوقف عندهم الالتحاق بالجامعة على ضرورة اجتياز اختبارات صعبة للالتحاق بمدرسة ثانوية ثم بعد ذلك الجامعة التي يقع اختيارهم عليها، وليس فقط على نتائج اختبارات المدارس الثانوية. والمقولة اليابانية "أربع ساعات ...نجاح...خمس ساعات ...رسوب " أي أربع ساعات نوم تعني النجاح بينما خمس ساعات نوم تعني الرسوب تؤكد على مدى المثابرة والجد والاجتهاد في تحقيق ما يصبو إليه الطالب الياباني.

ومما لا شك فيه أنّ هنالك أسبابا أخرى في دولنا العربية تسهم في تحديد نوعية التعليم منها سياسات التعليم التي نوافق فيها الكاتب؛ إذ أننا نعاني من بطالة ثقافية من خريجي العلوم الإنسانية والثقافية، وكل ذلك نتيجة لسياسة تنصرف عن التقانة والعلوم العصرية والتكنولوجيا المتطورة، وكذلك المناهج، وأساليب التعليم التي لا تفسح المجال لبناء شخصية قادرة على التعلم والإبداع في شتى الحقول. وكلها من وجهة نظري تحتاج إلى رؤية واضحة ومتكاملة لتحكم العملية التعليمية.

 

التعامل مع المعرفة في حل قضايا المجتمع:

إذا تمت عملية توليد المعرفة ونشرها بالشكل المناسب، سيتبقى علينا الاستفادة منها في الارتقاء بالإنسان وإمكاناته الاجتماعية والمهنية واستخدام نتائجها من قبل مختلف مؤسسات المجتمع وخصوصاً المؤسسات الاقتصادية، وإذا لم يتم ذلك، فإنها تتحول إلى ترف عبثي لا يسهم في عملية التنمية، وتوضع النتائج في الأدراج وعلى الرفوف.

ومن منظور ديننا الحنيف للمعرفة فإنّها هي تلك التي تنفع وتخدم الناس، ويتجلى ذلك في كتاب الله عزّ وجلّ حين عرض سيدنا موسى عليه السلام على الخضر مرافقته لطلب العلم انطلاقا إلى حل مشاكل الناس وحاجتهم ومنها حماية حقوق العمال، وخطورة عقوق الوالدين، وكفالة حقوق الأيتام، ونستخلصها من الآيات التالية:

((أمَّا السفينةُ فكانت لمسَاكينَ يعملُون في البحرِ فأردتُ أن أعِيبَها وكان ورَاءهُم مَلِكٌ يأخذُ كلَّ سفينةٍ غَصبَا)).

((وأمَّا الغُلامُ فكان أبَوَاه مُؤمِنين فخَشِينَا أن يُرهِقهُما طُغيانًا وكُفرًا))

((وأمَّا الجدارُ فكانَ لغُلامَين يتيمَينِ في المدينةِ وكانَ تحتهُ كنزٌ لهُما وكانَ أبوهُما صالحًا فأرادَ ربُّكَ أن يبلغَا أشُدَّهُما ويستخرِجا كنزُهُما رحمةٌ من ربِّكَ وما فعلتهُ عن أمريِ ذلك تأويلُ ما لم تسطِع عليه صبرًا))..

إن استعمال المعرفة في حل قضايا المجتمع هو وحده الكفيل بالدفع إلى المزيد من إنتاج المعرفة، ونجد استعمالها في الأرض العربية ضئيلا جدا؛ وذلك لأن حكوماتنا ومؤسساتنا فضلت أن تستورد الحلول الجاهزة من الخارج، وربما يُعزى ذلك لعدم ثقتها في مؤسساتها البحثية العربية.

من هذا كله نستشف أننا ننادي بالتقدم والتنمية، لكننا عاجزون عن التضحية ببعض من التراث أو التقاليد؛ لذلك لا نندهش من التقدم الياباني الذي يقف أمامه العالم مذهولا رغم أن اليابانيين قوم شرقيون مثلنا، وبدأوا مسيرتهم من واقع عزلة وتخلف حضاري، كما بدأنا نحن في النصف الأول من القرن التاسع عشر الميلادي. ومن دون إرادة سياسية صادقة وعنيدة من قبل الدول العربية، ومن دون مجتمع يثق بصدق تلك الإرادة ويتفاعل معها، فإن الحديث عن بناء مجتمع المعرفة العربي يصبح حلماً لا يرتبط بالواقع.

 

أخبار ذات صلة