هاجر السعدية
تسببت النزعة المادية في تشويه المقدسات، وتلطخت تحت شعارات تشكّل نقاط ضعف الإنسان –المتحيون- والناس غير المفكرين، البسطاء الذين يقتاتون من فتاوي المشايخ وينهجون منهج تفكير الخطباء والمدعين بمحامين للرب. فاليقظة الإسلامية المعاصرة تواجه المركزية الأوروبية بمنهج سياسي في قالب (إسلامي)، مما شكّل ظهور حركات ولوبيات – سياسية إسلامية – تطمح إلى قلب أنظمة الحكم من أجل استرداد مكانتهم العالمية، وفيه إفصاح مبطن بأن دينهم دين الحق والقوة والعقل وما عداه دين كافر وجاهل. حيث نجد الباحث " محمد زاهد جول" يفصح ويغربل في مقاله " التدين السياسي: آفات الحداثة المستعارة" هذه النزعة الإسلاموية من حيث ماهيتها وتكوينها التاريخي، إلى إبراز منظوره الأيديولوجي والنقدي لهذا التيار. فمن المعلوم أن الاشتغال بالتدين السياسي القائم على التغلب والمغالبة جلب استبدادا طاغيا وتشنيعا كثيفا داخليا وخارجيا. ويبرر محمد زاهد تقديم الجانب السياسي في التدين على الجوانب الأخرى؛ لتدارك التقدم الحضاري: أي نتيجة الصدمة الحضارية التي حدثت عقب الاحتكاك المباشر مع القوى الاستعمارية الغربية. بذلك يجد أن دعاة التدين السياسي – الإسلامويين- غفلوا عن إدراك الشروط العملية لآليات تجديد الخطاب الديني، إذ لابد أن يتعلق التجديد بأخصِّ أوصاف الإنسان (المسألة الأخلاقية). ويصرّح محمد زاهد بأنه لا يمكن الخروج من آفات التضييق والتشنيع التي تعاني منها حركات التدين السياسي إلا بالترفع عن المستوى النفعي الدنيوي والتغلب السياسي؛ أي الانتقال من المستوى السياسي الأضيق إلى المستوى الإنساني الأوسع.
والتفت الباحث محمد زاهد في مقاله إلى تسلسل يخدم القراء سواء كانوا من الآبهين بحراكات الأمم أو المنكمشين على حياتهم فقط، حيث استعرض ماهية التدين السياسي كمفهوم، ومن ثم استرسل في عملية وأسباب نشوء هذا التيار الحركي. والتدين السياسي – كمفهوم – فهو مصطلح سياسي وإعلامي استخدم لتوصيف حركات تغيير سياسية تؤمن بأنّ الإسلام منهج حياة، استخدم بكثافة عقب أحداث 11 سبتمبر 2001م، ويشير إلى فهم مخصوص للإسلام مما عمل على بناء خطاب أيديولوجي؛ بهدف إقامة دولة تتمثل التجربة الإسلامية الأولى التي أقامها النبي والخلفاء الراشدون بعده. ونرى هنا إعطاء الأولويّة في التدين لمفهوم التسييس؛ نتيجة اعتقاد راسخ بقدرة الجانب السياسي منفردًا على القيام بعمليّات الإصلاح والتغيير. وبهذا فإنّ التسييس يختلف عن الوعي السياسي، فالتسييس يمنع دخول أي عامل في تحديد الفرد، وفي تحقيق ما يلزم المجتمع من الإصلاح أو التغيير، وذلك على عكس الشرعية السياسية. وهذا ما يجعل التسييس آفة تضر بالحركة سواء كانت (إصلاحية أو ثورية). والجدير بالإشارة إليه هنا؛ أنّه حركات (التدين السياسي) التي تتخذ من الإسلام مرجعا ومنطلقا فكريا وأيديولوجيا للعمل السياسي قد عرفت تسميات عدة من لدن المفكرين والباحثين منها: الأصولية والإسلامويّة. بيد أنّ الباحث محمد زاهد قد آثر مصطلح التدين السياسي على المصطلحات الأخرى نظرا للإشكالات الواردة على كل منها. وفيما يخص شأن نشأة هذا التيار تاريخيا، حيث نجد خروجه من رحم الحركة الإصلاحية، التي ظهرت نهاية القرن ال 19 واستمرت حتى عشرينيات القرن العشرين، حيث بدأت فكرا وممارسة بالإصلاحية الإسلامية وصولا إلى إحداث نوع من القطيعة.
