جدلية الأخلاق والسياسة في بناء نظرية الدولة عند عبد الله العروي

mhrezaa--pM4WMbyRTU-unsplash.jpg

محمد بنيونس | أستاذ باحث في الفلسفة الإسلامية.

أسهمت الفلسفة في التقعيد النظري للدولة وتأسيسها من خلال البحث عن ماهيتها، وتحديد جوهرها، والأهداف من وراء قيامها ووجودها. وكل محاولة للتقعيد تدخل في علاقة جدلية مع الفكر الفلسفي والسياسي، وما دام الجانب النظري منوطاً بالفلسفة؛ فإنها تعمل على النقد والتأسيسبالعودة إلى تاريخ نظرية الدولة من الناحية الفلسفية. وقد انقسمت هذه الفلسفة، بين فلسفةٍ تبحث عن الأسس الذاتية للدولة من داخلها، وبين أخرى تعمل على ربطها بما وراءها،وقد ترتب عن ذلك حوار بين الأفكار بناءً على التناقض الحاصل بين النظريات في محاولة تحديد الهدف من وجود الدولة؛ فدخلت كل فلسفة في جدال ونقد مع فلسفات أخرى، لا مجال فيها للأمور الشخصية، أو العلاقات الاجتماعية، ولا ينبني فيها النقد على الخوف مما قد يؤول إليه الناقد من نقده.وقد نتج عن هذه الجدلية بين الأفكار الفلسفية نظرياتٌ سياسية عملت على تجاوز التناقضات، والوصول إلى تركيب قد يحتوي التناقض، ويؤلفه في وحدة تلغي الكثرة وتنطوي عليها، أو تؤسِّس نظرية تُحْدث قطيعة مع سابقتها. فما الدولة التي دافع عنها "عبد الله العروي؟ وما مقوماتها وخصائصها؟ وعلى ماذا يجب أن تتأسس نظرية الدولة لكي تكون فعَّالة ولوجودها معنىً؟ ولماذا هذا الاختلافُ بين النظريات؟ هل مردُّ ذلك لطبيعة الدولة أم للأفق الذي يسعى إليه كل فيلسوف؟

حاول "عبد الله العروي" أن يحدد الإطار العام لنظرية الدولة، التي تهتم بتحديد ماهيتها بناءً على الأهداف التي تسعى إليها؛ إذ يقوم بربط ماهيتها بالهدف من وراء وجودها، وهذا الهدف جعل من الدولة «وسيلة في خدمة ما سواها»(1). وبذلك يتم تحديد الإطار العام، الذي يهتم بتحديد ماهيتها بناء على الأهداف التي تطمح إليها الدولة من داخلها، أما في حالة البحث عن هذه الأهداف فيما وراء الدولة؛ فإن النتيجة هي استحالة «نظرية الدولة-بالمعنى الدقيق للكلمة- في مثل هذا الاتجاه»(2).

يعد السؤال عن ماهية الدولة سؤالاً عن الوسيلة والغاية؛ إذ يجرنا إلى التساؤل حول الهدف من وجودها، وهذا الهدف هو ما يحدد ماهيتها؛ فإذا كان خارج نطاق الدولة كانت مجرد وسيلة وتابعة له، أما إذا كان من داخلها؛ فالنتيجة هي أن تكون الدولة غاية وهدفا.

لقد انقسم الفلاسفة وأصحاب الفكر بين مَنْ جَعَلَ الدولة مجرد وسيلة، وبين من جعلها هدفاً؛ فهناك من جعل ماهية الدولة تتحدد خارجها، وما على الدولة إلا أن تسعى إلى تحقيقها، مادام الأمر لا يتوقف عليها وإنما بما يتحقق من ورائها. كانت النتيجة هي: أن الهدف ليس الدولة؛ وإنما ما وراء الدولة، يقول "عبد الله العروي":«نبدأ بعرض مقالتين كان لهما تأثير كبير في مجرى التاريخ البشري، ولم تُعطِ أية واحدة منهما استقلالاً كافياً؛ لكي تهيئ تربة فكرية لنشأة نظرية الدولة بالمعنى الدقيق للكلمة»(3)، ومن ثم «لم تمنع هذه العقبة المنطقية البديهة أغلبية الكُتَّاب الذين عالجوا الموضوع من وضْع هدف الدولة خارجها؛ فكانت النتيجة أن مسألة الدولة لم تدرس جدياً إلا مع عدد قليل من المفكرين. إن التفكير في مشاكل الدولة شيء، وتقديم نظرية في الدولة شيءٌ ثانٍ؛فما أكثر مَنْ فَكَّر!، وما أقَلَّ من نَظَرَ في الموضوع!»(4). ترتب على ربط الدولة بالأهداف الخارجة عنها ظهور نظريتين: الأولى: تجعل الدولة وسيلة لتحقيق أهدافٍ أخلاقية، والثانية: تجعل الدولة وسيلة لخلق النظام وإخراج الفرد من حالة الفوضى.

