حقوق الإنسان من خلال المواثيق والبيانات الدولية والإسلامية

juliana-7VhAuGB1h58-unsplash.jpg

محمد عبد الواحد العسري |  أستاذ في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بتطوان، المغرب

لقد صدرت كثير من المواثيق والبيانات والإعلانات الدولية والإسلامية لحقوق الإنسان، لتتوج مختلف المجهودات النظرية التي صرفت في إنتاج نصوص الحقوق ذاتها. ولأنه لا يمكننا أن نتطرق إلى جميع هذه النصوص --بالنظر إلى غزارتها وتنوعها وتعددها- فإننا سنكتفي بالإشارة إليها، لا بل إلى أهمها.

يكاد يجمع مؤرخو حقوق الإنسان على النظر في هذه المواثيق والبيانات ضمن التاريخ الغربي بوصفه التاريخ الكلي، وكأنه لا يوجد تاريخ آخر أو تواريخ أخرى غيره(1)؛ لذلك فإنهم يعملون عادة على العودة إلى نصوص مخصوصة في هذا التاريخ؛ ليدرسوها ضمن سياقاته التي سمحت أو بالأحرى أدت إلى إنتاجها. وعلى الجملة فهم يرون  بأن انتهاك حقوق الإنسان في الدول الثيوقراطية الأوروبية -التي حكمها ملوكها وأباطرتها في تحالف مع كنائسها باسم التفويض الإلهي- قد أدت بصفة طبيعية إلى ظهور نصوص دالة في هذه الحقوق، واكبت صراع الإنسان مع أخيه الإنسان لانتزاعها، وطموحه في حمايتها وتحصينها وتوسيعها. هكذا يتم الانطلاق من مؤلفات كل من "توماس هوبز"(2) و"جون لوك"(3) و"جان جاك روسو"(4)؛ لإبراز نقدها للاستبداد وتقعيدها للحق الطبيعي للإنسان، ليتم التركيز بعد ذلك على تناول النصوص التي جاءت لتقنين حقوق الإنسان ولحمايتها. ومن أهمها عندهم ما عبرت عنه التجربة الإنجليزية في هذا المضمار: الماجنا كارتا أو ميثاق الحريات العظيم 1215، وعريضة الحقوق 1628، وإعلان الحقوق 1689، والتجربة الفرنسية ممثلة في: الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن 1789؛ فالتجربة الأمريكية التي يطلق عليها: إعلان الحقوق 1789، وإعلان تحرير العبيد(5) في 1863. ولقد اكتملت عملية تقنين نصوص حقوق الإنسان عندهم في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عن الأمم المتحدة في 1948، الذي عبد ويعبد الطريق لتتمخض عنه مواثيق دولية أخرى(6).

الوثائق والإعلانات الإسلامية لحقوق الإنسان:

 من المعلوم أنه قد صدرت عدة وثائق وإعلانات لتقنين حقوق الإنسان في الإسلام بعد صدور الإعلان العالمي للحقوق ذاتها؛ ونظرًا لأنه لا يمكننا اختزال منظور الإسلام لهذه الحقوق في تاريخه المعاصر، ويتعذر علينا الوقوف على جميع متن النصوص الإسلامية المنتجة لهذا المنظور -بالنظر إلى كثرتها وغزارتها وتعددها وتنوعها- فسنكتفي بالإشارة إليها؛ للتدليل على أن حقوق الإنسان قديمة في الإسلام. صحيح أنها لم ترد في كتبه الفقهية ومدوناته السياسية والأخلاقية بدوالّها ومصطلحاتها وتعبيراتها الحالية؛ غير أن ذلك لا يعني بتاتا أن أهم مضامينها ومدلولاتها وآليات حمايتها وتحصينها قد غابت غيابا كليا عن الإسلام من حيث كونه ديناً سماوياً، وبوصفه حضارة وثقافة في الوقت نفسه (7) والواقع أن دراسات هذا الأمر ما فتئت في بداياتها، وما زال يهيمن عليها الطابع الإيديولوجي. ولعل أهم تناول علمي له ذاك المجهود الذي بذله غانم جواد في كتابه الموسوم: (وثائق حقوق الإنسان في الثقافة الإسلامية) الذي تعقب فيه وثائق هذه الحقوق في هذه الثقافة وجمعها ووثقها وقدم لها وعرضها عرضاً علمياً جاداً ورصيناً، فضلاً عن نشره لمتنها في ملحقه الوثائقي. ولقد اكتسب هذا الكتاب قيمة علمية مضافة في التعقيبات التي تفضَّلَ كلٌّ من صلاح الدين الجورشي و باقر العفيف و نصر حامد أبو زيد بإنتاجها على هذا المجهود العربي الإسلامي في حقوق الإنسان(8) لقد استدل هذا المجهود المتكامل بما فيه الكفاية على أن هذه الحقوق هي حقوق قديمة ومتأصلة في الثقافة العربية الإسلامية، بتوثيقه ودراسته لخمس عشرة وثيقة أصلت لهذه الحقوق على مسافة مجموع تاريخ الإسلام؛ أي من وقت صدور صحيفة المدينة المنورة إلى صدور توصيات ندوة حقوق الإنسان في الإسلام بين الخصوصية والعالمية. وهي الوثائق التي تحفل بدعوة المسلمين إلى التسامح والتعارف وصيانة حق الاختلاف إلى جانب نبذ التعصب ومنع مختلف أشكال انتهاكات حقوق الإنسان. والحق أن القرآن الكريم -كما هو معروف،  وكما جاء في هذا الكتاب- يشكل في كثير من آياته ما يمكن أن نسميه بأول وثيقة تأسيسية لهذه الحقوق، وتليه صحيفة المدينة(9)، ثم وثيقة أبي بكر الصديق(10)، فوثيقة عمر بن الخطاب(11)، ووثيقة علي بن أبي طالب ووصيته لمالك الأشتر(12) ، ووثيقة علي بن الحسين(13)، ووثيقة الماوردي(14) ووثيقة الإمام النائيني(15)، فوثيقة الكواكبي(16). ومن المعروف أنه ستتوالى عملية إنتاج مثل هذه الوثائق التي أعلت من شأن حقوق الإنسان وستتصل وبشكل غير منقطع؛ ممثلة في خلفه من مفكري النهضة العربية الإسلامية؛ من أمثال رفاعة الطهطاوي، وخير الدين التونسي، وجمال الدين الأفغاني، وقاسم أمين، ومحمد عبده، وعلي عبد الرازق من مؤلفات معروفة ومشهورة في هذا المضمار، مثلما ستستمر هذه العملية في مؤلفات من خلفهم من المفكرين المسلمين الذين ذكرناهم سابقا والذين سنحيل عليهم.

وبذلك ظهرت في العالم الإسلامي كتب عديدة، وما يصعب إحصاؤه من مقالات تأثر مؤلفوها بالثقافة والممارسة الحقوقيتين بالعالم الغربي، فراموا توسيع قيم حقوق الإنسان ومبادئها في عالمهم، ضمن منظورهم الإسلامي الخاص لهذه الحقوق؛ بمعنى أنهم وإن أفسحوا المجال لأنفسهم للامتياح من الغرب، فإنهم قد حرصوا على عدم التفريط في ثوابت خصوصيتهم الإسلامية(17). 

 ومن الوثائق الإسلامية في حقوق الإنسان التي تلت هذه الوثائق، تلك التي اتخذت -في شكلها- من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان نموذجاً قننت على منواله منظورها لحقوق الإنسان، ومضمون هذه الحقوق وحدودها وآفاقها. فصدرت بيانات وإعلانات وتوصيات عديدة ومن جهات مختلفة من العالم الإسلامي(18) ولا بأس من ذكر بعضها من باب التدليل على الجهد الذي صرف فيها من أجل صياغة ما توصل إليه العالم الإسلامي من تصوراته عن حقوق الإنسان؛ صياغة تشترك مع صيغة الإعلان العالمي والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان في أشكالها التقنينية للحقوق ذاتها(19). لماذا جاءت كل هذه الإعلانات والبيانات والتوصيات عن هذه الجهات المختلفة من العالم الإسلامي؟ مما لاشك فيه أنها قد استجابت إلى حاجة شعوب هذا العالم إليها للإعلان عن توقه إلى اكتساب حقوقه والإعلان عنها، وتحصينها بمواثيق وبيانات تحاكي في شكلها شكل نظيراتها من المواثيق الغربية المعروفة والمشهورة، وخاصة منها إعلانها العالمي(20). لقد شكلت هذه المواثيق الغربية تحدياً كبيراً للمسلمين؛ خاصة وأنهم قد باتوا يطلعون على ما تعبر عنه وتسهم في ضمانته وحمايته من حقوق بالنسبة لأهلها الغربيين، عبر ثورة الاتصالات الحالية العابرة للأمم والشعوب، ومن خلال معايشة كثير من المسلمين للغربيين في ديارهم. وذلك فضلاً عن أن الغرب أصبح -وكما هو معروف-  لا يقصر في استعمال سلاح عالمية حقوق الإنسان وكونيتها في وجه المسلمين وغيرهم؛ للضغط عليهم وإخضاعهم لمشيئته(21). لذلك راهنت هذه الإعلانات والبيانات على إبراز نديتها لنظيراتها المذكورة؛ بإبرازها إسهام المسلمين في حقوق الإنسان، وبتأكيدها على ما يشترك ويختلف فيه، وفي الوقت نفسه، منظورها الإسلامي لهذه الحقوق مع المنظور الغربي لها، الذي أصبح يسمى اليوم بالمنظور العالمي والكوني لحقوق الإنسان، الذي يصادر حق اختلاف المسلمين وغيرهم معه في هذا المضمار. والواقع أن هذه المواثيق الإسلامية المعاصرة ستُوفّق -كما سنستدل على ذلك- في التعبير عن الخصوصية الثقافية الإسلامية لحقوق الإنسان، وعن استعدادها في الوقت نفسه للانفتاح على الغرب وعلى منجزاته في هذا المجال كما سبق ذكر ذلك.

