فاطمة إحسان
مرَّت المسيحية بأطوار كثيرة منذ بعث المسيح إلى اليوم؛ مما يستدعي البحث والتأمل في أصل الديانة والمسار الذي اتَّخذه تقدمها عبر التاريخ، وهذا ما قام به مصطفى أبو هندي في مقاله المنشور في مجلة التسامح والمعنون بـ"نظرة في الأصولية المسيحية"، والذي سأقوم هنا بتلخيصه ومناقشته.
في البدء كانت المسيحية ثورة على التطرف الديني لدى اليهود، الذي تمثَّل في الشعائر والقوانين التي قصرت رحمة الله على بني إسرائيل، تحت ذريعة كونهم شعباً مختاراً؛ فجاء المسيح مُبشِّراً بالرحمة التي تشمل الخلق جميعاً دون تمييز، وآمن به بعض من بني إسرائيل فيما أنكر آخرون، وادَّعوا بأنه المسيح الدجال، وأن معجزاته ما هي إلا قدرات وهبت له ليفتن الناس، وأن على المؤمن الحق أن يكفر به وينتظر المسيح الحقيقي الذي سيظهر في آخر الزمان ليحقِّق الوعد الإلهي، وهكذا ظل اليهود منذ ذلك الزمن في انتظار المسيح بن سليمان بن داود، الذي سيملأ الأرض عدلاً بعدما مُلِئت ظلماً وجوراً.
كانت رسالة المسيح دعوة إلى الكمال الإنساني الذي يجتاز عدل الشريعة والقانون ليصل إلى رحمة الله وكماله، ودعوة إلى المحبَّة والتسامح الإنسانيين؛ حيث يقول مثلاً: "سمعتم أنه قيل عين بعين وسن بسن، وأما أنا فأقول لكم: لا تقاوموا الشر، بل من لطمك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر أيضاً، ومن أراد أن يخاصمك ويأخذ ثوبك فاترك له الرداء أيضاً، ومن سخرك ميلاً واحداً فاذهب معه اثنين، ومن سألك فأعطه، ومن أراد أن يقترض منك فلا ترده"، لكن المسيح -عليه السلام- لم يكد يُكمل دعوته حتى بدأ رجال الدين اليهود بالكيد له ومحاولة النيل منه، لكن مساعيهم لم تفلح، فاجتمع رؤساء الكهنة والشيوخ، واتفقوا على أن يرشوا الجنود ويشيعوا بين الناس شائعات حول قتل المسيح ودفنه وسرقة جثمانه، وانتشرت هذه الرواية لدى بعض اليهود والمسيحيين حتى اليوم.
لم يكد التعليم المسيحي الأول الذي بشَّر به الآباء الأوائل -أمثال بطرس وبرنابا ويعقوب يظهر- حتى ظهر الحبر اليهودي بولس الذي عدَّ نفسه رسولاً، وأصبح الأب الحقيقي للكنيسة في تعليمها الثاني، في حين كان من أشد الناس عداوة للمسيح وتلامذته، ثم أعلن توبته مدعياً أنَّ المسيح قد ظهر له وأخبره بالتعليم الجديد الذي ينبغي على الناس الأخذ به وترك ما عداه، وعلى ذلك تأسست الكنيسة المسيحية وحوربت الطوائف التي تخالف تعليم بولس، وفي الربع الأول من القرن الرابع، سنة 325 عقد اجتماع نيقيا الكنسي للحسم في قضايا الاعتقاد وانتهى بقرار مطاردة أتباع التعليم الأول الذين رفضوا نظرية التثليث التي جاء بها بولس، ورفضوا عقيدة الخلاص بالإيمان دون أعمال، وكانت الأريانية إحدى أهم الفرق المسيحية التي اضطهدت بفعل تشدد الكنيسة آنذاك، وغدا تلاميذها ضحايا للقتل والإحراق والتهجير، وتواصل ذلك حتى في القرون اللاحقة حتى لم يبق منهم إلا مجموعات قليلة في الشرق الأدنى والأوسط.
ومع مجيء الإسلام، كانت المسيحية مُقسَّمة إلى شِقَّين؛ الأول تمثله روما الكاثوليكية وعلى رأسها البابا، والشق الثاني ممثلاً بالكنائس الشرقية بآبائها الأرثوذوكس، وبطبيعة الحال رفضت الكنيسة دين محمد، ومع الوقت أفقدتها الحروب كل ما بقي من روح التسامح التي جاء بها المسيح، وحلت محلها روح الانتقام والطمع في السلطة، وهذا ما يفسر المجازر الوحشية التي تسبَّبت بها الكنيسة في حق الأبرياء في بلاد مختلفة، كمحاكم التفتيش في الأندلس حيث خيّر الناس بين تغيير دينهم وبين القتل والتهجير، ومجازر القتريين في أوروبا، واعتبر كل ذلك حروباً مُقدَّسة على الكفار. وهنا يذكر مصطفى بوهندي أنَّ الإسلام كان مصدر إلهام أساسي للمسيحية، سيما فيما يتعلق بروح التحرر والإبداع، وأسهم بالنتيجة في المراجعة النقدية لكثير من المبادئ المسيحية.
