كيف نفهم علاقة الدين بالدولة؟

سالم المشهور

لعلَّ المطَّلع على أدبيات الإسلام السياسي المختلفة، سيجد أنَّ مسألة إعادة الخلافة على منهاج النبوة أو إقامة الدولة الإسلامية التي تحكم بشرع الله كاملاً، هي من القضايا الأساسية التي تأتي على قائمة اهتمامات الإسلاميين. وقد يستغرب البعض أن يفكر الإسلاميون بهذه الطريقة، ويجعلوا كلَّ نضالهم منصبًّا على إقامة الدولة الدينية، ولكن على كل حال فإن الإسلامي لا ينطلق من فراغ في قناعاته؛ فالإيمان بالدولة الدينية في فكره يقوم على أدلة يراها هو قطعية لا تقبل النقاش!

وفي مقال بعنوان "الدين والدنيا والدين والدولة في الإسلام المعاصر"، يُناقش رُضوان السيد هذه القضية المهمة، مُتتبعاً جذورها، ومُناقشاً بعضَ حُجج أصحابها، وهو يرى أنَّ ملف العلاقة بين الدين والدولة هو جزء من ظاهرة أشمل هي ظاهرة الصحوة الإسلامية.

 

1-  معالم الإسلام المعاصر:

هل هناك إسلام معاصر؟ وما هي مقوماته؟.. يبدو لي أن مصطلح "الإسلام المعاصر" الذي جاء في عنوان مقال رُضوان السيد، بمثابة المفتاح الذي سيفتح لنا مغاليق أبواب هذا المقال، وتسليط الضوء على هذا العنوان يتيح لنا مقاربة جيدة للقضية المطروحة. ولتبسيط القضية، أقول: إنَّ الواقع المعاصر يفرض الكثير من الأحكام التي يصعب الفرار من قبضتها في كثير من الأحيان، فهل نخضع الواقع لسلطة النص؟ أم نطلب من النص (الشريعة) أن يتكيف مع الواقع ويفهم متطلباته؟

وقبل الخوض في تفاصيل هذه القضية، فإنه من الأمانة أن نذكر أنَّ التجربة الفقهية في صورها الناضجة لم تتنكر للواقع؛ فنحن نجد في كتب أصول الفقه، قولهم: "الحكم يتغيَّر بتغيُّر الزمان والمكان"؛ فعلى سبيل المثال نجد الإمام الشافعي بعد هجرته إلى مصر يُراجع الكثيرَ من آرائه الفقهية؛ لذلك ظَهَر هناك ما يُسمَّى بأ"المذهب الجديد للشافعي"، وهذا يدل على أنَّ الفقيه لم يكن مُهملاً للنظر في الواقع الذي هو نتاج ظروف جديدة أحيانا لا بد من الرضوخ لها!

ونحن نجد كذلك أنَّ السادة الفقهاء سيقرِّرون في قواعدهم الفقهية مشروعية العمل بالعرف، وليس القول بمشروعية العرف هو المظهر الوحيد للواقعية في التفكير الفقهي؛ فهناك جُملة من القواعد التي كانت تحكم سير العقل الفقهي من قبيل: "المشقة تجلب التيسير"، و"الأصل في الأشياء الإباحة"، و"الضرر يزال"، و"العادة محكمة"، والأخذ بمقاصد الشريعة...وغيرها.

والسؤال الذي نطرحه بعد استعراضنا للتجربة الفقهية القديمة في التوفيق بين النص والواقع: هل قام الإسلاميون بما قام به السلف من الفقهاء؟ الجواب: لا، لم يقم الإسلاميون بجهد حقيقي في بناء منظومة فقهية عصرية تستوعب أجزاء الحياة المختلفة. نعم قاموا بكتابات كثيرة في نقد الفكر اليساري والليبرالي، ولهم جهود كبيرة في مجالات أخرى كتجربة سيد قطب في تفسيره الرائع للقرآن الكريم.

ولكن يبدو لي أنَّ أحد أهم أسباب أزمة جماعات الإسلام السياسي في الواقع السُّني أنَّها تخلو من الفقيه المجتهد الذي يُمارس الاجتهاد وفق قواعد الفقه؛ فأغلب قيادات هذه الجماعات لا تملك علاقة طيبة بالمؤسسات الفقهية القائمة في العالم الإسلامي، وفي أحيان كثيرة يخرج الخلاف من دائرة المجاملات إلى التلاسن، ومن وحي هذا الخصام خرج مصطلح "فقهاء الحيض والنفاس" كنوع من النقد اللاذع وجهه دعاة الإسلام السياسي للفقهاء التقليديين، وسيوظف الإسلاميون مصطلح "وعاظ السلاطين" في إدانة الفقهاء، ومسلسل الخصام هو كاشف عن إشكال عميق في فكر الجماعات الدينية التي تطالب بدولة دينية من غير الاهتمام بالفقه وتكوين المشروع الفقهي الذي على أساسه يكون الحكم.

