هاجر السعدية
"تاريخ الأديان يشير إلى سجل من الأفكار والتجارب العقدية التي اعتقدها الإنسان من سالف الأزمان" ونجد الباحث التاريخي (مصطفى بوهندي) في مقاله " الدين والمجتمع والشأن العام في الديانات الكبرى" يستعرض أصل نشوء الديانات الإبراهيمية الكبرى الثلاث – الإسلام واليهودية والمسيحية – مستندا في طرحه على مراجع تاريخية التي كرست للبحث في نشوء الأديان، وتجاذب تفاصيل أبعاد النصوص المقدسة، ومساجلات أفكارها، فهو لم يكن بصدد عرض أيديولوجيّته تجاه فكرة الدين أو ينتقد ديانة ما بل يسعى في مقاله إلى إثبات فرضيته التي تنص على أنّ إبراهيم – عليه السلام – المؤسس الأول لديانة التوحيد، حيث ارتبطت الديانات الإبراهيميّة به من خلال أمر الرب لخروج إبراهيم من بلده إلى الأرض التي اختارها له الله.
بيد أنّ بعض الأسفار مثل سفر يشوع ورؤيا إبراهيم أشارت إلى تفصيل عجيب عن الحياة الدينية لإبراهيم وقومه قبل الهجرة إلى الأرض المباركة؛ حيث يعبدون الأصنام والكواكب والملوك وغيرها من الكائنات، وعلى النقيض من ذلك ظهرت نزعات ثورية عند إبراهيم معلناً رفضه للاعتراف بهذه الخرافات حتى أنه كسرها وهدّم معبدها. وأشار القرآن الكريم بإسهاب إلى قصة إبراهيم قبل الهجرة في سور متعددة، مبينة مفهوم دين التوحيد وما يميزه عن دين الشرك. وكل هذه التداعيات نتج منها اختيار إبراهيم للهجرة حيث نجح في اختبارات عدة حصل منها على أجر عظيم، فوعده الله أن يعظم اسمه، ويجعله بركة وأمة عظيمة تخرج منه أمم عديدة، فهاجر تاركا بيت أبيه وعشيرته وأرضه، والتحق بالمكان المعلوم وهناك بنى (بيت الله) (بيت إبل) وقدم فيه الذبائح وطقوس العبادة وأقام فيه. بيد أن هذا البيت لم يحظَ بعناية واهتمام الكاهن ولا الربي اليهودي؛ لأنّ الدين في الفكر اليهودي أصبح خاصًا ولم يعد دينا عالميا، كما يعود السبب إلى أنّ بني إسرائيل قد تركوا هذا البيت منذ فترة مبكرة، عندما دعاهم يوسف للالتحاق بمصر لما أصابتهم المجاعة، وأنقذهم يوسف واستضافهم في البلاد الجديدة، فخرجوا من هذا البيت وانقطع تاريخهم عنه، إلا في زيارة أنبيائهم وصالحيهم له في مناسبات العبادة كما تحدثنا أسفار العهد القديم، وكانت زيارة بعض الأنبياء له سنة بعد سنة، وإقامة الشعائر فيه تفسر غالبا بكونها أخطاء من هؤلاء الأنبياء صموئيل وداود وسليمان وغيرهم، أخطأوا عندما قدموا قرابينهم في هذا المكان وذبحوا في المرتفعة العظمى لآلهة غير بني إسرائيل، وعبدوا آلهة بني عمون وآلهة الشعوب الأخرى.
لهذا السبب لم يجرؤ أحد من المترجمين على ترجمة (بيت إيل) بـ (بيت الله) سواء إلى اللغة العربية أو إلى غيرها من اللغات الأخرى إلا في موضوع (بيت الله) الذي أسسه إبراهيم وحج إليه كل الأنبياء من بعده. لكن بني إسرائيل في تاريخهم الخاص أنشأوا بيتا بديلا للعبادة هو بيت الرب أو الهيكل (الذي بناه نبي الله سليمان) وعندما أخرجوا منه وهدمت أساساته تطلعوا إلى هيكل جديد بديلا لهيكلهم الضائع وارتبط بالهيكل المأمول كل الأماني الإسرائيلية للخلاص من التشرذم والانتقام من الأعداء الذين أذلوهم واحتقروهم، وتبلورت لتلكم الأماني صورة المسيح المخلص الذي سيخلص إسرائيل من طغيان الأمم. والجدير بالذكر أنّ هذه الأماني أصبحت جزءًا من الاعتقاد اليهودي الكهنوتي كما أصبح الدين في المنظومة اليهودية مرتبطا بسبط من أسباط بني إسرائيل، هم بني لاوي – لاوي الابن الثالث ليعقوب- وأصبحت الكهانة فيه مرتبطة بفرقة من هذا السبط وهم بنو هارون، ولا يمكن لغير بني لاوي القيام بالخدمة الدينية كما لا يمكن لغير بني هارون القيام بأعمال الكهنوت وبذلك تأسست الكنيسة اليهودية، واكتسبت سلطة دينية على المجتمع، وتحول الدين إلى علاقة بين الله والناس عن طريق رجال الدين فهم الذين يحددون نوعية القرابين والشعائر وإليهم يرجع أمر القبول والرفض.