3. ولمعالجة مختلف هذه القضايا والإشكالات التي تطرحها هذه العلاقة بين المواثيق الغربية لحقوق الإنسان وهذه الإعلانات الإسلامية الأخيرة للحقوق ذاتها؛ فإنه يمكن الاقتصار على تناوُلِ كلٍّ من إعلان القاهرة لحقوق الإنسان والإعلان العالمي للحقوق ذاتها فالواقع أن جميع المواثيق الدولية التي عبرت وواكبت الأجيال الثلاثة لحقوق الإنسان قد انبثقت عن هذا الإعلان، الذي كان قد عَبَّرَ بدوره عما تحصَّل للغرب في هذه الحقوق. كما أن إعلان القاهرة يعبِّر بمضامينه المسماة فيه بالمواد عما تجمع للمسلمين في هذا الموضوع، مثلما يعبر بروحه العامة عن إمكانية متابعة اجتهادهم في توسيع قِيَمِ هذه الحقوق ومبادئها بعالمهم التَّوَّاق إليها.

 

المؤتلف والمختلف فيما بين الإعلان العالمي وإعلان القاهرة لحقوق الإنسان

 

لقد تمت إجازة هذا الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان المعروف بإعلان القاهرة مِنْ قِبَلِ مجلس وزراء خارجية منظمة مؤتمر العالم الإسلامي في الخامس من أغسطس 1990. ولقد جاء في خمس وعشرين مادة إضافةً إلى ديباجته التي تُصرِّح فيه بثوابت مرجعيته الدينية، وتضبطها ضبْطاً محكمًا في علاقتها مع مواده وفقراتها. والناظر فيه سرعان ما تتبدى له وفرة التماثلات والأشباه والنظائر التي تذكر بمواد الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وتتقاطع معها وتلتقي في التأكيد على الحقوق نفسها وعلى المضامين نفسها. غير أن وجود هذه التماثلات لا يعني أبدا بأن هاذين البيانين لم يتميزا فيما بينهما من وجوه عديدة؛ وخاصة من وجهة مرجعيتهما الناظمة لما خولته كل واحدة منهما لموضوعها -أي للإنسان- من حقوق.

ولمعالجة هذا التميز أو هذا الاختلاف المرجعي لننظر أولاً فيما نظن بأنه يختلف بينهما من حقوق، وما غاب منها عن أحدهما وأثبته نظيره سواء العالمي منهما أو الإسلامي(22). والواقع أنه تتوافر اليوم كثير من الأعمال التي عالجت مثل هذه المقارنة، والتي جاء أغلبها في شكل أطروحات علمية أو حقوقية اجتهد أصحابها في اتجاهين رئيسين:

اتجاه رام الدفاع عن أن إعلان القاهرة -مثله مثل بقية الإعلانات والبيانات الإسلامية الأخرى- يتيح لحقوق الإنسان في العالم إمكانية تخويلها الضمانات الدينية والأخلاقية الضرورية لحمايتها وصيانتها، التي يعرى عنها الإعلان العالمي وما ترتب عنه من مواثيق وبيانات أخرى. لذلك فإن أول الإعلانين يستغرق -مثل نظائره الإسلامية الأخرى- جميع حقوق الإنسان ويشتمل عليها؛ لكونه وكونها قد جاءت لتسد الثغرات والنقائص التي تطال الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ومواثيقه الدولية الأخرى. ويمثل هذا الاتجاه كثير من الباحثين والدارسين المسلمين الذين يصعب حصر مجهوداتهم في هذا المضمار(23). ويتميز من بينهم -في نظرنا- المفكر المغربي المعاصر طه عبد الرحمن؛ فلقد خصص لموضوع المقارنة بين الإعلانين المذكورين لحقوق الإنسان الفصل الرابع من كتابه الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري(24).  وكان هدفه يكمن في المقارنة في الواقع بين الحضارتين والثقافتين أو الأمتين على اصطلاحه: الغربية والإسلامية؛ لفحص مدى توافر كل أمة منهما على إمكانية الانفتاح على الأمة الأخرى، ليس اعتمادا على ما درج عليه الناس في الحديث عن مبادئ: "التسامح" و"التعاون"، و"الاعتراف" و"التصويب" بل على مبدأ: "الحياء"؛ الحياء من الله ومن الذات ومن الغير في الوقت نفسه. فالمبادئ الأخرى -على أهميتها- لا تحُول بصفة نهائية بين الأمة وبين إمكانية "توقحها" على أمم أخرى، كما تفعل الأمة الغربية مع الأمة الإسلامية. وذلك في الوقت الذي: "ينبغي لكل واحدة من الأمتين المختلفتين أن تراعي أفكار الأخرى بما لا يخل بمراعاة أحكام الإيمان بالله، حتى تكون مفاهيمها دالة كما ينبغي، وأحكامها صادقة كما ينبغي وقيمها نافعة كما ينبغي"(25) واعتماداً على هذا المبدأ، وعلى فحص حضوره وفعله في كلا الإعلانين بصرامته المنطقية المعهودة عنه، خلص طه عبد الرحمن إلى أن الإعلان العالمي قد قام على "المبدأين التعاونيين: مبدأ التسامح ومبدأ الاعتراف، بينما قامت هذه الحقوق [حقوق الإنسان] في الإعلان الإسلامي أساساً على مبدأين: مبدأ التصويب ومبدأ الحياء". لذلك "فالإعلان الإسلامي أقدر من الإعلان العالمي على حفظ الاختلاف من التصلب وآثاره، وأقدر منه على اتقاء التوقح وشروره ... وبذلك يكون الإعلان الإسلامي لحقوق الإنسان قد ارتقى مرتقى يؤهله إلى أن يجنب الإنسان الكوني شرور وقاحة الاستعلاء"(26).

 وفي مقابل هذا الاتجاه قام ويقوم اتجاه آخر ينافح عن أن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان -وما ترتب عنه من مواثيق دولية أخرى- يشمل جميع حقوق الإنسان ويستغرقها من جميع الجوانب، في الوقت الذي لا يحقق ذلك إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام. ومن المعروف أن هذا الاتجاه يستدل على هذه الأطروحة بأدلة عديدة، ولعل أهم دليل منها هو دليل تقييد هذا الإعلان لحقوق الإنسان بالشريعة الإسلامية، ودليل افتقاره إلى حقوق أساسية للإنسان في نظره؛ من مثل: حق تدبير حرية الضمير أو المعتقد الديني، وحق تدبير الجنس  وتأسيس الأسر خارج أي قيد أو شرط؛ اعتماداً علي كونها حقوقا طبيعية للإنسان لا يمكن تسييجها بأية خصوصية ثقافية أو دينية أو رهنها بها(27) لقد أضحت هذه الأطروحة معروفة ومشهورة اليوم في العالم الإسلامي. ويمكن التمثيل عليها بدراسة إليزابيت ميير ودراسة هاينر بيلفيلدت(28) ويمكن أن نضيف إليهما دراسة سامي الديب التي تمثل خير تمثيل وقاحة وتوقح الدراسات الغربية في هذا المضمار العارية تماما عن مبدأ الحياء، الذي نستعيره من طه عبد الرحمن(29). لقد استصدرت -كما هو معروف- هذه الأطروحة من المسلمين أبحاثا ودراسات في حقوق الإنسان، تشترك فيما بينها في رفض مثل هذا الزعم، والرد عليه بتأصيل هذه الحقوق ضمن مرجعيتها الإسلامية، التي لا ترفض تماما الانفتاح على المرجعية العالمية أو الكونية أو بالأحرى الغربية، والامتياح منها فيما لا يعارض معارضة صلبة أسس ثوابتها بطبيعة الحال(30)

وبالفعل فإن إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان والإعلان العالمي للحقوق ذاتها يختلفان بصفة جذرية وصلبة في النظر إلى هذه الحقوق المتعلقة بحق حرية الضمير وحق تأسيس الأسر، المطلقين في ثاني هاذين الإعلانين والمقيدين في أولهما.  غير أنهما يختلفان كذلك فيما أثبته كل واحد منهما من حقوق أو عرى عنها، أو ما قدمه في شكل معمم أو مخصص، أو مجمل أو مفصل إلخ...(31)

 

 فالإعلان العالمي يخلو من حق الشعوب في استقلالها وتقرير مصيرها، مما يرهن ادعاءه الكونية ويعصف بها، في الوقت الذي ينص فيه بيان القاهرة لحقوق الإنسان على هذا الحق ويثبته بقسم: ب من مادة 11 المتعلقة بحق الحرية على هذا الشكل: "الاستعمار بشتى أنواعه وباعتباره من أسوأ أنواع الاستعباد محرم تحريماً مؤكداً، وللشعوب التي تعانيه الحق الكامل للتحرر منه وفي تقرير المصير، وعلى جميع الدول والشعوب واجب النصرة لها في كفاحها لتصفية كل أشكال الاستعمار أو الاحتلال، ولجميع الشعوب الحق في الاحتفاظ بشخصيتها المستقلة والسيطرة على ثرواتها ومواردها الطبيعية(32)". ولا عجب أن يعرى الإعلان العالمي عن هذا الحق وهو الذي جاء في الوقت الذي كانت فيه أغلب الدول الغربية المنتجة له تجتهد في الإبقاء على مستعمراتها عبر أرجاء المعمور. كما أنه لا غرو أن ينص إعلان القاهرة -وغيره من البيانات الإسلامية عن حقوق الإنسان- على هذا الحق؛ لأنه أولا مبدأ إسلامي أصيل، يفرض على كل إنسان أن يسعى إلى صيانة حريته التي فطره الله عليها، وأن يدافع عنها ويناصر جميع من يتشبثون بها(33)

كما أن الإعلان العالمي ذاته يعرى كذلك من أي ذكر لحقوق الوالدين، والأقارب والأرحام، وحق الجنين وحق الميت، بينما ينص إعلان القاهرة على كل هذه الحقوق بهذه الصيغ: "لكل إنسان حرمته والحفاظ على سمعته في حياته وبعد موته وعلى الدول والمجتمع حماية جثمانه ومدفنه". المادة 4. "لكل طفل عند ولادته حق على الأبوين والمجتمع والدولة في الحضانة والتربية والرعاية المادية والصحية والأدبية كما تجب حماية الجنين والأم وإعطاؤهما عناية خاصة" المادة 7.أ. للأبوين على الأبناء حقوقهما وللأقارب حق علي ذويهم وفقا لأحكام الشريعة. المادة 11. ج(34).

 

الاختلافات الصلبة فيما بين الإعلانات والبيانات العالمية والإسلامية لحقوق الإنسان: حقوق المرأة وحقوق الاختلاف الديني.

وفيما خلا هذه الفروق بين الإعلان العالمي وإعلان القاهرة وغيره من البيانات الإسلامية لحقوق الإنسان؛ فإن حق تكوين الأسرة وحق حرية الضمير أو الحرية الدينية يُعدَّان من الحقوق التي تشكل بؤرة الخلاف بين مجموع هذه الإعلانات والبيانات.