فكلُّ ما أنجزه دعاة الإسلام السياسي في عالم الفقه لا يشكل شيئا أمام إسهامات الفقهاء الذين اندمجوا في مشاريع الدولة الحديثة.

 

2- إطلالة تاريخية:

أُثير موضوع علاقة الدين بالدولة في العصر الحديث لأول مرة، كما يرى رضوان السيد، على يد فرح أنطوان الذي قال في مجلة "الجامعة": إنه لمن الضروري فصل الدين عن الدولة والاقتداء بفرنسا في ذلك؛ لأنَّ فرنسا كانت بالنسبة له رمزَ التقدم والحداثة العصرية؛ لذلك رأى ضرورة تقليدها في عملية الفصل هذه؛ لأنَّه يرى أننا بذلك نُزيل عائقاً مهمًّا من عوائق الوحدة الوطنية واعتناق العلوم الحديثة، وهذا الفصل سيحول دون استغلال الدين لخدمة أطماع السياسيين، أي أن هذا الفصل في النهاية يُحقق الحفاظ على قداسة وطهارة الدين من لوثة السياسة وسوء توظيف السياسيين.

وقد ردَّ الإمام مُحمَّد عبده على فرح أنطوان في مزاعمه بوجود تناقض بين الإسلام والعلم، أو في ادعائه بأن الإسلام معيق للتطوير السياسي، وقد اعتمد في ردّه على مجموعة حجج:

- أولاً: من الخطأ قياس الإسلام على الكاثوليكية التي ترى أن البابا يملك عصمة دينية.

- ثانياً: لقد أُرغم الأوروبيون على فصل الدين عن الدولة للتحرر من سيطرة الكنيسة في النواحي العلمية والحياتية، وما كان هذا ضروريا في التجربة الإسلامية، بل ولا حتى وارداً؛ إذ إن التاريخ الإسلامي شاهد على أن الإسلام لم يكن أبداً يعيق حركة العلم، بل كان يباركها ويحث عليها، جاء في القرآن الكريم: "قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون".

وكان من نتيجة هذا الحوار والنقاش الفكري أن طوَّر الإمام محمد عبده أطروحته في الدولة المدنية. والنقاش الأكبر -الذي تم حول هذه القضية- نشأ عندما ألغى مصطفى كمال أتاتورك السلطنة العثمانية ثم الخلافة العثمانية بين عامي (1922 و1924م) وكان نتيجة ذلك أنْ جاهدت نُخب دينية وثقافية من متخلف عرقيات المسلمين من العرب وغيرهم لاستعادة الخلافة، وسنرى بعد هذه المرحلة بسنوات ظهور كبرى الجماعات الإسلامية السياسية؛ وأعني جماعة الإخوان على يد حسن البنا، والذي على يده -وبفضل نشاطه وإخلاصه للفكرة الدينية- نجح في خلق تنظيم عالمي لا يزال فعالاً إلى اليوم، ولا يزال يثير الجدل الفكري والسياسي. وبعد ذلك ستظهر الكثير من جماعات الإسلام السياسي في مختلف أجزاء العالم الإسلامي، بعضها -كما في نموذج "القاعدة" و"داعش"- سيؤمن إيماناً كاملاً بالعنف في سبيل تحقيق مشاريعه، في حين سنرى نماذج أخرى تقترب من العلمانية كما في نموذج الإسلام السياسي التركي.

وبعد هذه العجالة السريعة، أختم قائلاً: إنَّ الحلم في ذاته ليس خطيئة، من حق أي فرد منا أن ينسج أحلامه بالصورة التي لا تشكل خطرا أو تهديداً للحياة، ولكن ليس من حق أي شخص كائناً من كان أن يقرر وحده مصير الأمم! ولعل أزمتنا الكبرى هي هذه. هناك من يقرِّر بالنيابة عن الأمة، وما على الناس إلا السمع والطاعة، وإذا كنا سجَّلنا بعض الانتقادات في مقالنا على مشاريع الإسلام السياسي، فهذا لا يعني أننا نرى أن الأطراف الأخرى هي الخلاص وهي الكمال؛ فالواقع الذي نعيشه هو نتاج أخطاء وقع فيها الجميع.

أخبار ذات صلة