وفيما يخص (بيت الله) المبارك للعالمين، نذكر هنا ما جاء في بعض روايات الهاكاداه اليهودية عن البيت الذي بناه إبراهيم: (فقد جاء إبراهيم إلى مفترق طرق وبنى بيتا، وجعل له أربعة أبواب شمالا وجنوبا وشرقا وغربا، وغرس فيه الأشجار، وهيأه لاستقبال الزوار الذين يدخلون من أي باب شاءوا حسب طريقهم فيأويهم ويطعمهم ويسقيهم، ومن كان عريانا كساه، والفقير أعطاه ذهبا وفضة، وعندما يريدون المغادرة شكروه، فيقول لهم لا تشكروني أنا بل اشكروا مضيفكم فيسألونه من هو؟ فيخبرهم بأنه الله العليم الرحيم ويعدد صفاته، فيسألونه عن كيفية شكره؟ فيبين لهم طرق شكره بالقيام بمجموعة من الشعائر من صلاة وصيام وذبائح والإنفاق على الفقراء والمحتاجين والأرامل والمستضعفين، ولذلك أصبح بيته ليس بيت ضيافة بل بيت عبادة وتعليم أيضا).
وانطلاقا من هذه القصة نفهم ما معنى أن يكون إبراهيم بركة وأن تتبارك فيه وفي نسله جميع قبائل الأرض في المكان الذي أمره الله أن يهاجر إليه ويبني فيه (بيت الله)، ونجد هذا يناقض الاتجاه الذي سار فيه رجال الدين اليهود الذين احتكروا البركة دون غيرهم....
أمّا المسيحية فقد كانت انقلابا جذريا على الكهنوت اليهودي، وكان المسيح – عليه السلام- ويوحنا يريدان تصحيح وضع الدين ورده إلى صراطه المستقيم وتغيير أهم مفاهيمه وعلى رأسها القول بالخصوصية اليهودية والبنوة لإبراهيم، بيد أن الإصلاح للدين اليهودي ارتكز على عدة مرتكزات وهي:
- التوبة الأساس الأول في هذا الإصلاح الديني الاجتماعي، وهي إن كانت أمرا شخصيا لكن لا يمكن الوصول إلى المسألة الاجتماعية إلا عن طريقها.
2- تصحيح المفاهيم هو الأساس الثاني في هذا الإصلاح وبدونه لا يمكن تغيير الفكر ولا الواقع، ومن المفاهيم التي ركز المسيح على إسقاطها مفهوم النسب، وهكذا أصبح الشأن العام هو القضية الكبرى في المسألة الدينية، وأصبح الفقر والجوع والمرض والموت والجهل والظلام والتمييز هي أهم القضايا التي قرر المسيح محاربتها. ومن هنا نستقرئ أن دعوة المسيح هذه لم تكن إلا رجوعا بالدين إلى مفهومه الإبراهيمي الاجتماعي الإنساني الأول بعيدا عن سلطة الكهنة ورجال الدين التي تبلورت في التاريخ الإسرائيلي؛ لذلك المسيحية ليست تخليا عن البر والتقوى ولا تراجعا عن الناموس.
وكانت الأحداث السابقة إيذانا بميلاد عهد جديد في الدين والاجتماع والشأن العام، حيث يسترجع الدين بعده الإنساني وتسترجع الأنثى مكانتها الدينية المغتصبة، ويعود للشأن العام والجانب المدني خصوصا أهميتها المفقودة في التاريخ الديني الاجتماعي الاسرائيلي. ونستطيع القول إن الباحث مصطفى هندي وفق في إيصال هدف مقاله وإثبات حقيقة أن إبراهيم – عليه السلام- المؤسس الأول لديانة التوحيد.