 

حق المرأة في اختيار زوجها

فعلى الرغم من أن إعلان القاهرة قد تفادى ذكر الدين في إثباته لأول هذين الحقين وفي تعبيره عنه بهذه الصيغة: "الأسرة هي الأساس في بناء المجتمع، والزواج أساس تكوينها، وللرجال والنساء الحق في الزواج، ولا تحول دون تمتعهم بهذا الحق قيود منشؤها العرق أو اللون أو الجنسية. المادة". المادة: 5 أ، فإن روحه العامة لا تسمح بإمكان زواج المسلمة بغير المسلم. وذلك لتنصيصه في مادته الأخيرة رقم 25، على أن: "الشريعة الإسلامية هي المرجع الوحيد لتفسير أو توضيح أي مادة من مواد هذه الوثيقة". ومن المعلوم أن فقهاء هذه الشريعة لا يقبلون هذه الإمكانية بل إنهم يكادون لا يفكرون فيها قط(35). وذلك في الوقت الذي ينص الإعلان العالمي بخصوص هذا الحق على أن الدين لا يجوز له أن يشكل أي قيد ومن أي نوع فيه: "للرجل والمرأة -متى أدركا سن البلوغ- حق التزوج وتأسيس أسرة، دون أي قيد بسبب العرق أو الجنسية أو الدين، وهما متساويان في الحقوق لدى التزوج وخلال قيام الزواج ولدى انحلاله". المادة 16. 1. لذلك فإن كثيرا من الحقوقيين يرون في هذا القيد أو في عدم صحة زواج المسلمة بغير المسلم تمييزا ضد المرأة، ويدعون إلى القضاء عليه وفق اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة(36) وهي الاتفاقية التي تجعل بعض البلاد الإسلامية التي صادقت عليها في حرج شديد؛ لكونها لا تستطيع تنزيل هذا الأمر وتنفيذه في مجتمعاتها التي تستقبحه وتستنكره بالنظر إلى خصوصيتها الثقافية(37). وهي الخصوصية ذاتها الذي عبر عنها بكل وضوح البيان العالمي عن حقوق الإنسان في الإسلام وقننها بكل مسؤولية بالصيغة التالية:  "الزواج - بإطاره الإسلامي - حق لكل إنسان، وهو الطريق الشرعي لبناء الأسرة وإنجاب الذرية، وإعفاف النفس: "يأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء (النساء: 1). 19.

 وكما هو معروف، فإن هذا الأمر ليس إلا واحدا من المشكلات التي تستثمر عادة وتوظف من أجل إثارة الشبهات حول حقوق المرأة في الإسلام المتعلقة بقضايا: المساواة بين الرجل والمرأة في الشهادة والإرث وتعدد الزوجات بالنسبة للرجل... إلخ. والواقع أن هذه القضايا قد ألحت على كثير من مفكري الأمة الإسلامية وعلمائها؛ الذين ما زالوا ينتجون فيها كثيرا من الأبحاث والدراسات في العالم الإسلامي، تتوزع بين المحافظين والمجددين والمنغلقين والمنفتحين. فالمحافظون منهم يحاولون دائما- وبواسطة تأويلهم الذكوري للشريعة الإسلامية- التضييق على المرأة  المسلمة وعلى حقوقها، باسم خوفهم على هويتهم الثقافية وقلقهم عليها. بينما يجتهد المجددون منهم -من خلال قراءات تأويلية للإسلام ولتاريخه ولشريعته- في رفع هذا التضييق وتوسيع قيم تحرر هذه المرأة؛ ما دام ذلك لا يشكل لهم أي خوف ولا أدنى قلق على هذه الهوية ذاتها(38)

 

حق المرء في اختيار دينه

 

 من الحقوق الفردية التي تعرف اليوم جدلاً قوياً ومتنامياً بين أوساط كثير من الحقوقيين والعلماء بالعالم الإسلامي: حق حرية اختيار الدين والتعبد به، بمعنى حق ممارسة فروضه وشعائره وتعليمه والدعوة إليه إلخ. ومن المعلوم أن هذا الحق كان من الحقوق المهضومة والمصادرة في الدول الغربية الأوروبية الثيوقراطية التي كانت تحمل رعاياها على دين ملوكها، الذين كانوا يحكمونها باسم التفويض الإلهي(39) وذلك في الوقت الذي كانت فيه جل البلاد الإسلامية تضمن هذا الحق لجميع رعاياها على اختلاف انتماءاتهم الدينية والمذهبية وتنوعها؛ إلى الحد الذي جعل فولتير يعير أوروبة بالخلافة العثمانية، ويدعوها إلى تمثل نموذج هذه الإمبراطورية في تدبيرها التسامح الديني وضمان الحرية الدينية لجميع المنضوين تحت ألويتها(40)  لذلك ستهتم أوروبة الغربية، وجميع الدول التي ستنحو نحوها بهذا الحق، وبالعمل على ترسيخه من بعدما انتقلت من نظام الدولة الدينية إلى نظام الدولة المدنية.

فلا غرو إذاً إن نص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان عليه في المادة 18: "لكل شخص حق في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه أو معتقده، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة". وهو الحق ذاته الذي سينص عليه إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان في الإسلام بالمادة رقم 10: "الإسلام هو دين الفطرة، ولا يجوز ممارسة أي لون من الإكراه على الإنسان أو استغلال فقره أو جهله على تغيير دينه إلى دين آخر أو إلى الإلحاد". وكذلك البيان العالمي لحقوق الإنسان في الإسلام فقد نص بدوره في المادة: 13 على أنه: "لكل شخص حرية الاعتقاد، وحرية العبادة وفقا لمعتقده: "لكم دينكم ولي دين" (الكافرون: 6). وإن كان هذا الإعلان وذاك البيان الإسلاميان قد سكتا عن إمكانية تغيير المرء لدينه، أو عن حق تغيير المسلم لدينه، فإنه لا يمكن أن نستنتج من روحهما العامة مثل هذه الإمكانية أو هذا "الحق"(41)

المنظور الإسلامي لحق الحرية الدينية

 لقد أصل المسلمون -على مختلف مذاهبهم الفقهية- تجاه المسلم الذي يغير دينه حكما فقهيا معروفا بعقوبة حد الردة(42)، على الرغم من أن الردة ذاتها لم تتفش بينهم أبدا، ولا نكاد -من الناحية العملية-  نقف في تاريخهم العقدي على آثار دالة عليها. ولقد عاد هذا الأمر ليشكل للمسلمين اليوم إشكالا حضاريا عويصا عليهم أن يرفعوه؛ بإعمال النظر في جميع مشكلاته الروحية والتشريعية والقانونية والحقوقية المتشعبة والمعقدة. وذلك فضلا عن أنه قد أضحى اليوم تعلة بين أيادي أعداء الإسلام ومختلف الحقوقيين بالعالم -عن حسن نية وعن سوئها- لاتهام الدول الإسلامية بانتهاك هذا "الحق"، وممارسة جميع أشكال الضغوط السياسية والاقتصادية عليها(43).  لذلك تعج ساحة الأمة الإسلامية اليوم بكثير من الفقهاء والعلماء والمفكرين والحقوقيين الذين ينتجون فتاوى وآراء مختلفة ومتضاربة في إمكانية خروج المسلم من دينه أو تغييره بدين آخر من عدمهما.  والواقع أنه يمكننا إرجاع مختلف هذه الفتاوى والمواقف إلى اتجاهين رئيسين يستقطبان أهم مضامينها وأقوى استدلالاتها.

  1. أولهما اجتهد في إعادة إنتاج الحكم الفقهي المعروف في تاريخ الإسلام بالنسبة للمسلم الذي يرتد عن إسلامه، سواء أكان مسلما بصفة ابتدائية أم دخل في الإسلام عن طواعية. فلا يحق له أبدا الخروج من هذا الدين إلى الإلحاد أو للدخول في دين آخر؛ لأنه يتعدى بذلك حدود الله، مما يستلزم من المسلمين إقامة الحد عليه بقتله بعد استتبابته بطبيعة الحال. ولقد استدل هذا الاتجاه على دعواه برجوعه إلى القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وإجماع المسلمين؛ فمن منظوره -وعلى حسب فهمه- فالقرآن قد أمر المسلمين بقتل المرتدين في قوله عز وجل: {ستُدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون} (الفتح: 16)(44) والأمر نفسه نقف عليه بالسنة الشريفة؛ حيث روى البخاري أنه صلى الله عليه وسلم قد قال: "من بدل دينه فاقتلوه". كما أنه قد قال: "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: ... والتارك لدينه المفارق للجماعة". فضلا عن أنه صلى الله عليه وسلم أمر بقتل أناس كانوا قد ارتدوا عن الإسلام، ومن المعروف أن كثيرا من أئمة المسلمين(45) يرون أن الإجماع على قتل المرتد قد حصل استنادا منهم على قتال أبي بكر المرتدين من غير نكير من الصحابة عليه(46).

 

  1.  وإن كان هذا الاتجاه هو الاتجاه الذي قد استقطب -وما فتئ يستقطب الأغلبية الساحقة من المسلمين الذين ما زالوا يستميتون في الانتصار له، فإننا لم نعدم سابقا ولا نعدم اليوم أصواتا تشكل اتجاها آخر يرى من جهته بأن الإسلام لم يقرر أي حد للمرتدين عنه. وبطبيعة الحال فإن أهله لم يعجزوا عن استنباط أدلة كثيرة بالرجوع بدورهم إلى مصادر الاتجاه الذي يخالفونهم الرأي والموقف نفسه. فالقرآن الكريم لم يأمر عندهم بقتل المرتد حدا، ما دام قد ضمن لجميع الناس حريتهم الدينية بمنطوق الآيات التالية ودلالتها القطعية، وبروحها العامة، ومن حيث كونه تعبيرا عن الإسلام عقيدة وشريعة... إلخ.: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} (البقرة: 256)؛  {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا} (الكهف: 29)؛{وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} (يونس: 99). فلا معنى أبدا في القرآن الكريم أن يكون المرء مسلما، أو أن يبقى في الإسلام عن كراهية؛ بل لا يكون مسلما ولا يبقى فيه إلا عن طواعية واستحقاق.