   1 – الدولة الأخلاقية

سوف نبدأ بالمقالة الأولى أو النظرية الأولى، ونسمي الدولة التي تدعو إليها "بالدولة الأخلاقية"، ومبرر ذلك ما يقوله "عبد الله العروي" من أن« القيمة-كل القيمة- في الأخلاق؛ أي في الوجدان الفردي.الدولة الفاضلة هي التي تربي الفرد على الاستغناء عنها، وتوجهه لخدمة ما هو أسمى منها»(5).

تتحدد غاية الدولة الأخلاقية بالحياة الأبدية، ولا ترتبط بالواقع المعيش أو الحياة الدنيا؛ إنها دولة تعمل على خلق الاستعداد لدى الفرد من أجل طلب ما يتجاوزها؛ أي المدينة الفاضلة إلى جانب الحياة الأبدية. يوجد البديل دائماً خارج حدود الإنسان، وما على الفرد إلا ترتيب وجدانه وتهيئة نفسه، والعمل على تطهيرها مما يناصب العداء لها، خصوصا الجانب الحيواني؛ لأن «نطاق الدولة باستمرار الحياة الحيوانية في الإنسان. إذا رفضت أن تبرحه فهي شريرة»(6).

يتوقف دور الدولة عند حدود ضبط الجانب الحيواني في الإنسان وتربيته، وكذا تأطيره. تصبح الدولة بهذا المعنى زائلة، ويجب أن تسخر لخدمة ما هو دائم. إن كل ما يتوقف وجوده على غيرهينقلب إلى وسيلة، ويجب أن يكون في خدمته. يمكن القول: إن كل ما هو زائل لا يصلح لأن يكون هدفاً، وإنما الهدف ما نسعى إليه دائما، ويبقى ثابتاً. وتعدُّ السعادة هي الغاية أو الهدف من وراء كل شيء. يتحرك وجدان الفرد نحو طلب الحياة الأبدية، والترفع عن كل زائل ومؤقت؛ أي تجاوز الحياة الدنيا. إنها دعوة توجه «إلى الوجدان الفردي؛ لكي ينفصل عن قوانين الحياة الدنيا الخادعة العابرة، ويتهيأ للحياة الآخرة حياة السعادة الأبدية»(7)

ما يجب على الدولة الأخلاقية أن تقوم به هو خلق عالم من الفضيلة والفضلاء، وتجاوز محدودية الإنسان في الزمان، وانفتاحه على المطلق أو الأبدي لتخلق من الإنسان كائناً أبدياً لا زمان له. وهدف الدولة الفاضلة توجيه الفرد نحو العمل الفاضل، من أجل إنتاج نموذج أخلاقي يكون بمثابة مثال للمدينة الفاضلة، أو المجتمع الأخلاقي الذي صورته الإنسان الكامل. تصبح الدولة بهذا المعنى مهددة بالزوال، أو أنها لا معنى لها إلا بما تسعى إلى تحقيقه كهدف أسمى للوجود الإنساني، «إذا كانت الدولة في خدمة الفرد لكي يحقق غايته فهي مقبولة شرعية، مع أنها تبقى اصطناعية ومؤقتة مثل جميع الكائنات،وإذا هي تجاهلت الهدف الأسمى أو عارضته، إذا هي منعت الفرد من أن يلبي الدعوة الموجهة إلى وجدانه أو ضايقته؛ فهي مرفوضة لا شرعية، سيئة، وليدة الطبيعة الحيوانية في الإنسان»(8)

تحاول الدولة الأخلاقية تهميش السياسة على حساب الأخلاق؛ إذ يوجَّه الفرد ويساس بالأخلاق رغم ما يعرف على السياسة من أنها فنُّ التوجيه والقيادة. وانحراف السياسة عن معناها أدى بها إلى إقصائها من المجال العام داخل الدولة الأخلاقية؛ لأن «السياسة في جوهرها عملية قهر وإكراه، وهي أيضاً عملية احتكار للقوة والسلطان»(9)