فالإصلاحية الإسلامية تحالفت مع رجالات عصر (التنظيمات العثمانية)؛ في سبيل بناء منظومة حديثة تستوعب المتغيرات العالمية التي أحدثها الغرب، وفي هذا المجال قدمت الإصلاحيّة الإسلامية أطروحتين وهما: (المنافع العمومية) بتعبير رفاعة الطهطاوي، والأخرى (التنظيمات) بتعبير خير الدين التونسي. والجدير ذكره هنا أنّ الإصلاحية الإسلامية حققت إنجازات على صعيد جميع المجالات، إلا أن عشرينيات القرن المنصرم شهدت خللا في مجال علاقة الإصلاحية الإسلامية بالغرب. درج الإصلاحيون على الفصل نظريا وعمليا بين الغرب كثقافة وتقنية من جهة والسياسات الغربية تجاه العالم الإسلامي من جهة ثانية، على اعتبار أنّ الحضارة الغربية عالمية، ويمكنهم الإفادة من منتجاتها في كل المجالات، لكن العقدين الأولين من القرن العشرين شهدا عدوانية غربية تجاه العالم الإسلامي، تمثلت في السيطرة على أكثر ديار الإسلام، وتحقير الدين الإسلامي ومجتمعنا، وبلغت ذروة العداء في الحرب العالمية الأولى بسحق دولة الإسلام الباقية (السلطنة العثمانية)؛ مما صرح محمد عبده وأنصاره أنّ العلة لا تنحصر في الصراعات الداخلية بين رجالات الغرب ودوله، أو نزعتهم الاستعمارية؛ بل يتجاوز ذلك إلى العقلية والثقافة الغربيتين، فالعقلية والثقافة ماديتان غير إنسانيتين.
ولقد تولدت في وعي النخبة الإصلاحية أزمة نجمت عن الخيبة بالغرب وثقافته وسياساته وأفرزت جيلا هيمن على مجمل الفكر الإسلامي المعاصر. وكان الشيخ (رشيد رضا) أحد تحولاته وظهور حركة الإخوان المسلمين. فقد بدا هاجس الحفاظ على الهوية حاضرا بقوة في المشروع الإصلاحي لجماعة الإخوان المسلمين – التي بدأت كحركة توعية دينية إحيائية لا تعنى بشكل مباشر بالقضايا السياسية- وكانت هذه مقدمات لظهور القطيعة بين الحركة الإسلامية الجديدة وفكر الحركة الإصلاحية. وكانت (الحاكمية) ذروة التعبير عن تلك القطيعة، بعد أن أودت نهائيا بفكرة الدولة الوطنية ولكنها أنتجت سياسة خوارجية في جسم الحركة الإسلامية، أنجبت إلى جانب ثقافة العنف، بنى سياسية متطرفة أساءت استخدام فكرة الجهاد، وفتحت المجال السياسي والاجتماعي على الفتن والحرب الأهلية. وفي جانب آخر أفرزت تيارات جهادية تستند إلى مفهوم التدين السياسي، أدت إلى ولادة تنظيم جهادي انتقل من مرحلة الجهاد الوطني إلى الجهاد العالمي وعولمة الحركة الإسلامية – تمثل بتنظيم القاعدة – وعلى الرغم من الجدل العميق حول أسباب بروز هذه الظاهرة إلا إنه لم يحسم بشكل نهائي، وقد برزت خمس أطروحات رئيسية لتفهم هذه الظاهرة وهي:
- فشل النخب العلمانية القومية
- أزمة البرجوازية الصغيرة؛ إذ ترى نيكي أن الإسلاموية عقيدة البرجوازية الصغيرة، من منطلق أن البرجوازية نشأت من واقع أن الاستقلال حمل نتائج غامضة عليهم.
- نقص المشاركة السياسية: بسبب الطبيعة الديكتاتورية لأنظمة ما بعد الاستعمار.
- النمو الاقتصادي؛ حيث برزت الإسلاموية كردة فعل على النمو الاقتصادي الذي دمّر الأنماط التقليدية للحياة؛ مما دفعا الناس إلى تأكيد طريقة حياتهم التقليدية.
- نتائج التآكل الثقافي
ومع تعدد الأسباب الناتجة للإسلاموية، إلا أنه يمكننا الحكم بأنها غفلت عن الجانب الإنساني لصالح الجانب السياسي، الأمر الذي أدى إلى تضييع الاثنين معا. فالتسييس لا يؤمن بالإصلاح والتغيير إلا من خلال المجال السياسي خطابا وممارسة. ونجد ما يقابل التسييس التأنيس، وهو يدل على المقومات الإنسانية التي تسقطها نزعة التسييس والتي تتمسك بها الاتجاهات ذات البعد الإنساني الصريح كالديانات السماوية. فالتلبس الذي طبع حركة الإسلاموية بآفة التسييس أغفلها عن التأنيس، رغم اعتقاد الإسلامويين أنهم ينطلقون من روح القرآن الكريم. والحقيقة أن الإسلام يحث على بناء ثقافة السلام والعدل وليس الإرهاب والعنف، ولا سبيل إلى التخلص من هذه الآفة إلا بتضافر الجهود العلمية والإعلامية، فهي لاتنحسر إلا بالفكر والمعرفة وليس من خلال الحلول الأمنية والعسكرية الصلبة.