ولم يثبت في السُّنة أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد أمر بقتل أحد لوصف الردة، وما قتل أحدٌ من المرتدين على عهده، والذين قتلوا قد قتلوا بناء على حد الحرابة وليس لخروجهم من الإسلام؛ بل لكونهم قد خرجوا عليه والتحقوا بأعدائه أو تعدوا على أهله(47) أما حديث: "من بدل دينه فاقتلوه"، فإنه من أحاديث الآحاد الظنية الثبوت، التي لا يمكنها -بحسب قواعد ومقتضيات أصول الدين في الإسلام- نسخ آية: {لا إكراه في الدين} وتأسيس حكم عقدي؛ لكون هذا الحكم يقتضي -بحسب المقتضيات نفسها- أن يقوم على القطع وليس على الظن.

كما أن حروب الردة المعروفة -والتي استند إليها كذلك إجماع المسلمين على قتل المرتد حداً- لم تكن في ذاتها حادثة ردة عادية، بل كانت خروجاً على خليفة المسلمين أبي بكر رضي الله عنه، وتهديداً مبكراً للدولة الإسلامية في بداية تكونها(48)

  1. ولعل أبرز من يمثل اليوم هذا الاتجاه الذي يرى بأن الإسلام -من حيث كونه عقيدة وشريعة- لم يفرض حداً أو عقوبة دنيوية على المسلم الذي قد يخرج من دينه إلى دين آخر أو إلى الإلحاد: طه جابر العلواني، بالإضافة إلى ثلة أخرى من المفكرين الإسلاميين(49). فلقد استفرغ جهده للمنافحة على هذه الدعوى متوسلا بالقرآن الكريم وبالسنة النبوية الشريفة؛ وخاصة تجربته صلى الله عليه وسلم في التعاطي مع المرتدين والخارجين عن الإسلام والمسلمين وعليهما في الوقت نفسه. كما رجع كذلك إلى تاريخ الإسلام بما فيه التاريخ المعاصر؛ لينتهي إلى أن جميع الآيات التي يستدل بها عادة على كفر المرتد قد جاءت لتحث المسلمين على التشبث بدينهم؛ لأنها تتوعد المرتد منهم بوعيد أخروي شنيع "لترديه في حمأة الكفر"، غير أنها لا ترتب عليه عقوبة دنيوية صريحة(50). {وما كان ربك نسيا} (مريم: 64). كما انتهى كذلك وفي المقابل إلى أن: "حرية الاعتقاد مقصد مهم من مقاصد الشريعة"، ولقد وجد في الآية: {لا إكراه في الدين} وفي غيرها من نظيراتها وفي تفسيراتها بالنظر إلى أسباب نزولها ، التي يتبين فيها بوضوح أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأذن لأحد صحابته بإكراه ابنين له على الإسلام وإجبارهما على الردة عن النصرانية التي كانا عليها(51). وفضلا عن كل هذا وذاك فإن الشارع عز وجل لم يفرض حداً على المرتد؛ لأن "الحدود كفارات مطهرات فيها معنى "التزكية والتطهير" إضافة إلى التأديب، والمرتد غير جدير بشيء من ذلك في الدنيا"(52).

 

اختلاف المرجعيات: الاستخلاف الإلهي في مقابل الحق الطبيعي

 

بعدما وقفنا على مجمل الاختلافات الحاصلة بين الإعلان العالمي وإعلان القاهرة وغيره من البيانات الإسلامية لحقوق الإنسان، وخاصة ما تعلق منها ببعض قضايا المرأة وإشكالات تدبير الحق في حرية الاعتقاد والتدين. ومن بعدما عملنا على تسطيرها ودراستها، فلقد بات علينا الآن أن نحاول فهم هذه الاختلافات بإرجاعها إلى مصادرها الأساسية الكامنة في تأصيل كل من المرجعية الإسلامية والمرجعية الغربية للحق، وفي منظوريهما إليه، وفي تقنينهما وتعبيرهما عنه.

1 يتعلق الأمر بالمرجعية الدينية الإسلامية المتمثلة في القرآن الكريم والسنة النبوية واجتهادات علماء الإسلام وفقهائهم، فضلا عن التجربة التاريخية للمسلمين، وبالموقع الذي يحتله الإنسان داخلها في علاقته مع ربه خالقه وواهبه لإنسانيته، ومع نفسه ومع إخوته في الإنسانية... إلخ والواقع  أنه يمكن رد جميع هذه الروافد المشكلة لهاته المرجعية إلى أسها الذي سمح بوجودها وانتظمها؛ الذي ليس هو إلا الاستخلاف الإلهي للإنسان في كونه. فحقوق الإنسان في الإسلام تعود إلى مقتضيات هذا الاستخلاف، التي لم يَحِدْ عنها إعلان القاهرة وغيره من البيانات الإسلامية لحقوق الإنسان.

 

2-  والأمر ذاته يتعلق بالمرجعية الغربية بمقوماتها النظرية المتجدرة في فكرة القانون الطبيعي ذات الأصول اليونانية القديمة، ونظرية العقد الاجتماعي التي بشر بها طوماس هوبز وجون لوك وجان جاك روسو… إلخ، ومبدأ المنفعة في مشروع التنوير الغربي، إلى جانب فكرة الحرية ونظريتها، التي تجد جذورها في التجربة التاريخية للغرب وهو ينتزع حقوق الإنسان من أباطرته وملوكه ومن تحالف الكنيسة معهم، ويعبر عنها ويفرضها. والواقع كذلك أنه يمكن إرجاع جميع هذه الروافد إلى نظرية الحق الطبيعي، بوصفها أصل حقوق الإنسان التي سيعبر عنها ويقننها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية للحقوق ذاتها(53) 

  لنبدأ بإبراز أهم الخطوط العريضة المميزة لنظرية الحق الطبيعي، علماً بأن مفهوم الاستخلاف قد سبقها في الظهور وفي التأصيل لحقوق الإنسان. تقوم هذه النظرية على ما افترضه أقطاب الفكر السياسي الحديث في أروبا فيما بين القرن السابع عشر والثامن عشر من وجود حالة طبيعية مرتبطة بظهور الإنسان بوصفه نوعا من المخلوقات؛ فللإنسان في ذاته -ومن حيث هو كذلك- طبيعة ابتدائية سابقة عن تشكيله للتنظيمات الاجتماعية وللسلطات السياسية، التي من الممكن أن تنتهك حقوقه المسجلة في هذه الطبيعة، والضاربة لجذورها فيها وفي الطبيعة العامة التي تندرج ضمنها طبيعته الخاصة. وهكذا، فإن أفراد النوع البشري قد أوجدتهم هذه الطبيعة أحرارا في أفعالهم وممتلكاتهم، وبحسب قوانينها التي لم تميز بينهم. وبذلك كانت الحرية هي أول حق للإنسان. وهو الحق الذي ارتبط به حق المساواة وتداخل معه وتركب في نشأته الأولى(54). وبذلك فالناس أحرار ومتساوون في حالتهم الطبيعية؛ إلا أنهم لا يمكنهم المحافظة على هذين الحقين وعلى ما يترتب عنهما من حقوق أخرى عند انتقالهم إلى حالتهم المدنية للعيش جنبا إلى جنب ضمن المجتمعات والدول، من دون عقد اجتماعي يضبط ذلك ويدبره ويقننه(55).

لذلك جاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان مترجما لهذه النظرية في تسطيره لهذه الحقوق وتعبيره عنها، ووفيا لمقتضياتها ولروحها العامة؛ بحيث لم يفسح المجال لتدخل أي مصدر آخر -ديني أو غير ديني- في عملية تأصيل الحقوق ذاتها، إلى حد كاد يختزل معه الإنسان في بعده الطبيعي أو الطيني، بإلحاحه على رغباته وتطلعاته المادية والسياسية والقانونية وتبئيرها(56). ومن أجل ذلك لم يهتم هذا الإعلان بالأبعاد، ومهلاً البُعد الروحية والدينية للإنسان، أو بالأحرى لم يهتم بها بالقدر الذي اهتم به بأبعاده الطبيعية؛ مضحيا بذلك بالتوازن بين جميع هذه الأبعاد الذي يجعل من الإنسان إنسانا، ويميزه عن بقية المخلوقات الأخرى. وهكذا فإن هذا الإعلان لم يتقيد بأي قيد في ديباجته أو في مواده العديدة التي تنطلق من مادته الأولى وترجع إليها، إلا بقيد الطبيعة، ولم يستمع إلا إلى صوتها. وهي المادة التي تعكس بوضوح نظرية الحق الطبيعي وتعبر عنها: "يولد جميع الناس أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وُهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعامل بعضهم بعضا بروح الإخاء".

 

 وعلى العكس من ذلك فإن إعلان القاهرة وغيره من البيانات الإسلامية الأخرى لحقوق الإنسان -باستنادها إلى مرجعية الاستخلاف الإلهي- قد انفتحت على البعد الروحي والديني للإنسان من دون أية تضحية ببعده الطبيعي أو الترابي؛ بل بتناغمٍ بينهما يعكس حقيقة الإنسان المعني بهذه الحقوق. ولعل ذلك هو ما يؤهلها للإسهام في مراجعة "الإعلانات والمواثيق الدولية الخاصة بالحقوق الإنسانية مراجعة موضوعية؛ لسد الثغرات الموجودة فيها وتعويض ما جاء فيها من نقص"(57)، ما دامت حقوق الإنسان كما أوضحنا سابقا مشروعا غير منتهٍ ومَشْغلاً مفتوحا على الاقتراح والترقي والتطوير، الذي ينبغي أن تسهم فيه جميع الثقافات القادرة على ذلك.

ومفهوم الاستخلاف هو مفهوم قرآني بالدرجة الأولى؛ بحيث إنه قد ورد -كما هو معلوم- في آيات عديدة موزعة بين جملة من سور الذكر الحكيم(58)؛ من مثل: {وعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} (النور 55 )، {آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} (الحديد 7)، {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْاَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ}(ص 26) {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْاَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} (القصص 5). والاستخلاف هو هم المفهوم الذي يجيب على جميع الأسئلة الوجودية والماورائية التي لم ينفك الإنسان عن طرحها، والتي ضمنها تأتي أسئلة خلقه وماهيته ونشأته وحياته ومصيره ومعاده، التي لا تعرى عنها أسئلة حقوقه وواجباته(59). والواقع أن مفهوم الاستخلاف هو المفهوم الذي يؤسس -كما تبين من الآيات المذكورة- الدين أصلا؛ أي العلاقة بين الله والإنسان، التي تأتي ضمنها حقوقهما. وذلك بمقتضى الميثاق الجامع بينهما ،كما عبرت عنه الآية: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آَدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ}(الأعراف.172).