تحقق الحلم اليهودي باستعادة (مملكة إسرائيل) وإقامة دولتها في فلسطين بعد انسحاب بريطانيا سنة 1948، وجاءت بعد ذلك حمى العام 2000م، التي كان يترقبها الملايين من اليهود والمسيحيين؛ حيث إنَّها تؤذن بنهاية الزمان الذي يبنى فيه الهيكل الثالث على أنقاض المسجد الأقصى وينزل المسيح المنتظر ليحكم ألف سنة بين بني إسرائيل وأعدائهم، تلك هي المعتقدات الدينية التي تخللت الثقافة والواقع طيلة القرون الثلاثة الماضية، وفي ظل هذا التوجه التحريضي لخوض المعركة الفاصلة، ضلَّت المسيحية عن أهدافها الأولى، بل لعل النظرية المسيحية اليوم تتنافى كلياً مع ما جاء به المسيح وباقي الأنبياء في كتبهم المقدسة، وتحتاج اليوم إلى قراءة في ضوء هذه الكتب بعيداً عن العنصرية والكراهية التي نجمت عن الحروب، وفي هذه النقاط التي طرحها مصطفى بو هندي تلخص النظرية عبر المرور على أهم عناصرها:
1- أرض الميعاد والشعب المختار: فسرها الإنجليليون الذين تخلوا عن تفسيرات آباء الكنيسة ورجعوا إلى تفسيرات التلمود والمدراش والمدارس اليهودية؛ فأعادوا لنصوص العهدين القديم والجديد تفسيراتها الأرضية، لاسيما بعد النجاحات التي حققتها المسيحية بعد سقوط غرناطة، بينما كان المسيح -عليه السلام- يُبيِّن لبني إسرائيل أنَّ الأرض المورثة هي أرض أخروية يرثها عباد الله الصالحون.
2- أرض إسرائيل: شغلت مسألة المملكة الذهن الإسرائيلي منذ الشتات الأول بعد موسى -عليه السلام- وكبُر انشغالهم بالملك بعد السبي البابلي عندما هَدَم الهيكل وضاع مُلك داود وسليمان، وأصبحت استعادة الملك حُلماً تاريخيًّا منذ ذلك الحين؛ لذلك أعاد الإنجيليون قراءة أسفار العهد القديم، وأنزلوا المملكة من السماء إلى الأرض خلافاً للقراءات الكاثوليكية والأرثوذكسية القديمة.
3- المسيح المنتظر: تحدَّثت النبوءات اليهودية عن المسيح المنتظر وبشَّرت به، وعندما جاء انقسم اليهود بشأنه إلى قسمين: من آمن به وهم النصارى، ومن كفر به ومازال ينتظر غيره، بناءً على أوصاف خاصة وردت في المصادر اليهودية.
4- هرمجدون: وهي موقع المعركة الفاصلة بين الحق والباطل، وفقاً للتفسيرات الكتابية، قبل انتشار السلام العام، وبهرمجدون مُرتفع عظيم تقدم عليه القرابين والذبائح، وفيها بَيْتٌ للآلهة يسمى "بيت ميخا" أو "بيت معكة"، وينبغي له أن يهدم أو يحرق أو تقع فيه معركة بين ملوك مختلفين، ويلاحظ بوهندي أن هذه الأسماء هي تحريف لـ"مكة" أو "بيت مكة"، وأن الصراعات الموصوفة في ذلك المكان تشير إلى أشكال العبادة المختلفة التي تقام فيه.
وأرى أنَّ الأصولية المسيحية، وإن كانت تتميَّز بخصوصية تاريخية مكَّنتها من المرور بأطوار واضحة تركت تجلِّياتها على صعيد الواقع السياسي والاجتماعي عالميًّا، فهي تأخذنا إلى إشكالية الأصولية الإسلامية، وتطرح علينا الأسئلة المعهودة التي تضع الحدود بين ما هو أصيل ومحدث في الدين، وهي إشكالية مزمنة ما دام اختلاف المصادر والتأويلات في تشعّب مستمر.
fatema_ehsan@hotmail.com