يتميز الفعل الأخلاقي عن الفعل السياسي بأن الأول يتعدى مجاله إلى ما عداه، في حين أن الفعل السياسي يرتبط بتأطير الجانب الحيواني في الإنسان، مادامت السياسة «هي فن الإيهام وجعل الآخرين يعتقدون في المظاهر والأوهام»(10)، ومادام « الإنسان بطبيعته الحيوانية متكبرًا ومسيطرًا، يخص نفسه بحق الطاعة والاتباع؛ ويمكنه المضي إلى حد تأليه ذاته؛ لأن هذا في طبيعته أيضاً»(11).

مادام الإنسان لا يمكنه تأطير جانبه الحيواني بالسياسة؛ لأنها تفرض الإكراه والطاعة وتستخدم القوة، كان من الأولى إدخال الوازع الأخلاقي كبديل للتوجيه السياسي ومن ثمة يمكن القول: إن الدولة الأخلاقية ليست دولة سياسية،«وبالفعل، يقدم الاتجاه الذي نحن بصدده دائمًا الأخلاق على السياسة، جاعلاً من الدولة وسيلة في خدمتها، فيتكلم عنها في حاشية ملحقة بنظرية الأخلاق»|(12). ومن ثم هل يمكن القول: إن السياسة لا تصلح لتوجيه الإنسان إلى ما هو أفضل، أو ما سماه "عبد الله العروي" بالسعادة أو الحياة الأبدية؟

إذا كانت الدولة وسيلةً في خدمة الأخلاق؛ فإن الأخلاق هي أيضاً قد تتحول إلى وسيلة من أجل الحياة الأبدية؛ إذ قد تتحول كلٌّ من السياسة والأخلاق إلى وسيلتين في خدمة وجدان الفرد؛ أي أن الهدف ليس دائماً الأخلاق ولا السياسة؛ وإنما ما وراء السياسة والأخلاق بحسب المقالة الأولى من نظرية الدولة، «ولقد تعددت في التاريخ أشكال هذه المقالة، من الرواقيين إلى أنصار القانون الطبيعي، من أغسطين إلى فقهاء الإسلام»(13)

تصبح الدولة عندما تتحدد بما هي ليست عليه مجرد وسيلة للعبور بالفرد، والانتقال به من الجانب الحيواني إلى الجانب الروحي، أو من الفوضى إلى حالة من النظام؛لأن الهدف يقترن بخلاص الإنسان. بهذا المعنى تصبح الدولة لا معنى لها إلا بما تسعى إلى تحقيقه كهدف للوجود الإنساني. وهكذا قد يوجد الهدف خارج الدولة، ويتجاوزها إلى ما سوف تكون عليه، وليست ما هي عليه، إلا إذا كانت الدولة هي الهدف من الدولة؛ لكن كيف يمكن أن تكون الدولة هدفاً لما هي وسيلة له؟

2 – الدولة الطبيعية

إذا كانت الدولة الأخلاقية تقوم على رفع التناقض الحاصل بين الجانب الحيواني والجانب الأخلاقي في الإنسان، دولة ينتفي فيها الصراع والتناقض إلى التساكن والاطمئنان؛ فإن الدولة الطبيعية ترفض هي أيضاً أن يكون هناك تناقض؛ لكنه من نوع آخر؛ أي تناقض بين الفرد والمجتمع، أو بين الفرد والطبيعة. وكان الهدف من وراء الدولة الطبيعية «المعرفة والرفاهية والسعادة»(14).

تتأسس الدولة الطبيعية على الانسجام لا على التناقض، وتقوم على التعاون بين الأفراد، بالاستناد إلى ما تقدمه الطبيعة من خيرات، ويقتضي تعميم الخيرات تعاون الجميع؛ لأن «الدولة الطبيعية تخدم المجتمع بقدر ما يخدم المجتمع الفرد العاقل: تنظم التعاون، تمهد طرق السعي، تشجع الكسب وطلب العلم. المطلوب منها بالأساس الحفاظ على الأمن في الداخل والسلم في الخارج؛ أي رد العنف اللامعقول مادام له أثر بين البشر»(15)

