فاطمة إحسان
كان الوقفُ -ولا يزال- من الموارد التي يعتمدُ عليها المجتمع الإسلامي في دعم المؤسسات الفكرية الدينية، والمؤسسات الاجتماعية؛ إذ أسهم منذ عصور الإسلام الأولى في رفد المجتمع بالمساجد والمدارس ودور رعاية الأيتام، والمصحَّات...وغيرها. ويُناقش أحمد عوف عبدالرحمن هذا الدور في مقاله المنشور بمجلة "التفاهم"، في حين أسعى هنا لتلخيص أطروحته ومناقشتها.
يعد فقه الوقف من أكثر النماذج الفقهية التي تتَّفق عليها المذاهب الإسلامية إلى حدٍّ كبير، بل حتى ما يبدو أنَّه اختلافٌ قد لا يتجاوز كونه خلافاً لفظيُّا فحسب، أمَّا أصل هذا الفقه فقد بناه علماء الدين على قول النبي محمد (ص) لعمر بن الخطاب لما أصاب أرضا بخيبر: "إِنْ شِئْتَ حَبسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدقْتَ بِهَا، غير أَنهُ لَا يُبَاعُ أَصْلُهَا وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ"، فاعتبر هذا الحديث مرجعاً لتعريف الوقف في المذاهب كلها، لا سيما في جزئية "حبس الأصل وتسبيل المنفعة" التي ينطلق منها أحمد عوف كتعريف موجز للوقف في الإسلام.
يُمكن النظر إلى أهمية الوقف من زاوية الدور الذي يلعبه في توثيق أواصر التعاون بين أفراد المجتمع، وتبادل المنفعة فيما بينهم، ودعم المرافق التي يحتاجها المجتمع في سبيل نموه؛ إذ لطالما أسهم الوقف في دعم طلاب العلم، ودور العلم التي تحتضنهم، والمساجد، والمستشفيات، إلى جانب رعاية الفقراء واليتامى وسواهم من المحتاجين. وعلى الرغم من كثرة التطورات التي مرَّ بها نظام الوقف الإسلامي، إلا أنه ظلَّ مُتعلقاً دوماً بالإرادة المستقلة لمؤسسيه، وهي استقلالية تكفلها له أصوله الشرعية وأحكامه الفقهية، إلى جانب اطراد ممارسته في الواقع من جهة فئات اجتماعية متنوعة طيلة تاريخه.
ومن حيث الغايات، تتعدَّى ثمار الوقف المستوى التحسيني منها إلى مستوى الحاجات أو الضرورات، وهنا يذكُر الكاتب أنه من المقرر في الشريعة الإسلامية أن أفضل المقاصد هي الضرورية منها، فإذا كان مقصد العمل ضروريًّا كان العمل بنفس المستوى من الضرورة، وهكذا ترتفع قيمة الوقف بقيمة ما يسد من حاجة أو يلبي من ضرورة.
ويرصُد الكاتب ما يعتقد أنها أوجه اختلاف بين نظام الوقف ومؤسساته من جهة، وبين أنظمة العمل التطوعي في صيغتها الحديثة من جهة أخرى؛ إذ يرى أنَّ منبع نظام الوقف إيماني ديني، في حين تنشأ فكرة العمل التطوعي من منشأ مادي دنيوي، ويجد أنَّ هنالك تداعيات تترتب على الاختلاف بين الفكرتين عند تطبيقهما عمليًّا؛ مما يجعل من اختلاف منشئهما أمراً مُهما، إلا أنَّه لا يتطرَّق لأي مثال على هذه التداعيات، كما يرى أن الوقف الإسلامي يمتاز على منظومات العمل التطوعي بـ"الشخصية الاعتبارية"*، التي تجنبه عبء السلطة الإدارية وتعقيداتها؛ حيث يُتيح للفرد تحويل ملكيته الخاصة أو جزء منها إلى مؤسسة خيرية، وأن يصوغ أهدافها في ضوء مقاصدها الشرعية، وأجدني لا أتفق معه فيما ذهب إليه؛ إذ إنَّ إدارة المشاريع التطوعية عادةً ما تكون ذات جدوى مهمَّة، فهي تتكفل بتنظيم الأعمال، وتوزيع المسؤوليات، وتحقيق أهداف هذه المشروعات وفق خطط مجدولة، إلى جانب وضوح ما تؤول إليه المسؤولية القانونية في ظل أي خلل يستدعي تدخلاً قانونيًّا.
