تقدم الفكر الديني: اللاهوت المسيحي نموذجاً

فاطمة إحسان

كثيراً ما تصادفنا مفردات معنوية مثل جوهر الأديان، والحوار الخلّاق، والأرضية المشتركة، في معرض الحديث عن تقارب الأديان والبحث عن سبل تقدمها ومواكبتها لمُعطيات العصر، مما يحدونا للتساؤل عن مدى عمق الرؤى المختبئة خلف هذه المفاهيم التي تبدو جذابة للوهلة الأولى. تحت عنوان "السعي وراء الحكمة الإسلامية والمسيحية واليهودية" المنشور في مجلة التفاهم يستعرض ديفيد فورد وهو عالم لاهوت مسيحي، فكرة تقارب الأديان الإبراهيمية والمذاهب التي تنحدر عنها، بالارتكاز إلى مفهوم السعي إلى الحكمة، وسأسعى هنا لتلخيص المبحث مع بيان أوجه اتفاقي واختلافي مع الكاتب.

لقد أمضى فورد حوالي قرابة العشرين عاماً من عمله الأكاديمي في تحرير كتاب تدريسي بعنوان "علماء اللاهوت المحدثون"، وهو كتاب عن اللاهوت المسيحي منذ عام 1918، وتعيّن عليه في سبيل ذلك طرح أسئلة من قبيل: ما هي أكثر الحركات أهمية في التاريخ المسيحي؟ ما التطورات الحاسمة التي طرأت على تأويل الكتاب المقدس؟ كيف استجاب علماء اللاهوت للحداثة؟ كيف تفكّر اللاهوت في الفنون البصرية والموسيقى والسينما؟ وخلص من بحثه عن الإجابات إلى أن القرن المنصرم كان الأكثر ثراءً من بين آلاف سنين اللاهوت المسيحي؛ وذلك في سياق انتشار التعليم آنذاك، وزيادة عدد الأديرة ومعاهد اللاهوت والجامعات والمواد الدراسية الدينية، كما يذكر فورد تعليلاً إضافياً لازدهار اللاهوت المسيحي آنذاك وهو بروز تغيرات عالمية وتحديات غير مسبوقة أدّت لتطور الفكر اللاهوتي وأدواته.

في حين يصف المؤرخ فيليب جنكنز نضال الكنيسة في أوروبا المسيحية في الوقت الراهن، معلقاً بقوله إن الكنيسة التي تقوى على التعايش مع أوروبا تقوى على التعايش مع أي شيء، ثم يطرح سؤالاً مثيراً: هل يمكن أن تكون للضغوطات التي تحاصر الإسلام في أوروبا آثار مشابهة؟ ولاسيما وأن المسلمين هناك قد طوروا شكلاً من الإيمان للتعامل مع التغيرات الاجتماعية دون المساومة على المعتقدات الدينية الأساسية. في سبيل الإجابة عن السؤال يستعرض فورد حركة تاريخية يعتقد بأنها قد تكون ملهمة للمسلمين وغيرهم في نضالهم للوحدة والائتلاف، وهي الحركة المسيحية التوفيقية.

 

الحركة المسيحية التوفيقية نموذجاً للتفاعل بين الأديان

لعله كان من الصعب أن يتخيل أحد نشوء حركة كهذه قبل القرن الماضي، إذ يندر في التاريخ انتقال جماعات دينية كبرى يتبعها الملايين، من حقبة مليئة بالصراعات الدموية إلى حقبة مؤسسة على الحوار والتآلف، إلا أنّ ذلك قد تحقق بين الكنائس المسيحية عبر الحركة المسيحية التوفيقية التي قامت في القرن التاسع عشر.

قامت الحركة التوفيقية على رجال دين كونوا صداقات تخطت التقسيمات الكنسية، كما تطلب الأمر عدداً كبيراً من الأعمال اللاهوتية التي تتجسد فيها عناصر عدة، سنقف على تفصيلها لاحقاً، وهي إعادة تأويل الكتاب المقدس والحوادث التاريخية، مروراً بالمحادثات والمناظرات والمشاريع المشتركة، والتفكّر الخلّاق الذي يتخطى حواجز الاختلاف للتوصل إلى حكمة مشتركة، وكُللت الحركة بالتواصل بين الكنائس وخارجها عبر وسائل الإعلام. شكلت الحركة حاضنة للتعاون بين المسيحيين المنتمين إلى كنائس مختلفة، وتطلب ذلك تفاعلاً على المستويات الدولية والإقليمية والمحلية؛ مما أفرز إبداعاً مؤسساتياً على مستويات كثيرة، منها ما استحدث في حقل التعليم، كاتحاد كيمبردج اللاهوتي، وهو اتحاد مستقل لكنه مرتبط بالجامعة وينتمي إليه أعضاء ينتمون إلى الأنجليكية، والكاثوليكية الرومانية، والميثودية، والإصلاحية، والأرثوذكسية، بينما يأتي الاتحاد إلى جانب مراكز عدة للعلاقات اليهودية/ المسيحية، واليهودية/ الإسلامية.