فبمقتضى هذا الميثاق المتعلق بالاستخلاف وبخلق الله عز وجل لآدم عليه السلام خول سبحانه وتعالى للإنسان كافة حقوقه، في مقابل التزامه به؛ أي بالميثاق. كيف ذلك؟ {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ} (الأنعام2)، {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ} (31). (الحجر)، { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30) وَعَلَّمَ آَدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31)} (البقرة). فالله سبحانه قد خلق الإنسان من طين؛ غير أنه نفخ فيه من روحه، ليستحق جميع حقوقه من لدنه بموجب هذه النفخة الإلهية؛ فهي حقوق تصدر عن معين كل الحق، الذي ليس سوى الحق عينه: الله. ألم يُسمِّ الله نفسه بالحق في أسمائه الحسنى؟ بلى.

1.4. فلا غرو إذًا إن استجابت حقوق الإنسان -في إعلان القاهرة والبيانات الإسلامية الأخرى للحقوق ذاتها- لأبعاد النفخة الإلهية في الإنسان، وتقيدت بها؛ ليستحقها المعني بها بمقتضيات الميثاق الذي جمع بينه وبين خالقه الذي وهبها له. ولا يعني هذا بأن ذاك الإعلان وهذه البيانات الإسلامية قد أهملت البعد الطيني للإنسان في تسطيرها لحقوقه، بقدر ما يعني بأنها لم تختزلها فيه وفيه فقط(60)؛ بحيث جعلتها حقوقا تحقق التوازن والتناغم بين جميع أبعاد الإنسان من حيث كونه إنسانا، وليس مجرد رغبات وتطلعات مادية وجسدية وسياسية وقانونية؛ قد تجرفه إلى خرق الميثاق المذكور، واختراع حقوق منافية للفطرة التي فطره الله عليها(61).

لكل هذه الدواعي لم يكل إعلان القاهرة عن التنبيه  بأن: "كل الحقوق والحريات المقررة في هذا الإعلان مقيدة بأحكام الشريعة الإسلامية". المادة 24. وبأن: "الشريعة الإسلامية هي المرجع الوحيد لتفسير أو توضيح أي مادة من مواد هذه الوثيقة". المادة 25. كما لم يقصر البيان العالمي عن حقوق الإنسان في الإسلام عن التنبيه بدوره في ديباجته على هذا الأمر: "إن حقوق الإنسان في الإسلام ليست منحة من ملك أو حاكم، أو قرار صادرا عن سلطة أو منظمة دولية؛ وإنما هي حقوق ملزمة بحكم مصدرها الإلهي، لا تقبل الحذف ولا النسخ ولا التعطيل، ولا يسمح بالاعتداء عليها، ولا يجوز التنازل عنها … إنها حقوق شرعها الخالق - سبحانه - فليس من حق بشر - كائنا من كان - أن يعطلها، أو يعتدي عليها، ولا تسقط حصانتها الذاتية، لا بإرادة الفرد تنازلا عنها، ولا بإرادة المجتمع ممثلا فيما يقيمه من مؤسسات أيا كانت طبيعتها، وكيفما كانت السلطات التي تخولها"(62). كما أن هذا الإعلان ذاته قد انتظمه هاجس التأصيل الديني لحقوق الإنسان وهيمن عليه بحيث إنه قد استدل على حقية هذه الحقوق بكثير من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة. فحقوق المساواة بين الناس جميعا ترجع إلى وحدة أصلهم الإنساني المشترك التي عبرت عنه الآية 13 من سورة الحجرات: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى"، مثلما عبرت عنه خطبة حجة الوداع: "كلكم لآدم وآدم من تراب ... ولا فضل لعربي على عجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى". وحقوق كرامتهم عبرت عنها الآية السبعون من سورة الإسراء. "ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا".

 

الخاتمة:

                 وجماع القول: فلعلنا قد أجبنا عن مختلف الأسئلة التي طرحناها في هذا البحث، أو على الأقل لعلنا نكون قد لامسنا الجواب عنها، أو قد قدمنا عناصر من شأنها أن تجيب عنها، وأن تغني إشكالها المتعلق بمسألة كونية حقوق الإنسان من خصوصيتها. يتعلق الأمر من جهة بالكونية التي يزعمها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لنفسه وللمواثيق التي تلته. كما يتعلق من جهة ثانية بالخصوصية الدينية والثقافية التي يتشبتْ بها كل من إعلان القاهرة وغيره من البيانات الإسلامية للحقوق ذاتها. وهي الخصوصية التي قد تسهم في تجاوز القصور الذي يطال الإعلان العالمي وما ترتب عنه من مواثيق وفي ترشيدها وتحسينها؛ بحثا عن الكونية التي تعتمد الاختلاف والتعدد الذي لا يهم -في الواقع- الإسلام والمسلمين فحسب؛ بل جميع الناس ومختلف الثقافات المتنوعة. لذلك بينا كيف تغيب عن الإعلان العالمي والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان حقوقٌ أصرت الإعلانات والبيانات الإسلامية لحقوق الإنسان على العناية بها وتأصيلها، من مثل حقوق الوالدين والأرحام، والأجنة والموتى، وحقوق المقاومة ونصرة الشعوب لاستعادة حريتها والمستضعفين في الأرض... إلخ. ولذلك عملنا على ضبط جميع أوجه الاتفاق المحمود بين كل هذه الإعلانات والبيانات العالمية والإسلامية، وإبراز جل مظاهر الاختلاف الصلب، بينهما المتمثلة في منظوريها المتدافعين لحقوق المرأة وحقوق الحرية الدينية. كما عملنا على تأصيل مختلف هذه الإعلانات والبيانات ضمن أصولها التاريخية والفكرية العامة، مع دراسة لمختلف النصوص والوثائق التي سبقتها ومهدت لظهورها. ولقد تبين لنا بأنه لا يمكن للإعلان العالمي وللمواثيق العالمية التي تلته أن تكون كونية؛ لاقتصارها على تأصيل حقوق الإنسان فيها على نظرية الحق الطبيعي التي لا تلتفت إلا إلى البعد الطيني للإنسان؛ كما اتضح لنا بأن إعلان القاهرة والبيانات الإسلامية الأخرى لحقوق الإنسان تتضمن إمكانيات واسعة لكي تطمح إلى تحقيق الكونية المنشودة لحقوق الإنسان، لاستنادها في تأصيل هذه الحقوق على مفهوم الاستخلاف الذي يجعلها تنظر للإنسان في ضوء أبعاده الدينية وغيرها من أبعاده الأخرى.

 ولرب معترض قد يعترض مدعياً بأنه كيف يمكن لهذه الإعلانات والبيانات الإسلامية لحقوق الإنسان أن تطمح إلى تجاوز القصور البين في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق العالمية التي نتجت عنه، والحال أنها لم تأت إلا بعده وبعدها، وكرد فعل عليه وعليها؟ ولرب معترض آخر قد يعترض بدعوى أنه لا يمكن لهذه الإعلانات والبيانات الإسلامية أن تطمع في هذا المطمح وهي التي لم تستطع أن تحول بين الإنسان وبين انتهاك حقوقه بالعالم الإسلامي؟ لذلك فإننا نوصي:

أولاً: بضرورة متابعة الدراسات والأبحاث التي من شأنها أن تبرهن من جديد على أن الثقافة الإسلامية -بمكونها الديني الذي ينتظم نسقها العام وبروافدها الأخرى المتعددة والمتنوعة- قد أسهمت -مثل ثقافات أخرى عديدة- بقسطها في تأصيل حقوق الإنسان والدفاع عنها عبر تاريخها الطويل.

ثانياً: ضرورة متابعة الأبحاث والدراسات وعقد الندوات والمؤتمرات في موضوع حقوق الإنسان، من حيث كونه مشغلا مفتوحا على الاقتراحات والاجتهادات، وفتح المجال أمام المنظمات والهيئات الحقوقية بالعالم الإسلامي للعمل على نشر ثقافة حقوق الإنسان بين المسلمين، والإسهام في تمكينهم من حقوقهم وتحصينها.

ثالثا: ضرورة الانفتاح على أهل الغرب وعلى جميع الناس بثقافاتهم المتعددة للدخول معهم في حوارات بناءة عن حقوق الإنسان بقصد تبادل المعارف والخبرات فيها؛ لتنمية المشترك بينها في هذا الموضوع وتليين المختلف منه، ضمن واجبات الاستخلاف على تقع على كاهل الأمة الإسلامية، والإنسانية جمعاء.

المراجع والمصادر والهوامش:

  1. يراجع في نقد التصور الغربي للتاريخ: سالم يافوت،  الزمان التاريخي. من التاريخ الكلي إلى التواريخ الفعلية، بيروت، 1999.
  2. انظر: [Thomas Hobbes (1588 - 1679 ), Léviathan, traduction François Tricaud, Paris, Dalloz, 1971. ]
  3. انظر: [John Locke (1632 - 1704), Lettre sur la tolérance, Editions ressources, 1980. ]
  4. انظر: [John Locke (1632 - 1704), Lettre sur la tolérance, Editions ressources, 1980. ]

يراجع دور هؤلاء المفكرين في التبشير بنظرية الحق الغربية: محمد عبد الواحد العسري، "المجتمع المدني في الإسلام: أسئلة الدين والدولة والحقوق والحريات"، بحوث مؤتمر مكة الثالث عشر، المجتمع المسلم: الثوابت والمتغيرات، تنظيم رابطة العالم الإسلامي، أم الجود، مكة المكرمة، 4-5/12/1433 الموافق: 20-21/10/2012. ج. الثاني، 412-414.