لقد قام الإنسان بعملية نقل نظام الطبيعة والانسجام الحاصل فيها، وإسقاطه على النظام الذي ينبغي أن تكون عليه الدولة؛ فالمجتمع إذن «نظام طبيعي ضروري، فهو من ثم معقول متكامل متجانس»(16). ويتحكم في الطبيعة نظام من القوانين يجعل منها طبيعة متجانسة، تحقق الكمال والتكامل لكل الكائنات التي تخضع لهذا النظام، ولا يمكن أن نتصور خللاً فيه أو عطباً يؤدي به إلى الفوضى والعبث. وكل خلل أو فوضى ينطوي على نظام وهدف، ولا دخل للإنسان في ترتيب هذا النظام وإحكامه، وإنما يقف منه موقف المتأمل والمفكر، مادامت «الطبيعة عبارة عن مجموعة من قوانين متلازمة، مكشوفة لفكر الإنسان: إذا عالجها دون أفكار مسبقة-ومن ثم باستعداد لقبول قوانينها كما هي- كان في وسعه عندئذ أن يكشف عنها، ويستفيد منها لتحقيق أهدافه (المعرفة، السعادة، الرفاهية)»(17)

قد ينقلب نظام الدولة الطبيعية في حالة حب السيادة، وإرادة السيطرة، والتحيز مع الرغبة في التملك، واستفادة أقلية من الناس على حساب الجميع؛ فيحدث التفاوت، ويؤدي ذلك إلى الصراع، وممارسة العنف، أو صدام بين قوة الفرد في مقابل قوة الجماعة، أو قد يترتب عن ذلك انقلاب في طبيعة الدولة من دولة طبيعية إلى دولة فاسدة؛ لأن «الدولة الفاسدة، المناقضة للمجتمع، المبنية على العنف واستعباد الناس ليست سوى مؤامرة ضد الإنسانية»(18). لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: ما مصدر هذا الفساد والخلل الذي يطال نظام الدولة الطبيعية؟ أهوخللٌ ناتج عن طبيعة النظام أم يتدخل فيه الإنسان؟

يرى "عبد الله العروي" أن الفساد ليس من طبيعة الطبيعة أو النظام، وإنما مرده إلى الإنسان؛ أي أن سبب الفساد خطأُ الإنسان وليس خللاً في النظام؛ «فإذا حصل تناقُضُ فلسبب غير طبيعي، ناتج عن خطأ إنساني متعمد، وفي تلك الحال تنشأ الدولة الاستبدادية الظالمة. الدولة إما طبيعية وهي صالحة، وإما فاسدة لأنها غير طبيعية»(19)

إذا كان الإنسان هو من يتحمل مسؤولية فساد الدولة، وإخراجها من الطور الطبيعي إلى الطور اللاطبيعي-نظرا لتعمده ارتكاب الأخطاء مع حضور القصد في الفعل- فإنه هو المسؤول عن الفساد وليس الطبيعة؛ لكن المفارقة التي يضعنا فيها "العروي" هي أن الطبيعة الإنسانية خيرة بطبعها، ويقول في هذا الصدد:«فسنجد أن الفرد خيرٌ بطبعه، يعمل، ينتج، يكتشف، يتقدم»(20)

إن جواب "عبد الله العروي" فيه نوع من التناقض، وهو ما يطمح إليه؛ لأنه في انتقاده للدولة الأخلاقية والدولة الطبيعية سوف يركز على هذا التناقض؛ لأجل بيان تهافت دعوى أصحاب النظرية الأولى والنظرية الثانية، في بناء تصورات عن مفهوم الدولة؛ إذ يؤكدأن الفساد ليس نتيجة الطبيعة الإنسانية؛ إذ هي خيِّرةٌ بطبعها، وليس من طبيعة الطبيعة والنظام، ومع ذلك ينسب الفساد إلى تعمد ارتكاب الخطأ من طرف الإنسان. فهل الطبيعة الخيرة قادرةٌ على أن يصدر عنها الخطأ مع حضور القصد والتعمد في الفعل الإنساني؟ وأعَرَضِيٌّ هو الفساد في الدولة الطبيعية أم أنه طفرة في الطبيعة الإنسانية؟