 

عناصر تسهم في تقدم علم اللاهوت المسيحي

1- فهم الكتاب المقدس  وتطبيقه، وهنا يقر فورد بأن تفسير الكتب المقدسة صعب، وقد يساء استخدامه على نحو خطر مثلما حدث مراراً، ولكن يمكن تأويل الكتاب المقدس وفقاً لرأيه بما يتسق مع رحمة الله وسعة الدين، كما يشير أوغسطين، في هذا الصدد يقوم فورد بالتحضير لكتاب عن مستقبل اللاهوت المسيحي، فيما ينشغل الباحث الإسلامي علي النايض بتأليف كتاب مناظر حول مستقبل علم الكلام الإسلامي، ويقوم الكتابان بتناول المصادر الدينية من جديد لاسيما الكتب المقدسة.

2- التفاعل الحي مع متطلبات العصر، فالحياة الحديثة مركبة ومتطلبة، ولا سبيل لازدهار المسيحية أو الأديان عموماً إذا اقتصرت على اجترار التاريخ، وتجنبت التحديات الحاضرة. يتحقق ذلك عملياً باستقصاء الموروث الديني بعناية، وتجنب طرفي النقيض: الاندماج السلبي في الحداثة والرفض غير الناقد لها.  

3- التفكّر الخلّاق المتمثل في الأفكار التي توجز وتطور الفكر المسيحي، وتتخطى حواجز الاختلاف مع الآخر للتوصل إلى حكمة مشتركة.

4- التبليغ عن اللاهوت المسيحي عبر وسائل الإعلام وباقي طرق التواصل المتاحة.

 

الأديان الثلاثة

في ضوء تراثه الديني، يرى فورد أن صورة العلاقة بين اثنتين من العقائد الإبراهيمية لا تتشكل بوضوح إلا إذا أخذت العقيدة الثالثة في الحسبان، وأنه بوسع أتباع الأديان الثلاثة مواجهة اختلافاتهم ومناقشتها في حين يمكنهم ترك تلك الاختلافات دون حسم، وذلك عبر الانطلاق من مرتكز السعي إلى الحكمة في تعاطي مسألة الدين.

في السبيل إلى ذلك يسوق فورد ثلاثة مقترحات جديرة بالتأمل:

1- البحث بأكبر قدر ممكن من التعمق في الكتب المقدسة، والموروثات الدينية التي تشكل دعامة لمنظورنا للعالم اليوم.

2-  التشارك في نتائج البحث والتقصي مع مراعاة الكيفية التي نسأل بها ونظهر الاختلاف لئلا نشعل جذوة الاختلافات العميقة.

3- التعاون من أجل صالح العالم في سبيل مزيدٍ من الحكمة والرحمة والسلام.

 

شعقبات على جسر التقارب

أعتقد أنّ واحدة من أهم العقبات التي تتوسط جسر التقارب بين الأديان والمذاهب هي المفاهيم والمصطلحات الفضفاضة التي يجتهد كل طرف في تأويلها ثم يرتطم بالطرف الآخر الذي يحمل بدوره إرثاً ضخماً من الروايات التاريخية والجدال والتمحيص في تلك المفاهيم؛ مما يجعل العودة إلى "أرضية مشتركة" وبتعبير آخر إلى "نقطة الصفر" وإعادة النظر فيها ضرباً من المستحيل. على سبيل المثال يمكننا الاختلاف ببساطة على مفهوم "السعي إلى الحكمة" الذي يطرحه الكاتب كمرتكز في عملية تخطي الاختلاف والتقريب بين الأديان، إذ ستتفاوت الأطراف في تقرير الثوابت والمتغيرات، أما عن اقتراح الكاتب حول إمكانية ترك الاختلافات دون حسم، وهو ما يمكن التعبير عنه بتقبل الآخر دون انتقاص من شأن عقيدته أو محاولة التغيير فيها، فهو ما يأمله كثيرون ويصعب تحقيقه واقعاً؛ نظراً لتشابك المصالح بين الأطراف ودخول السياسة كمتغير لا يُمكن حسم أثره في معادلة الخلاف من جهة، وبسبب المفاهيم الدينية التي لا تقبل المساومة في كثيرٍ من الرؤى والأحيان من جهة أخرى.

 

أخبار ذات صلة