  1. تراجع للاطلاع على هذه النصوص دراستها من طرف  محمد يونس التي تمثل خير تمثيل التناول الغربي والمتغرب لتاريخ حقوق الإنسان، التي تختزله في تاريخه الغربي، من دون أدنى إشارة إلى تواريخه الأخرى، التي منها تاريخه العربي الإسلامي. - محمد يونس، موجز تاريخ الحرية: قصة ميلاد حقوق الإنسان والمواطن، مركز القاهرة لدراسة حقوق الإنسان، سلسلة تعليم حقوق الإنسان، 24، القاهرة، 2011. - تراجع كذلك المراجع التالية في التاريخ العام لحقوق الإنسان: انظر: [Laqueur Walter. & BARRY Rubin, Anthologie des droits de l'homme, traduction T. PIELAT, Manille, Nouveaux Horizons, Paris, 1989.] – [  Villey  Michel, Droit et les droits de l'homme, édition Quadrige, Paris,  2008.] – [Mourgeon Jacques, Les Droits de l'homme, Paris, P.U.F., Coll. Que sais-je?, 7ème édition, 1990.]
  2. ومنها: العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية،  والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية  الصادرين عن الأمم المتحدة، في 16 ديسمبر 1966.
  3. لذلك فإنه لا يصح عندنا زعم هذا الغياب تأسيساً على ما هو ثابت في تاريخ المسلمين من انتهاكات لحقوق الإنسان، مثلما هو موجود في تواريخ غيرهم. 
  4. غانم جواد، الحق القديم  ، تعقيب: صلاح الدين الجورشي و باقر العفيف و نصر حامد أبو زيد، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، القاهرة، 2000.
  5. ويمكن أن ندرج هذه الوثيقة ضمن الوثائق الجنينية الأولى لظهور روح الدستور في العالم. فالواقع أن الرسول سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم قد أصدر -من حيث كونه حاكم نواة الدولة في الإسلام-  هذه الوثيقة في شكل إصدار مدني لتنظيم العلاقات السياسية والاجتماعية ولتأسيس الأمة على أسس التعددية والتعايش والتعارف ووحدة المصير.
  6. وهي وصيته إلى أمراء الجيوش لتأمين حماية المختلفين والأفراد والجماعات وصيانة حقوقهم.
  7. التي جاءت لتنظم القضاء أو السلطة القضائية بلغة اليوم، بوصفها ضمانة من ضمانات حقوق الإنسان.
  8.  عهد الإمام علي بن أبي طالب إلى عامله في مصر مالك الأشتر النخعي الذي جاء في حوالي خمسين بندا،  لينظم ويقنن مهمات الحاكم ومسؤوليته وحقوق رعيته بمصطلح ذالك الوقت، من دون أي تمييز؛ فالرعية عند هذا الإمام: "إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق". وذلك فضلا عما تضمنه هذا العهد من مبادئ تشريعية وسياسية وقضائية إلخ.
  9.  رسالة الحقوق لعلي بن الحسين التي جاءت بعد رجوعه من واقعة كربلاء إلى المدينة المنورة في شكل يكاد يكون تقنينيا لخمسين حقا يطال جميع جوانب حياة الناس بشكل مفصل.
  10.  ويتعلق الأمر بالفصل الأخير من كتاب الأحكام السلطانية والولايات الدينية لقاضي القضاة أبي الحسن الماوردي الموسوم: الأمر بالمعروف في حقوق الآدميين ضربان عام وخاص. ولست أدري كيف أدرج المؤلف هذا النص ضمن النصوص التي تتيح إمكانية النظر إليها بوصفها وثائق قد حملت هم حقوق الإنسان. فالماوردي قد اشتهر بكتابه هذا في التنظير لاستبداد السلطان، الذي جعل له حقوقا كثيرة على رعيته، وغير متوازنة بالمرة مع حقوق رعيته عليه. يراجع كذلك تعليق نصر حامد أبو زيد، المنشور بنفس الكتاب، 91، عن حدود هذه الوثائق وآفاقها. - يراجع كذلك تعليق نصر حامد أبو زيد، المنشور بنفس الكتاب، 91، عن حدود هذه الوثائق وآفاقها.  
  11.  جاءت هذا الوثيقة لصاحبها الشيخ الميرزا محمد حسين النائني في خضم الصراع الذي عرفه العالم الإسلامي بين مؤيدي نظام الاستبداد السياسي ودعاة نظام الحكم الدستوري. لقد وسمها: تنبيه الأمة وتنزيه الملة سنة 1909. وانتصر فيها إلى حق الشعب في إسهامه في إدارة شؤونه، بوصفه مصدرا للسلطة في الدولة.
  12. تعد هذه الوثيقة التي ألفها عبد الرحمن الكواكبي بعنوان: (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) من أهم أدبيات  زمن النهضة العربية والإسلامية، التي راهنت على  تقويض أسس الاستبداد السياسي التي رأتها أصل الداء؛ أي الانحطاط عند المسلمين، وعلى الانتصار إلى رفع هذا الداء بدوائه الذي ليس إلا "الشورى الدستورية".
  13.  والواقع أن الدارس لهذا الأمر يجد نفسه أمام كتب كثيرة ومتنوعة، وإزاء ما يصعب إحصاؤه من مقالات في مجلات متفرقة ومداخلات في ندوات ومؤتمرات عديدة. ومن هذه  الكتب على سبيل  الإعلام والتمثيل:

          محمد شاهين حمزة،  حقوق الإنسان بين الشرق والغرب، 1956

         علي عبد الأحد، حقوق الإنسان في الإسلام،  القاهرة 1957.