يجيب "عبد الله العروي" بأن كلاًّ من الدولة الطبيعية والدولة الأخلاقية «تنفي التناقض داخل الفرد وداخل المجتمع، وترى التناقض بين الفرد والمجتمع من جهة وبين الدولة من جهة ثانية... الدولة الصالحة الشرعية الطبيعية متجانسة مع الفرد والمجتمع في كون لا يعرف التناقض البتة، والدولة الفاسدة اللاشرعية اللاطبيعية تمثل الشر كله، وتحتضن كل الفئات الشريرة اللاإنسانية»(21). ومن ثمفالدولة إما أن تكون صالحة وصلاحها ليس من ذاتها وإنما من مصدر خارج عنها، وإما فاسدة وفسادها ليس من ذاتها كذلك.و«لقد عبر في التاريخ عن هذه المقالة-كليا أو جزئيا- السوفسطائيون، والطبيعيون، والرومانيون، وبعض فلاسفة الإسلام كإخوان الصفا، وفلاسفةُ القرن الثامن عشر الأوروبي، وليبراليو القرن الماضي»(22).

ينتقد "عبد الله العروي" المقالة الأولى والثانية؛ نظرًا لإهمالهما أهمية التناقض في بناء نظرية الدولة؛ إن التناقض غير حاصل في قول "العروي" على مستوى مصدر الفساد في الدولة الطبيعية، سواء أكان هذا المصدر الطبيعة أم الإنسان، بل أكثر من ذلك إن القول بالتناقض لرفْعِ التناقض قولٌ مردود عليه، مادام الوجود الإنساني في جوهره متناقضًا. ولا يقف التناقض عند حدود الفرد؛ وإنما يتجاوزه إلى المجتمع والدولة، بل وحتى في الطبيعة؛ إذ «يوجد التناقض في الفرد وفي المجتمع وفي الدولة؛ يوجد في كل ظاهرة يميزها مؤقتًا العقلُ بين ظواهر الكائن البشري الواحد»(23).

يدرك "عبد الله العروي" أهمية التناقض ويؤسس عليه، وينتقد به غيره في حالة عدم إدراكه أو إدخاله في بناء تصور عن الدولة؛ إذ إن كل شيء محكوم بالتناقض ولا وجود للانسجام والتكامل، وإنما التكامل حاصل في تركيب التناقض. يبقى التناقض فاعلاً حتى في التركيب، أو لنقُلْ: في حالة تجاوزه؛ لكن تجاوز التناقض يؤدي إلى تركيب التناقض.

يُعدُّ التناقض قانونًا كونيًا، يشمل كل شيء، ويتحكم فيه، ويسود عليه، مادام -أعني «التناقض- موجودًا وضروريًا، لكنه يعبر عن نقص، هو المحرك دون أن يكون الغاية»(24). لا يعني التناقض هنا سيادة الفوضى، أو الخروج عن النظام؛ وإنما النظام نفسه قائم على التناقض. لهذا يدعو "عبد الله العروي" إلى تجاوز المقالة الأولى والثانية- من خلال مجموعة من الصعوبات التي تطرحها، والتي تتعارض مع طبيعة الدولة، كربط الإنسان بما يتجاوز حدوده وواقعه- والقول بالتكامل والانسجام، سواء في النظام، أو في الفرد، أو في المجتمع، أو في الدولة. فبدل الخروج من التناقض ورفعه بالنسبة للمقالة الأولى والثانية، دخلنا في تناقض مباشر مع طبيعة الإنسان من حيث هو إنسان، وليس من حيث هو حيوان أو ملاك.

ينفي "عبد الله العروي" أن تكون الدولة مجرد مقولة نظرية، أو اصطناعية، قابلة للزوال وعدم الاستمرار، أو أن وجودها حاصل عن اتفاق، وليس ضرورة لازمة للوجود الإنساني، أو أنها ضرورة وجودية مُلحَّة؛ وإنما الدولة عبارة عن ظاهرة اجتماعية، يتحدد معناها بناء على السلطة العامة التي ينصهر فيها الفرد والمجتمع مع الدولة. وهو إذ يؤكد على ذلك يرفضأيَّ تصوُّرٍ يضع الفرد هدفاً للدولة أو خارجها. ومن ثمة، الدعوة إلى الانطلاق في البحث عن هدف الدولة من داخل نطاق حدودها؛ لذلك يؤكد "العروي" على إنسانية الإنسان، وأنه ليس شيئاً آخر غير أنه إنسان، وكل محاولة لإخراجه عن إنسانيته نخرج بذلك الدولة عن معناها الحقيقي، ونلحقها بما لا ينبغي أن تكون عليه.

