علم النحو ومسائله التظيرية في مقدمة ابن خلدون

نادية اللمكية

قد يبدو غير غريبٍ اهتمام الباحثين بالرؤية الخلدونيّة للمجتمع والسياسة والتاريخ؛ فقد أصّل ابن خلدون قواعد وأطر مهمّة لهذه العلوم في فترة كانت الحضارة الإسلامية تغيب عنها الشمس رويدًا لتظهر مجددًا في غرب الكرة الأرضية قريبًا من أوروبا، لكن الغريب الذي يحاول الدكتور فيصل عبدالسلام الحفيان إثارته في مقاله "الرؤية الخلدونية لصناعة العربية" هو الزخم الذي أثاره الباحثون حول ابن خلدون في هذه العلوم الثلاثة والتي وضعت المبحث اللغوي بعيدًا عن الاهتمام الذي يستحقه، ولهذا أخذ الكاتب على عاتقه قراءة فصول المقدمة السبعة عشر المتعلقة بالظاهرة اللسانية في ضوء علم اللغة المعاصر ونظرياته، مركزًا مقاله هذا على علم النحو.

وتأتي أهمية دراسة الحفيان في جوانب ثلاثة أساسية:

- الأهمية التي يُكسبها الكاتب نفسه للمقال؛ فمسيرته في رعاية التراث العربي والاهتمام بالمخطوطات من جانب، ومسيرته العلمية في اللغويات وعضويته في مجمع اللغة العربية من جانبٍ آخر منح الدراسة ثقلا معرفيًّا ارتبط بخبراته الكبيرة في مجال اللغة وتحقيق التراث.

- ربطه بين المسائل التي عرضها ابن خلدون في مقدمته وبين ما جاء في كتب اللغة قبله وما عرضته الدراسات المعاصرة اليوم، ما يجعل دراسة الكاتب متزنةً على المستوى الزمني، وواضعةً رؤية ابن خلدون اللغوية بين الآراء القديمة والحديثة.

- يطرح المقال بعض المسائل الجدلية على ضوء ما جاء في مقدمة ابن خلدون، منها علاقة علوم اللسان، وعلم النحو تحديدًا، بالعلوم الإنسانية والعلوم الشرعية، وعلاقة النحو بالملكة اللسانية، ومصطلح النحو بين الصناعة والعلم. ولا يكتفي الكاتب باستعراض آراء ابن خلدون، بل يفنّدها ويستقرؤها في كتاباته من ثم يستنتج ما يمكن عدّه قاعدة نحوية خلدونية.

ولكون هذه الدراسة لا يمكن أن تستوفي قضايا ابن خلدون اللغوية لاتساعها، يستدعي الحفيان مسائل النحو فقط، وهو العلم المعني بالتراكيب والنظم، مستخدمًا منهجه الخاص في ترتيب هذه المسائل وفق قاعدة البناء؛ فهو يبدأ بمناقشة الأساس وهو تعريف النحو، الذي يرى أن ابن خلدون وافق فيه آراء اللغويين قبله، مع حرصه على تلازم لفظي "القانون والمقياس" في التعريف، وتجنبه تسمية النحو بـ"علم الإعراب" لكون هذا الأخير يجعل التعريف يضيق ليشمل حال أواخر الكلم فقط.

ومما لفت الكاتب في مقدمة ابن خلدون غياب حديثه عن علم الصرف تصريحًا وتلميحًا، مرجعًا أسباب ذلك إمّا لأن مقصود الكلام غير مرتبطٍ به أو لإغفاله عن ذكره، وقد رجّح الكاتب السبب الأخير لانتفاء ما يثبت السبب الأول.

وبالرغم من أنّ الحفيان أشار في مقدمة دراسته بأنّه خصصها في النحو لضيق المقام، غير أننا لا نراه يستطيع الإفلات من قبضة الحديث عن علوم اللسان العربي مجددًا، ولعلّ ذلك مرتبطٌ في المقام الأول برغبة الكاتب في إيصال الأفكار للمتلقي متسلسلة على نحو ما ربط بينها ابن خلدون، والذي يستلزم معه ذكر السابق واللاحق لفهم الآني. أو هو - فيما يبدو- سعيه إلى الحديث عن التطور الذي طرأ على تقسيمة علوم اللسان، ما يعني بالضرورة تجاوزنا لتقسيمة ابن خلدون "الأولية" التي جاءت وفق الفكر اللغوي لعصره.