ومع أوجه الاختلاف أعلاه، يتطرَّق الكاتبُ إلى أوجه التشابه بين نظام الوقف الإسلامي والصيغ الحديثة للعمل التطوعي، كالقيام على أساس مبادرات أهلية، والاعتماد على التمويل الذاتي، والاستقلال الإداري، إلى جانب تنوع الأنشطة والمشروعات التي يوظف فيها نظام الوقف ومنظومات العمل التطوعي على حدٍّ سواء.
وتجدر الإشارة إلى أن دور الوقف في دعم التنمية الفكرية والعلمية للمجتمع الإسلامي هو دور قديم، يمتد من العصور الإسلامية الأولى؛ إذ كانت الأموال الموقوفة على العلم والعلماء كثيرة آنذاك، وكان أغنياء المسلمين يتسابقون إلى وقف أموالهم على العلم وطلابه، وعلى العلماء المنقطعين عن العمل للبحث والدراسة، إضافة إلى إنفاقهم على إنشاء المكتبات وتزويدها بمختلف المصنفات العلمية، لتكون رافداً للحركة الفكرية والتعليمية، كما أسهم الوقف في تأسيس المدارس الوقفية بدءاً من القرن السادس الهجري. وحين توسَّع نظام الوقف الإسلامي وتوطَّدتْ أصوله وكثرت مؤسساته، وصار يمثل قوة مادية من الممكن أن تطالها مطامع أي سلطة فتوظفها لخدمة أغراضها، سعى الفقهاء لتأسيس استقلالية نظام الوقف عبر أسس ثلاثة وفرت نوعاً من الحماية الشرعية للوقف؛ هي: احترام إرادة الواقف، واختصاص القضاء وحده بسلطة الإشراف العام على الأوقاف، والاعتراف للوقف بالشخصية الاعتبارية، وقد حققت استقلالية الوقف أمريْن مهميْن أسهما في شمول النهضة التي دعمها الوقف لدول العالم الإسلامي كافة، وكفلا استقلالية العلماء وطلاب العلم من سلطة الدولة؛ هما:
1- إتاحة فرصة متساوية للجميع للتعلم، بما في ذلك أصحاب الدخل المادي المحدود.
2- تمتُّع العلماء والطلاب بالحرية الاقتصادية واستقلالهم عن سلطة الدولة؛ وقد كان لهذه النقطة تحديداً أثرٌ في ازدهار الحركة الفكرية ونموها؛ حيث كثرت المؤلفات والمطارحات والمناظرات؛ مما دعا بعض العلماء لوضع دستور للحوار العلمي والنقد المنهجي، أو ما عرف بأدب البحث والمناظرة.
ويرى الكاتب أنه من المستغرب افتتان الباحثين بالمنظمات والمؤسسات المعاصرة التي تتبنى أهدافاً تطوعية وإنسانية؛ مثل: جائزة نوبل، ومنظمات حقوق الإنسان، ومؤسسة روكيفلر...وغيرها، ويجد أنَّها تحملُ أهدافاً مبطنة أخرى لم يتطرق لأي مثال عنها؛ وذلك على عكس منظمات الوقف الإسلامي التي تمتاز بخاصية السبق التاريخي على هذه المؤسسات، وهو ما يُمكن الرد عليه بوجود ظاهرة العمل الإنساني والتطوعي في حضارات وأمم أخرى سابقة، ومن الصعب إثبات الجهة التي يرجع إليها السبق التاريخي في هذا الأمر؛ إذ سُجل مصطلح التطوع في ثلاثينيات القرن السادس عشر وليس قبلها.
لعلَّ الأمةَ الإسلامية اليوم بحاجة إلى تجديد صيغة الوقف الإسلامي ووظيفته؛ ليتناسب مع القضايا المعاصرة، ويلبِّي الاحتياجات الفكرية والاجتماعية الناجمة عنها، ولعلها بحاجة أيضاً إلى انفتاح أكبر على المفاهيم المدنية التي لا تتعارض مع مفهومي الوقف والعمل الخيري من حيث الوظيفة؛ حيث يُمكن للأفراد -باختلاف توجهاتهم الدينية والسياسية- أنْ ينضموا لمنظومات مُتعدِّدة الاختصاصات تحت مظلة العمل الخيري؛ بحيث يُشكِّل كل منهم دعامة للآخر؛ عِوَضاً عن كونه مُنافساً له.
----------------------------
*الشخصية الاعتبارية: صفة يمنحها القانون مجموعة من الأشخاص أو الأموال، قامت لغرض مُعيَّن، بمقتضاها تكون هذه المجموعة شخصًا جديداً متميِّزاً عن مُكوناتها، ويكون أهلاً لتحمُّل الواجبات واكتساب الحقوق.
