نادية اللمكيَّة
تنطلقُ قراءة الباحث التونسي مُحمَّد الرحموني في مقاله "القبيلة والبداوة: العلاقة بين المفاهيم الجاهلية والخلدونية في ضوء القرآن"، من سؤال ثقافي يفرض نفسه في ظل تداخل المفاهيم وتأثرها بالخلفيات الثقافية للمجتمعات، وارتباطها بمنهج التأصيل الذي يعتمده العلماء المؤرِّخون؛ وهذا السؤال هو: كيف يمكن تأصيل المفاهيم وتحديد مجالاتها بالنظر إلى ظهورها الزمني من جهة وارتباطها العملي المجرد من جهة أخرى؟
ولأنَّ الدين في شقه التوحيدي وجانبه التشريعي يُمثِّل المساحة التي تلتقي فيها مجموعة المدلولات والإشكالات، حاول الكاتب المقاربة بين تشكل مفهومين؛ أحدهما ينطلق من جانب ديني وهو مفهوم "الجاهلية"، والآخر ينطلق من جانب اجتماعي وهو مصطلح "القبيلة أو البداوة"، مُعتمِدًا في الأول على ما جاء من ذكرٍ للفظ في القرآن الكريم، وموجهًا الثاني وفق ما ذكره ابن خلدون عن البداوة والحضارة في مقدمته.
بدأ الكاتب مُقاربته هذه بالبحث عن الجذر "ج.هـ.ل" في معجم لسان العرب، ولأنَّ المعنى الذي يُطالعنا به ابن منظور لمصطلح "الجاهلية" يأتي في سياق (المفازة أو الأرض المجهولة أو الناقة التي لا سمة عليها)، رأى الكاتب لزامًا عليه أن يترك المعنى العام مُتَّجهًا إلى البحث عن الخصائص التي تُميِّز الجاهلية بحسب ما ذُكر في اللسان؛ مشيرًا إلى أنَّ الهدفَ من توجهه هذا هو الجمع بين المعنى الشائع له؛ وهو فترة ما قبل الإسلام، وبين المعاني الأخرى للفظ. ويبدو أنَّ الرحموني لم يستطع الانفكاك من سطوة المعنى المتبادر إلى الذهن حتى قاده الاستنتاج إلى أن معنى الجاهلية وهو "الجهل بالدين" يوازي معنى لفظ "الكفر"؛ بوصف هذا الأخير يعني جهلا بالأحكام والشرائع، وهذا ما جَعَل الكاتب ينتقل مباشرة للبحث عن معنى الجذر "ك.ف.ر"، لكنَّ المفاجأة كانت في المعنى الذي تحمله كلمة "كافر" وهو: "من ينزل أرضًا بعيدة عن مجتمع الناس"؛ إذن فالرابط في الأساس بين الجاهلية والكفر لا يتعلق بحالة المرء من إيمان أو عدم إيمان؛ بل بحالة زمانية وجغرافية؛ حيث يكون الناس في فترة زمنية ما يسكنون أماكن بعيدة ولا تصلهم أخبار ما حولهم.
ويستكمل الكاتب مُجدَّدًا توجيهنا بأسلوب الربط بين المعاني الذي ينتهجه في مقاله؛ فبما أنَّ الجهل بالدين مُرتبط بلفظ الجاهلية ومرتبط بلفظ الكفر -وهما "المكان البعيد عن مجتمع الناس"- فهذا يجعل المدينة بالافتراض المعاكس -بحسب الكاتب- هي المكان الذي ينتشر فيه الدين ويقل فيه العصيان. إنَّ هذا الاستنتاج الذي ينتهي إليه الرحموني يقوده إلى البحث عما يؤكد هذا الافتراض بالعودة إلى لفظ الجاهلية ومشتقاته في القرآن؛ ويمكن أن نقسم استنتاجه في جانبين:
- الأول: إثبات علاقة لفظ الجاهلية بالمعنيين: "الأماكن البعيدة عن مجتمع الناس" و"الجهل بالدين".
وقد استخدم الكاتب المقاربة بين لفظي القرية والجاهلية في القرآن؛ كون الأول هو اللفظ المعاكس للمدينة من جهة، ولكونه مرتبطا بالكفر والظلم الناتجين عن الجهل بالدين من جهةٍ أخرى، غير أنَّه لا يُمكن القطع بهذا الاستنتاج الذي توصل إليه الكاتب؛ إذ يرى عددٌ من الباحثين أن المدينة والقرية لفظان مترادفان، بل رأى بعضهم أن القرية أكبر جغرافيا وسكانيًا من المدينة. أمَّا الجانب المتعلق بإيراد لفظ القرية في القرآن ضمن سياق الكفر، فإنَّ لفظ المدينة ارتبط أيضًا بسلوكٍ غير مُنضبط؛ ومن ذلك قول الله تعالى: "وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نفْسِهِ"، وقوله سبحانه: "وَمِمنْ حَوْلَكُم منَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِن أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْعَلَى النفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ".