وانتقالا إلى إدراج علم النحو في موقعه بين العلوم، يطرح الكاتب سؤاله على ابن خلدون: لماذا تمّ إلحاق علم اللغة بالعلوم النقلية وهو بحسب تعريفه علم عقلي؟ ولأنّ التراث يُبقي لنا الاحتمالات يفترض الحفيان أجوبةً مختلفة لسؤاله؛ أولها التكوين الثقافي لابن خلدون الذي يعكس غلبة العلوم النقلية في تكوينه المعرفي وعند مجتمعه وتقديمهم لها. وثانيها هو كون علم اللغة يعتمد على النص المقدّس، وهو ما يجعله غير مبتدع بل مرتبطا بهذا النص الموحى. والسبب الثالث هو أنّ علم اللغة آلة العلوم النقلية (الشريعة)، ولهذا أدرجت الآلة بالغاية. ومهما يكن من أمر فإنّ الكاتب لم يجد لابن خلدون بُدًّا من أن يُسمي تصنيفه هذا "اضطرابا" في رؤيته تجاه تصنيف العلوم.

يتنقّل الحفيان بين المسائل المرتبطة بالنحو، وصولا إلى علاقة النحو بعلوم اللسان، وقد يستغرب القارئ حضور هذه المسألة بعد تصنيف النحو؛ إذ أنّ أصل العلاقة بين الفرع وأساسه تتقدم على تصنيف الأساس نفسه، ويبدو أن الكاتب يسير وفق ما يجده من مسائل في المقدمة، مستوقفًا في هذه المسألة رأي ابن خلدون القائل بأن "الجهل بعلم اللغة لا يؤدي إلى الإخلال بالتفاهم" وقد رأى الحفيان في هذه القاعدة الخلدونية اضطرابًا آخر ينسى فيه ابن خلدون توالد المعاني والألفاظ الجديدة، وتغيّر تراكيبها بتغيّر طبقات المتحدثين وتركيبهم الاجتماعي والثقافي. و لا يكتفي الكاتب برد رأي ابن خلدون عقليا بل يبرهن على تناقضه مرارًا راجعًا ذلك - على غيرر ما توقعه القارئ وغير ما أرادت الدراسة إثباته - إلى تخصصية ابن خلدون في علم الاجتماع!

ومن التنظير لعلم النحو والمسائل المتعلقة بذلك إلى الجانب العملي من كيفية تحصيله لا يفوّت ابن خلدون تصنيف النحو مثلما صنّف مختلف العلوم بين الملكة والصناعة، مشيرًا إلى جمع النحو بين التصنيفين، فهو يدرجه ضمن "الملكات الشبيهة بالصناعة"؛ فأمّا وجه أنّها صناعة فلأنّها تكتسب بالمران والتكرار، وأمّا كونها ملكة فهي - كما يشرح الكاتب- لأن المتحدث يلقي كلامه بقواعد وتراكيب وجملٍ وفق مقتضى الحال دون وعيٍ منه. ثم لأنّ ابن خلدون يؤسس في مقدمته لعلم الاجتماع، واللغة عنصر فاعل في المجتمع، فهو لا ينسى في هذه المسألة تحديد وسائل اكتساب اللغة في ثلاثية مهمة: السمع، والحفظ، والاستعمال وقد بيّن الكاتب أثر كلٍّ منها وتلازمها مع الأخرى لتحصيل هذه الملكة.

ويبدو أنّ الحفيان لم تزل تشغله العلاقة بين الملكة والصناعة وتصنيف النحو بينهما، فها هو يعود مؤكدًا أنّ النحو قواعد وقوانين، ما يجعله أقرب للصناعة بعكس "كلام العرب" الذي يُرام تحصيله بالحفظ والاستعمال فتتحقق الملكة. هل هذا هو إذن التصنيف الأخير لعلم النحو؟ لا يكتفي الطرفان – ابن خلدون والحفيان- بإثارة الجدل حول الملكة والصناعة بل يتعديان ذلك إلى تصنيف النحو بين الصناعة والعلم، وقد يظنّ القارئ أنّ في ذلك تناقضًا واضحًا، إلا أنّه إن علم أنّ الدراسة قائم على قراءة كاملة لسبعة عشر فصلا مرتبطًا بعلم اللغة سيدرك أنّ المسائل تتداخل وتتعدد، لتعود فتأخذ هيكلها التنظيمي عبر النقد والاستقراء، وهذا ما حدا بالكاتب إلى استخلاص أنّ ابن خلدون له ثلاثة مفاهيم للصناعة وفق ثلاثة مستويات: (مفهوم عام، مفهوم خاص، مفهوم خاص جدًّا) يختلف حضور كل مفهوم في مقدمته بحسب مقتضى الحديث.

في نظري، لقد استطاع الكاتب بسط الرؤية الخلدونية في علم النحو على وجهٍ يمكن القول أنّه وافٍ من حيث الوقوف على مختلف المسائل وتفنيدها، مزيلا ذلك الحاجز العالي الذي وضعه المجتمع المعرفي حول ابن خلدون، وواضعًا آراءه اللغوية أمام جدليّة النقاش.

 

 

أخبار ذات صلة