يرى "العروي" أن الإنسان ليس بحيوان ولا هو بإله أو ملاك؛ وإنما هو إنسان، وكل نظرية يجب أن تراعي الجانب الإنساني وليس الجانب الحيواني أو الإلهي فيه. يجب عدُّ كل دولة تدعو إلى رفع التناقض بين الجانب الحيواني والأخلاقي، والعمل على تربية الأول بالثاني، وتوجيهه إلى ما هو أفضل، أنها ليست بدولة موضوعية، ولا هي بدولة واقعية. وكل دولة تدعو إلى رفع التناقض بين الفرد والمجتمع، أو بين الفرد والطبيعة، هي أيضاً ليست بدولة واقعية؛ لأنها ركزت على الجانب الفاضل من الإنسان؛ لعقد صلح مع الجانب الحيواني، أو الارتقاء به ومحاولة قهره والاستبداد به؛ بدعوى أن الفرد في الدولة يجب أن يكون إنساناً فاضلاً، وليس حيواناً. مما أدى إلى خلق صراع بين وجدان الفرد-الذي يتوق إلى التخلص من سجن الجسد وقيود غرائزه- وبين جانبه الحيواني، إلى عقد صلح بين الجانب الوجداني والأخلاقي.

يجب -بحسب نظرية الدولة الواقعية- أن تُعطَى الأهمية للتناقض والصراع، وحاجيات الإنسان الواقعية والحيوانية، وعدم إهمال أي شيء في الإنسان، ودون ترجيح لأي طرف على حساب طرف آخر، بدل التركيز على الفرد، سواء من خلال وجدانه، أو في علاقته المنتظمة مع الطبيعة والآخرين،ومن ثم لا وجود في الواقع "للإنسان الإلهي" ولا "للإنسان الحيواني"، ما يوجد هو الإنسان، و«بهذه الطريقة وحدها تصل إلى الواقعية الحقة التي تتطابق فيها التظاهرة والفكرة، وتدرك الدولة كدولة، دولة الإنسان الإنساني، لا الإنسان الحيواني أو الإنسان الإلهي»(25). يؤدي إخراج الإنسان عن إنسانيته إلى تجاوز نظرية الدولة إلى ما وراءها، إما إلى مدينة الله في الأرض؛ أي إنزال ما هو سماوي وإسقاطه على ما هو أرضي، وإمابإلحاق الأرضي بما هو سماوي.

إنزال الإنسان إلى مرتبة الحيوان يعني أنه في حاجة إلى رعاية وتربية وأخلاق؛ حتى يترقى في طور الإنسانية، من الحيوانية إلى الملائكية؛ في حين تراعي الدولة الموضوعية الجانب الإنساني في الإنسان، ولا تخرجه عن نطاقه إلى ما يتجاوزه؛ إذ «لم يعد الهدف العام هو السعادة الفردية سواء أكانت روحانية كما توهمها الفلاسفة، أم جسمانية كما تصورها غيرهم، بل الهدف هو تحقيق الإنسانية؛ أي إخراج القوى الكامنة فيها إلى الفعل...فالقواعد السياسية هي إذن إنشائية؛ أي ضرورية لكي يحقق الإنسان إنسانيته داخل المدينة»(26)

إذا كانت المقالة الأولى قد أخرجت الإنسان عن إنسانيته وألحقته بالإنسان الفاضل أو الكامل؛فإن «الفرد الصالح لا يحتاج إلى مجتمع أو إلى دولة؛ لكنه افتراض لا وجود له في عالم الملموسات»(27). وإذا كانت المقالة الثانية أخرجت الإنسان عن إنسانيته، وألحقته بالنظام والتكامل والانسجام؛فإن «المجتمع الكامل لا يحتاج إلى دولة؛ لكنه يستلزم الفرد الصالح الذي لا وجود له في الواقع»(28). وهكذا يصل "العروي" إلى رفض المقالة الأولى والثانية من نظرية الدولة؛ إذ «إن المقالتين المذكورتين تقفان بالضبط على عتبة فكرة الدولة، دون التطرق إليها بجدٍّ وحزم»(29)

تعرضت المقالة الأولى والثانية لمجموعة من الانتقادات، ونصبت أمامهما مجموعة من الاعتراضات، ووضعت أمامهما العديد من التحديات؛ ففي المقالة الأولى والثانية، كانت الدولة مجرد وسيلة سواء لصالح غاية السعادة الفردية، أو لصالح الانسجام والتكامل الاجتماعي، في حين عملت النظرية الجديدة للدولة على تجاوز هذا الادعاء بالخصوص، إلى وضع الدولة موضع الغاية، وكل الأمور الأخرى توصل إليها، أو في مستوى آخر تتوحد في الدولة باقي المجالات.