  1.   تناولها بالعرض غانم جواد، ونشرها في ملاحق كتابه المذكور: الحق القديم. كما أحصى منها سامي عوض أبو سحلية خمس عشرة وثيقة. في كتابه المسلمون وحقوق الإنسان، الدين والقانون والسياسية. وينظر إلى [Sami Awad Al-Deeb Abu Sahleya, Les musulmans face aux droits de l'homme: religion & droit & politique, étude et documents, Verlag Dr. Dieter Winkler, Bochum, 1994.]
  2.  مشروع إعلان حقوق الإنسان وواجباته في الإسلام الصادر عن الأمانة العامة لرابطة العالم الإسلامي، 1972 ـ البيان العالمي عن حقوق الإنسان في الإسلام الصادر في لندن عن المجلس الإسلامي الأوربي، 1980 ـ إعلان حقوق الإنسان في الإسلام- الصادر عن المؤتمر الخامس للفكر الإسلامي في طهران، 1987 ـ إعلان عن حقوق الإنسان في الإسلام الصادر عن المؤتمر التاسع عشر لوزراء خارجية منظمة المؤتمر الإسلامي، في القاهرة أغسطس 1990 ـ توصيات ندوة حقوق الإنسان في الإسلام لمجمع الفقه الإسلامي بمدينة جدة، المملكة العربية السعودية، 1994. ـ الميثاق العربي لحقوق الإنسان الصادر عن الجامعة العربية، 1994. ـ توصيات ندوة حقوق الإنسان في الإسلام بين الخصوصية والعالمية الصادرة عن المجمع الملكي لبحوث الحضارة الإسلامية(مؤسسة آل البيت) الأردنية، وبمشاركة المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو)، 1997. ـ إعلان رابطة العالم الإسلامي الثاني حول حقوق الإنسان في الإسلام الصادر في روما، 2000،  بمثابة نسخة متطورة عن إعلان الرابطة السابق.
  3.  ولا بأس من التنبيه على أن هذه البيانات على أهميتها التي لا يمكن التشكيك فيها، فإنها تكاد تكون إلى حد أيام الله هذه مجرد حبر مهدر على ورق مهدور؛ بحيث إن تأثيرها في واقع الشعوب الإسلامية ما زال تأثيراً محتشماً، يحاول حالياً شق طريقه بإصرار.
  4.  من المعروف أن الغرب يكيل بمكيالين، بل بمكاييل عديدة في مسألة حقوق الإنسان. ومما لا شك فيه أن شعوبه مقتنعة ومتشربة ومستحقة لمنظومة هذه الحقوق ولروحها وقيمها. غير أن حكامه لا يترددون في انتهاك حقوق الشعوب الأخرى إذا تطلبت منهم ذلك نظرتهم للمصالح العليا لدولهم. ولا غرو في ذلك، فلقد تولدت عالمية حقوق الإنسان الحديثة والمعاصرة من رحم إرادة التوسع الإمبريالي الغربي، مما يسمح باستخدامها غطاء إيديلوجيا للغزو والهيمنة. والأمثلة على ذلك معروفة ومشهورة. وأول مثال يرد على خاطر كل مسلم فلسطين المغتصبة والعراق المدمرة والأقليات الإسلامية... إلخ ولا بد من التنبيه كذلك بأن الغرب نفسه لا يعرى عن انتهاك حقوق الإنسان؛ لذلك تتوالد فيه كثير من المنظمات للدفاع عنها والذود عن قيمها.
  5.  وفيما عدا ذلك من الحقوق التي لن نتوقف عندها فهو من ضرب المؤتلف والمتماثل فيما بين الإعلانين.
  6.  ومن ضمنها مجهودات المفكرين المتمثلة في مقالاتهم وكتبهم ومشاركتهم في المؤتمرات والندوات التي أشرنا إليها بالهامش رقم ستة، إذا وإذا استثنينا منها عمل هيثم مناع، بالإضافة إلى بعض البحوث التي نشرت بالكتاب الجماعي: حقوق الإنسان في الفكر العربي: دراسات في النصوص.
  7.     طه عبد الرحمن، الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الثانية، 2009. 133-161.
  8.  نفسه، 154.
  9.  نفسه، 159-161.
  10.  وذلك فضلا عن شبهات عديدة يلقيها أهل هذا الاتجاه على كاهل إعلان القاهرة وعلى الفكر الإسلامي في حقوق الإنسان بصفة عامة، من مثل: إجازة الشريعة الإسلامية الاسترقاق، وكأن الإسلام لم يضع منذ ظهوره آليات للقضاء نهائيا على هذا الأمر مما هو معروف في عقيدته وشريعته، وتفرقة هذه الشريعة بين المواطنين من المسلمين وغيرهم والتمييز بينهم، واستخلاص الجزية إلخ من الشبهات التي لا محل لها اليوم في المناقشات العلمية والحقوقية في حقوق الإنسان، غير التزيد والمخاتلة.
  11. سبق أن أحلنا عليهما في الهامش رقم ستة. ولعلهما من أهم  الدراسات النقدية والجدية للإعلانات الإسلامية لحقوق الإنسان. ولا يعني وصفهما بالنقدية بأننا نشاطرهما رأيهما أو طرحهما في هذا الموضوع.
  12.  ففي دراسة أخرى له -أي لسامي الديب أبو سحلية- وبدلا من أن يقول بأن المسلمين قد أخضعوا الإسلام إلى تصوراتهم وتأويلاتهم المختلفة، مما يعد قولا مشروعا،  فلقد سمح لنفسه أن يتوقح في زعمه ما يلي: "أود أولا أن أشير إلى أنى لن أتكلم عن الإسلام بل عن المسلمين. فالإسلام -مثله مثل المسيحية واليهودية- تعبير مبهم لا وجود له على أرض الواقع، فإن وجدتموه فادعوه يشرب القهوة عندي". وبذلك -وباسم الدفاع عن حقوق الإنسان من منظوره الذي يرتهن إلى المنظور الغربي ويسوقه في جميع إنتاجاته العلمية والحقوقية الأخرى- حق الإسلام وأهله في الوجود وفي الاختلاف والتنوع. سامي الديب أبو سحلية، "عالمية حقوق الإنسان وتنوع الثقافات والمرجعيات : أطروحات وحلول في العالم العربي والغربي"، محاضرة بمقر منظمة العفو الدولية في الرباط في 27/2/2000. ويمكن تحميلها من موقع: [http://www.sudaneseonline.com/ ]
  13. لقد سبق أن ذكرنا من هذه الدراسات الإسلامية التي نافحت عن المنظور الإسلامي لهذه الحقوق طائفة من العناوين. ويمكن أن نضيف إليها الدراسة التالية وأخرى مما سنحيل عليها لاحقا. - حسن أحمد عابدين، حقوق الإنسان ووجباته في القرآن، رابطة العالم الإسلامي، ، مكة المكرمة، 1984.
  14. حصر طه عبد الرحمن مختلف أشكال الاختلاف بين الإعلانين: من حيث التقديم والتأخير، والتداخل والتباين، والاتساع والضيق، والتعميم والتخصيص، والإجمال والتفصيل، والإطلاق والتقييد، والذكر والحذف، فضلا عن الاختلاف في الأحكام وفي مضمونها وفي أدلتها.  طه عبد الرحمن، س.ذ،  136-138.
  15. إعلان القاهرة حول حقوق الإنسان، ضمن كتاب حقوق الإنسان، أعده: محمود شريف بسيوني ومحمد سعيد الدقاق وعبد العظيم وزير 4 مجلدات، بيروت، 1988-1989،  مج. 1، الوثائق العالمية والإقليمية.
  16. نص البيان العالمي عن حقوق الإنسان في الإسلام على تجريم الاستعمار أو الاحتلال ومشروعية مقاومته وضرورة نصرة الشعوب لاستعادة حريتها.  "لا يجوز لشعب أن يعتدي على حرية شعب آخر، وللشعب المعتدى عليه أن يرد العدوان، ويسترد حريته بكل السبل الممكنة: "ولمن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل" (الشورى: 41). وعلى المجتمع الدولي مساندة كل شعب يجاهد من أجل حريته، ويتحمل المسلمون في هذا واجبا لا ترخص فيه: "الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر" (الحج: 41). 2. حق الحرية. موقع جامعة مينوسيتا. مكتبة حقوق الإنسان www1.umn.edu/humanrts/arab وحسب لطفي السيد، فلقد أوصت بصياغة هذا البيان منظمة المؤتمر الإسلامي في 1980، فصاغته لجنة مكونة من: عدنان الخطيب، وشكري فيصل، ووهبه الزحيلي، وورفيق جويجاني، وإسماعيل الحمزاوي. غير أن هيأة المؤتمر لم تنظر فيه بعد ذلك. فأصدره عدنان الخطيب في دمشق، 1992، على هذا الشكل: حقوق الإنسان في الإسلام: أول تقنين لمبادئ الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بحقوق الإنسان، تصدير إبراهيم مدكور؛ شرح وتعليق عدنان الخطيب. هذا وتتوافر -بطبيعة الحال- نسخة منه بموقع مكتبة جامعة مينوسيتا. - لطفي السيد، "مسألة حقوق الإنسان في الفكر الإسلامي المعاصر"، ضمن كتاب: حقوق الإنسان في الفكر العربي. دراسات في النصوص، مركز دراسات الوحدة العربية، تحرير: سلمى الخضراء الجيوسي، بيروت،566-567، 2002.   
  17. وما كان للبيان العالمي عن حقوق الإنسان في الإسلام ألا ينص على حقوق الوالدين، بالنظر إلى قيمتها في الإسلام. والحق أنه قد نص على ذلك مرتين وضمن حقين متكاملين. حق التربية وحق بناء الأسرة.  "كما أن البر وإحسان المعاملة حق الآباء على الأولاد: "وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمها كما ربياني صغيرا"(الإسراء: 32 و24). المادة 21  - "وللوالدين على أولادهما حق كفالتهما ماديا ورعايتهما بدنيا ونفسيا: "أنت ومالك لوالدك" (رواه أبو داود بسند حسن). المادة: 19. و. "يا رسول الله: من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: أمك قال (السائل): ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من: قال: أمك: قال: ثم من؟ قال: أبوك" (رواه الشيخان) المادة 19:ز.
  18. إذا استثنينا منهم بعض الأصوات الهامشية من مثل حسن ترابي الذي أجاز للمرأة التي تدخل في الإسلام بقائها متزوجة بزوجها الكتابي، ثم وسع في هذا الأمر؛ فأجاز للمسلمة –ابتداء- بأن تتزوج بالكتابي، ودليله على ذلك أنه لم يرد نص في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية الشريفة يمنعه ويحرمه.كما أنه من شأن هذا الزواج أن يسهم في إقناع الزوجة المسلمة زوجها الكتابي بالدخول في الإسلام. وفي ذلك يقول: "وأن يزوجوا بناتهم للكتابيين، لعل هؤلاء البنات يأتين بالكتابيين من خلال العلاقة الزوجية إلى الإسلام. كنت تحدثت من قبل عن بقاء المسلمة مع زوجها الكتابي؛ لكني الآن أفتح الأمر لتقدير الأمور جملة ولتقدير عين الزواج، فلا تمنعها آية أصلا في كتاب الله. فلذلك لا أمنعها بتراكم الأقاويل التي عهدناها". يراجع: موقع الحوار المتمدن. http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=298228 - وغني عن التنبيه عليه بأن كثيرا من علماء الأمة الإسلامية سينكرون على  الشيخ  حسن ترابي هذه الفتوى وسيرفضونها جملة وتفصيلا.
  19. تنص المادة 16 من هذه الاتفاقية على :"الحق في الزواج وفي حرية اختيار الزوج. تحديد سن أدنى للزواج، وأهمية تسجيل الزواج، ورفض زواج الأطفال".
  20. ومنها المملكة المغربية التي تجد نفسها اليوم بين إحراجين مزدوجين: فبعض الجمعيات الحقوقية والنسائية تدعوها إلى الوفاء بالتزاماتها بشأن هذه الاتفاقية، في الوقت الذي ما زالت فيه الغالبية الساحقة من شرائح المجتمع المغربي غير مستعدة تماما لقبول هذا الأمر. هذا ولم يسجل إلى حد الآن  -في حدود علمنا- أي زواج لأي مغربية مسلمة من غير مسلم.
  21. نصر حامد أبو زيد،  دوائر الخوف قراءة في خطاب المرأة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط. الثالثة، 2004. خاصة الفصل المعنون: حقوق المرأة في الإسلام. دراسة في تاريخ النصوص، 179 ـ 242. ولقد سبق نشر محتوى هذا الفصل في مجلة: "ألف" للبلاغة المقارنة، الجامعة الأمريكية بالقاهرة، العدد. 19، 1991. كما نشر كذلك، ضمن كتاب: حقوق الإنسان في الفكر العربي س. ذ، 221ـ256.
  22. يراجع فيما يرجع إلى إسهام المفكرين الغربيين في نقد أسس الدولة الثيوقراطية  المتجذرة  في نظرية التفويض الإلهي وتبشيرهم بمنطلقات حقوق الإنسان الغربية، محمد عبد الواحد العسري، "المجتمع المدني في الإسلام: أسئلة الدين والدولة والحقوق والحريات"، س.ذ، 416-419.