- الثاني: تحديد خصائص الجاهلية بوصفها "نعتا" لأفعالٍ محددة.
وفي هذا الجانب، يُحاول الكاتب أن يربط وجود الناس في أماكن بعيدة وجهلهم بدعوة الأنبياء باستنتاج أنه العامل الذي يجعلهم يرتكبون معاصيَ من نوع: اللواط، والتبرج، وقتل الأنبياء، والظلم، والحمية...وغيرها؛ مُستندًا في ذلك إلى استقراء الدلالة في الآيات أو النصوص الدينية، بل حَدَا به الاستقراء إلى جعل "الجاهلية" -وهي تلك المفازة أو الأرض البعيدة عن مجتمع الناس- تحمل رمز السجن، كما جاء في قصة يوسف عليه السلام (الآية:100) الذي تكتمل فرحته بحدثين يرى الكاتب أنهما مرتبطان؛ وهما: الخروج من السجن ومجيء أهله من البادية، واصفًا هذا الخروج بأنه "يوازي خروج الإنسان من الجاهلية إلى الإسلام"، وأظن هذه النتيجة فيها تكلف من جانبين؛ أما الأول فلكون البادية التي عاش فيها إخوة يوسف كان فيها أبوه يعقوب عليه السلام، بل عاش فيها هو من قبل، ولا نظن أن يوسف كان ليعد ذلك المكان سجنًا. ومن جانبٍ آخر، فإن فرح سيدنا يوسف عليه السلام هو فرحٌ باللقاء والاجتماع بعد سنينٍ من الفراق لا سعادةً بخروج أهله من البادية تحديدًا.
إذن؛ وبعد استقراء معنى الجاهلية في القرآن، والذي كان مرتبطًا بالجهل بالألوهية وخصائصها، أو بممارسة سلوك غير منضبط يتَّضح لنا أنَّ الإسلام استخدم الكلمة بدلالة خاصة؛ فبحسب رأي الباحثين فإن لفظ "الجاهلية" كان مرتبطًا قبل ظهور الإسلام بالمعنيين: الجهل ضد العِلم، والجهل ضد الحِلْم؛ الأمر الذي يجعلنا نفكر مليًّا قبل استخدام هذا اللفظ في وصف الحقبة السابقة لظهور الإسلام؛ لأنَّ المدلول الديني لهذا اللفظ يصور لنا حياةً يسودها الضلال في كل مناحي المجتمع. هذه الصورة تتكرَّر مع ابن خلدون، الذي رأى الكاتب أنه استخدم ذلك الاقتران بين لفظي الحضر والبدو، مُشيدًا بالأول ومجهرًا على الثاني؛ لينتصر لفكرة أنَّ العمران والتقدم ارتبطا بالحواضر عبر إثبات الضد للبوادي التي لم يكن لها من ذلك نصيب.
لقد قدَّم لنا ابن خلدون خصائص رئيسية لأهل البادية في قوله: "وأهل البدو لتفردهم عن المجتمع، وتوحشهم في الضواحي، وبُعدهم عن الحامية، وانتباذهم عن الأسوار والأبواب، قائمون بالمدافعة عن أنفسهم، لا يكلونها إلى سواهم، ولا يثقون فيها بغيرهم". هذه الخصائص جمعها الكاتب تحت مظلة "العصبية"؛ حيث تغيب إدارة الدولة، ويغب الدين المنظم للسلوك، وتغيب الأخوة حين تحضر الحمية، وهي ذاتها الصفات التي أطلقها القرآن على أهل "الجاهلية"؛ مما يجعل اللفظين يقتربان من بعضهما عند نقطة مظلمة جدا!
هكذا إذن يعود الكاتب ليؤكِّد الفكرة التي أشرنا إليها؛ ابن خلدون كان مُهتمًّا بالتأسيس لخصائص المدينة والحاضرة. ولأن "الضد يُظهر حسنه الضد"، استخدم البادية رمايا تُلقى عليها السهام، فأعلى من شأن الحاضرة، بل جعلها "الطموح التاريخي للبدوي". ولا يقف استنتاج الكاتب عند هذا الحد، بل يجد في الخلفية الدينية والثقافية لكلمة "الجاهلية" في فكر ابن خلدون أثرًا فيما كتب، وأن العلاقة بين الجاهلية والبادية تتلازم في مقدمته حتى يصبح الجاهلي هو البدوي ذاته.
... إنَّ التحوُّل التاريخي المصيري يستلزم إذن إجهارًا لكل ما سبقه، هكذا يلخص الرحموني السمات الهائمة حول لفظي الجاهلية والإسلام، ولفظي الحاضرة والبادية من جهةٍ أخرى، وهو بذلك يبرر موقف القرآن الكريم من الجاهلية، ويعلل موقف ابن خلدون من البادية.