أصبحت الدولة تشكل الوحدة التي تشمل التعدد وتحتوي مختلف الاختلافات، ومن ثمة لم نعد نتصور إمكانية قيام غاية أخرى مقام الدولة أو تعمل على تعويضها،ومن ثم تعمل كل المجالات لصالح الدولة كأفق لتحقيق وتجسيد مختلف المجالات، التي تتضافر مجتمعة، كل واحدة من جهتها لصالح وحدة الدولة بوصفها الغاية لكل غاية، أو هدفاً تنفلت بفعل تحققها إلى وسيلة لغاية أخرى، و«من يظن أن حقيقة الدين أو حقيقة الفلسفة تسمو على حقيقة الدولة خاطئ؛ لأنه يرى الأمور بمنظار الإعقال، وهو منظار تجزيئي تسطيحي، ولو كان تعمَّقَ في الأمور ورآها بمنظار العقل الشمولي؛ لأدرك أن مفهوم الدين هو مفهوم الفلسفة مصورًا ممثلاً، وأن مفهوم الفلسفة هو مضمون الدولة ملخصاً مجرداً، وأخيراً أن مضمون التاريخ مجسد في الدولة»(30)

وهكذا نصل في الختام إلى أهمية السياسة على حساب الأخلاق والمجتمع والفرد، أو أن ما يهم هو التأسيس السياسي للدولة، والتي تم إهمالها لصالح أهداف أخرى. ليس بهذا المعنى أن السياسة سوف تكون هدفاً للدولة؛ وإنما هي الوسيلة الأفضل لجعل الدولة هدفاً سياسياً، تسعى إليه وتعمل على تحقيقه وتجسيده. وما يلفت النظر في مختلف النظريات التي تم عرضهاهوأن الدولة قد تُعدُّ هدفاً في بداية تأسيسها؛ إلا أنها تتحول بعد ذلك إلى مجرد وسيلة، ومادامت نظرية الدولة تتسم بالتطور والتقدم؛ فإن جدلية الوسيلة والهدف لم تحسم بعد؛ إذ هي باقية ومستمرة باستمرار تقدم النظريات وتطورها،ومن ثم ما يجب أن يكون هو أن تعمل جميع المجالات فيما بينها داخل الدولة؛ لتطوريها من الداخل؛ أي دولة تستوعب جميع التناقضات داخلها وتوظفها لبقائها وتطورها.

 

الهوامش والإحالات:

(1)    العروي، عبد الله، مفهوم الدولة، المركز الثقافي العربي، الدارالبيضاء، المغرب، الطبعة الأولى، 1981، ص 11.

(2)   نفسه، ص 11.

(3)   نفسه، ص 11 – 12.

(4)   نفسه، ص 11.

(5) نفسه، ص 13.

(6) نفسه، ص 13.

(7) نفسه، ص 12.

(8)نفسه، ص 12.

(9)العروي، عبد الله، ابن خلدون وماكيافللي، دار الساقي، ترجمة خليل أحمد  خليل، الطبعة الأولى، 1990، ص 47.

(10)  نفسه، ص 48.

(11) نفسه، ص 51.

(12)مفهوم الدولة، ص 13.

(13) نفسه، ص 13.

(14)نفسه، ص 14.

(15) نفسه، ص 14.

(16)  نفسه، ص 14.

(17) نفسه، ص 14.

(18) نفسه، ص 14 – 15.

(19) نفسه، ص 14.

(20)نفسه، ص 14.

(21) نفسه، ص 15.

(22) نفسه، ص 15.

(23)نفسه، ص19.

(24) نفسه، ص 21.

(25)نفسه، ص 21.

(26)العروي، عبد الله، مفهوم العقل، المركز الثقافي العربي، الدارالبيضاء، المغرب، الطبعة الثالثة، 2001. ص 218.

(27)مفهوم الدولة، ص 19.

(28) نفسه، ص 19.

(29) نفسه، ص 20.

(30) نفسه، ص 21.

 

 

أخبار ذات صلة