  23. المرجع نفسه ، 435-436.
  24. مثلما لا يمكن استنتاجه من البيانات الإسلامية لحقوق الإنسان الأخرى. لقد جاء في المادة الرابعة من مشروع شرعة حقوق الإنسان في الإسلام الذي نشره عدنان الخطيب في مجال حق الحرية الدينية بأن: "التدين حق لكل إنسان ولا إكراه في الدين. فلا يجوز حرمانه منه، ولا ممارسة أي ضغط عليه للتخلي عنه". قبل أن يستدرك على ذلك بالتأكيد على أنه: "يتعين على المسلم ـوقد اهتدى إلى الإسلام بالإيمان بوجود الله والاعتراف بوحدانيته ـ  الثبات عليه".
  25. ولا يعني ذلك بأنه لم تقع بينهم خلافات كثيرة حول قضايا عديدة متعلقة بهذه الردة وبعلاقاتها بالحرابة من عدمها وهل تطال المسلمين ابتداء أو الذين دخلوا طواعية فيه؟ وكم عدد مرات استتبابة المعنيين بها -وهل تشمل الذكر  من دون الأنثى- وغيرها من التفصيلات الأخرى التي عرضها بكل دقة ابن حزم في كتابه:  المحلى، تحقيق محمد منير الدمشقي، ونشر إدارة الطباعة المنيرية، الطبعة الأولى، القاهرة، 1352. مباحث حد الردة.  جـ11،  194.
  26. لا تجد أحداً من أولئك الأعداء وهؤلاء الحقوقيين يلتفت إلى حق المسلمين بجنوب شرق آسيا، وخاصة ببورما في التدين بدينهم والحفاظ عليه. وإن دل هذا على شيء؛ فإنه يدل على أن العالم يكيل بمكيالين في مجال حقوق الإنسان عندما يتعلق الأمر بحقوق الإسلام وأهله. غير أنه على الرغم من تقتيلهم وتحريقهم؛ فإن المسلمين قد برهنوا تاريخيا ويبرهنون دائما وأبدا على تشبثهم بدينهم، وعلى قدرة هذا الدين على تحصين أهل جلدته. وهي القدرة التي اصطدم بها المنصرون في الغرب الإسلامي بالأندلس وإسبانيا وببلاد المغرب عندما أعيتهم الحيلة في تنصير المسلمين. يراجع في ذلك: محمد عبد الواحد العسري، الإسلام في تصورات الاستشراق الإسباني من ريموندس لولوس إلى أسين بلاثيوس، مكتبة الملك عبد العزيز العامة، سلسلة الأعمال المحكمة، الرياض، 2003، 157-175.  185-191.
  27. والمقصود بهؤلاء القوم بحسب بعض التفسيرات:  المرتدون من أهل اليمامة وغيرهم.
  28. ذكر منهم معتز الخطيب في مقالته: كيف نفهم الجدل حول حكم الردة: ابن عبد البر وابن قدامة وابن دقيق العيد وابن حزم والنووي. موقع: .islamverona.it/arab/index
  29. هذه هي أهم الأدلة -بالإضافة إلى أخرى عديدة- التي استند عليها القائلون بقتل المرتد حدا. وللإحاطة بمختلف قضايا هذا الأمر وتفصيلاته العديدة، وتمثيلا على هذا الاتجاه يراجع: عبد الله الزبير عبد الرحمن صالح، عقوبة المرتد وشبهات المرتدين، كتاب دعوة الحق، العدد: 149، السنة: السادسة والعشرون، رابطة العالم الإسلامي، 1433.
  30. لقد كان المرتدون عن الإسلام يلتحقون بالكفار، ويحاربون المسلمين ويقطعون سبلهم ويعتدون عليهم، والأمثلة عديدة على هذا الأمر، ولعل أشهرها ما أقدم عليه القوم من "عكل" و"عرينة"، الذين ارتدوا عن الإسلام، وقتلوا رعاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومثلوا بحسامينهم وسرقوا الإبل... إلخ، فقتلوا لهذه الجرائم، لا لجريمة الردة. وضمن هذا الإطار ينبغي فهم قوله صلى الله عليه وسلم: " والتارك لدينه المفارق للجماعة"؛ أي الخارج على الجماعة والمعتدي عليها.
  31. وذلك فضلا عن أن الإجماع على إيقاع الحد بالمرتد لم يتحقق بين جميع التابعين  من مثل: الإمام إبراهيم النخعي والإمام سفيان الثوري. والمتأمل لمباحث الردة عند ابن حزم يقف على أن الخلاف في هذا الأمر كان مستمرا بين المسلمين إلى زمنه. ابن حزم، المحلى، س.ذ.
  32.  من أمثال محمد عابد الجابري، وأحمد الريسوني، وجمال البنا  وفوزية العشماوي. فجميعهم إذ يؤكدون على أن الإسلام قد ضمن للناس حرية الاعتقاد؛ لأنه قائم أصلا على هذه الحرية، التي تشكل فيه مقصدا أساسيا ومحوريا من مقاصده الكبرى؛ فإنهم يميزون بين المرتد الذي يخرج من الإسلام، والمرتد الذي يخرج على الإسلام. فمن حق الأول ألا تطاله أية عقوبة دنيوية، وعلى المسلمين واجب تشديد العقوبة على الثاني درءا للخطر الذي يشكله عليهم، والذي يمكن تسميته بالتعبيرات المعاصر: الخيانة العظمى للأوطان، وإعلان الحرب على مجتمعات الأمة الإسلامية ودولها. محمد عابد الجابري، الديمقراطية وحقوق الإنسان، كتاب في جريدة، العدد: 29، التسلسل العام عدد: 95، بيروت، 2006. 17. محمد عابد الجابري، "حكم المرتد في الإسلام"، موقع الجابري، http://www.aljabriabed.net - محمد سليم العوا، "قضية الردة هل تجاوزتها المتغيرات؟ عقوبة الردة تعزيرًا لا حدًا"، موقع إسلام أون لاين، 28-2-2002. - جمال البنا، "قضية الردة هل تجاوزتها المتغيرات؟ لا عقوبة للردة وحرية الاعتقاد عماد الإسلام"، موقع إسلام أون لاين، 28-2-2002. | أحمد الريسوني، "لا إكراه في الدين" آية غير قابلة للنسخ إلا بمثلها ثبوتا ودلالة. عقوبة الردة في ضوء نفي القرآن للإكراه"، موقع: أوني إسلام.                 http://www.onislam.net/  | فوزية العشماوي، "حرية العقيدة بين الشريعة الإسلامية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان، أبحاث ووقائع المؤتمر العام الثاني والعشرين لوزارة الأوقاف بمصر في موضوع: مقاصد الشريعة وقضايا العصر، الذي انعقد بالقاهرة في: الثامن من ربيع الأول لعام 1431هـ الموافق 22 من فبراير 2010 م تحميل البحث من موقع: الفقه الإسلامي، http://www.islamfeqh.com/ 
  33.  لقد وقف طه جابر العلواني على اثنى عشر آية من هذه الآيات، وأثبتها ووثقها بكتابه؛ بحيث يتضح لمتأملها بأن الله عز وجل قد خص نفسه من دون غيره بعقاب المرتد عن الإسلام. وعبر عن ذلك بهذا الوعيد الأخروي، وهذا العقاب الشنيع الذي خص به المرتدين. ومن هذه الآيات:  {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} (البقرة: 217). ومنها: {يوم تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} (البقرة 106). {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (آل عمران: 177). لا إكراه في الدين. إشكالية الردة والمرتدين من صدر الإسلام حتى اليوم، القاهرة، ط. الأولى، 2003،  55- 63.
  34. نفسه، 59-63.
  35.  نفسه، 84.  ولا بأس من التنويه بأن مثل هذه الدفوعات لطه جابر العلواني وغيره من المفكرين الذين نافحوا كذلك عن أن الإسلام يعرى عن عقوبة دنيوية  للمرتد، قد طالها النقد والتقويض بين ثلة أخرى من مفكري الإسلام المعاصرين ومنهم بالإضافة إلى من سبق ذكره، حسن أحمد عابدين الذي تطرق في كتابه: حقوق الإنسان ووجباته في القرآن الكريم، 135-198 إلى هذه المسألة ضمن نقده لدعوى المحمصاني المذكور سابقا في تمييزه بين الردة التي ليس على صاحبها حدا والردة المقرونة بمعاداة المسلمين التي تستلزم حد الحرابة.
  36.  تراجع أعمال هؤلاء المفكرين التي أحلنا عليها سابقا. كما تتوفر -بطبيعة الحال-  أبحاث ودراسات كثيرة لهذه الروافد. ومن أيسرها يمكن أن نحيل على مواد  قاموس حقوق الإنسان التالي. وكذلك على كتاب ميشيل فيلي المذكور أعلاه و كتاب بلاندين كريجل:  [Dictionnaire des droits de l'homme, Dir. :  Joël Andriantsimbazovina, Hélène Gaudin, Jean-Pierre Marguénaud, Stéphane Rials, Frédéric Sudre, PUF, Paris, 2008.Villey  Michel, Droit et les droits de l'homme, op. cit. Blandine Barret Kriegel, Les Droits de l’homme et le Droit naturel, PUF, Paris ; 1989. ]
  37.  ولا بأس من التنبيه على أن  نظرية الحق الطبيعي قد كانت محل تنازع في الأزمنة الحديثة بالغرب الأوروبي، بين منظور لاهوتي حاول تأسيس الحق الطبيعي على نظرية الخلق الدينية، ومنظور عقلي سيتوفق في حسم تأسيس هذا الحق على ضرورات العقل البشري، ضمن تطور العلوم وفلسفاتها في الغرب ذاته. وهو التطور الذي طابق -كما هو معلوم- بين الطبيعة والعقل؛ بحيث جعل من نظام الطبيعة ونظام العقل مظهرين لحقيقة واحدة.
  38.  سترتبط نظرية الحق الطبيعي ارتباطا عضويا بنظرية العقد الاجتماعي  كما أرساها جان جاك روسو، الذي برى بأن أفراد النوع البشري يتنازلون عن حرياتهم الطبيعية للجماعة في مقابل تمتعهم بحريات مدنية جديدة يكفلها المجتمع لهم، ويستفيدون منها على أساس المساواة التامة فيما بينهم.
  39.  جان جاك روسو، العقد الاجتماعي أو مبادئ الحقوق الأساسية، نقله إلى العربية عادل زعيتر، مؤسسات الأبحاث العربي، بيروت، الطبعة الثانية، 1995. عن انتقال أفراد النوع البشري من حالة الطبيعة إلى حالة المدنية بواسطة العقد الاجتماعي يراجع: محمد عبد الواحد العسري، المجتمع المدني في الإسلام، س.ذ، 417-419. - لقد انتبه أحمد الريسوني إلى هذا الأمر من ضمن المسلمين الذين انتبهوا إليه "أما حركة حقوق الإنسان، والمرجعية الفكرية التي تؤطرها وتوجهها اليوم، فهي لا تكاد تلتفت إلى الأبعاد الروحية والربانية والدينية للإنسان [....]  المهم هو أن تستجيب لرغبات الإنسان في بعده الطيني". أحمد الريسوني، "إنسانية الإنسان قبل حقوق الإنسان"، موقع: إسلام ويب. http://library.islamweb.net/newlibrary
  40.  من ديباجة إعلان روما حول حقوق الإنسان في الإسلام الصادر عن رابطة العالم الإسلامي. س.ذ. ولا بد من التنويه في هذا الصدد بأن المبدأ الأول من هذا الإعلان: "أهمية ربط الحقوق الإنسانية بمرجعية تراعي المعتقدات والقيم الدينية التي أوصى بها الله سبحانه وتعالى على لسان أنبيائه ورسله"،  يلتفت إلى البعد الروحي المغيب في المادة الأولى من الإعلان العالمي.
  41.  لقد جمع الله سبحانه وتعالى بين الاستخلاف وحق المستضعفين في الأمن وفي مال الغني وفي العدالة وفي العيش الرغيد، إلى جانب حقوقه عليهم المتعلقة بالإيمان به وعبادته وطاعته.
  42.  ولقد اهتم المسلمون كثيرا بهذا المفهوم وما زالوا ينتجون فيه أبحاثا ودراسات عديدة، نحيل على سبيل التمثيل على ما يلي منها: إبراهيم الخولي، آدم عليه السلام. فلسفة تقويم الإنسان وخلافته، ط.3، مطبعة الاستقلال الكبرى، مصر، 1974. - بدر عبد الرحمن بن إبراهيم المطرودي، الإنسان وجوده وخلافته في الأرض، ط.1، مكتبة وهبة، القاهرة، 1990. - عبد المجيد النجار، خلافة الإنسان بين الوحي والعقل، ط.2، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، فريجينيا، 1983.
  43.  لقد بينا بأن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواثيق الدولية التي تلته قد اختزل هذه الحقوق في هذا البعد الطيني عند تأصيله لها؛ استنادا على نظرية الحق الطبيعي. ومن المعلوم- حسب نظرية الخلق في جميع الأديان السماوية- أن إبليس لم يسجد كما أمره الله لآدم؛ لأنه لم ير فيه غير هذا المكون الترابي.
  44. من مثل حقوق الشواذ أو المثليين كما يسمون أنفسهم، والتي دعتنا إلى الاهتمام بهذا الموضوع كما جاء في بدايته.
  45.  البيان العالمي عن حقوق الإنسان في الإسلام، س.ذ.

 

 

 

أخبار ذات صلة