العبثية في الدين

هاجر السعدية

تمثل الظاهرة الدينية الأكثر فتكا وتناولا في الأوساط الثقافية عند العرب والغرب سواء، وهذا الزخم الكبير من المساجلات والكتابات يعكس مدى الإفرازات السلبية التي أصابت الأبنية الاجتماعية العربية والغربية، ورغم إدراك العرب والغرب لهذه الحقيقة إلا أن النخبة عاجزة عن الإصلاح الديني؛ نتيجة انطلاق استغلاله من السلطة والسياسة، ونجد صلاح الدين الجورشي – أحد الباحثين والأكاديميين في تونس- يقولب واقع هذه الظاهرة في مقاله "الطبيعة المزدوجة للظاهرة الدينية وحتمية الإصلاح الديني" فهو يعري الدين عند العرب وعند الغرب سواء، وتوصل إلى أن كلا الخصمين يستمد قوته في كل مرة يستعيد فيها موقعه من أخطاء الطرف الآخر وإخفاقاته، وانفضاض الجماهير من حول خصمه بعد تجارب مريرة ووعود كان قدمها من تزعم الحديث باسم هذا الطرف أو ذاك.

يستشهد في ذلك عند الغرب بالإشارة إلى اقتران الحداثة في المسار الفلسفي والاجتماعي الأوروبي بنزوع قوي نحو تحجيم الدين، وإقصائه من مختلف مظاهر الحياة الاجتماعية، وبلغت هذه الموجه أقصاها حين أعلن – فيلسوف الريبة – نيتشه بالنبوءة الشهيرة "موت الله" وما ترتب على الدولة في المجتمعات الاشتراكية مهمة إلغاء الدين ونشر الإلحاد. بيد أن نزعة الإلحاد خلّفت ما يحمد عقباه؛ حيث تراكمت الأزمات، واستشرى العنف داخل الغرب وخارج حدوده الجغرافية والسياسية، خاصة مع صعود الأحزاب والحركات الفاشية، التي مجدت الحرب وعمقت الكراهية باسم حماية الهوية، وابتذال الأيديولوجيات القومية. بذلك تحول المشهد الحضاري في الغرب إلى لوحة غير مفهومة، رغم أنّها تثير الدهشة. قال آنيشتاين في إحدى تأملاته معلقا على واقع الغرب "أدوات متقنة، وغايات غير واضحة، تلك هي علامات عصرنا". وفي هذا السياق التاريخي المأزوم عاد المقدس؛ لينقذ الغرب والبشرية جمعاء من التيه واللامعنى. ونجد على النقيض عند المسلمين، لم يقع في العالم الإسلامي إقصاء معلن للدين من الحياة العامة، باستثناء الحالة التركية في ظل الحكم الأتاتوركي. كانت الاستراتيجية السائدة لدى الليبراليين العرب أو بعض اليساريين، هي محاولة توظيف الدين لصالح الأيديولوجيا والأهداف السياسية المرحلية. وذلك كلما تصاعدت المشاعر الدينية المختلطة بالأزمات السياسية والمحلية والإقليمية؛ لهذا كانت المشاعر أو مظاهر التدين في حالة مد وجزر، وتختلف من بلد إلى آخر، ومن فئة اجتماعية لأخرى حسب عوامل سوسيولوجية وثقافية وسياسية متعددة ومعقدة. لكن بعد ما توالت  مؤشرات أزمة الدولة الوطنية التي نشأت في معظم الأقطار بعد تحقيق الاستقلال، بدأت مظاهر الرجوع إلى التدين بمختلف مستوياته الشعبية والثقافية والسياسية، تشهد انتعاشة ملحوظة في كل الدول والأقطار الإسلامية. رغم ازدواجية الظاهرة الدينية عند الغرب والعرب إلا أننا نلتمس محاربة الفكر الغربي للحتميات والمقدسات التي تفرزها الديانات خشيةً من تعطيل وتخدير العقل، ورغبةً بتحرير الجسد والعقل من الموروثات والميتافيزيقيات. بينما الفكر العربي الإسلاموي استثمر لصالح أيديولوجياته ومصالحه مقولة كارل ماركس " الدين أفيون الشعوب" التي مثلت في الوقت ذاته العلة الحقيقية من تحجيم الدين. ويواصل الجورشي في نبش الثغرات وكشف الزيف والازدواجية بين النية والممارسة، مما يؤكد من خلال ذلك الطبيعة المزدوجة والمتناقضة للدين سواء على الصعيد الإسلامي أو بالنسبة للديانات الأخرى، فهي مشتركة في خط الأهداف الإنسانية والنبيلة – التي توجه الأطر العامة والتفصيلية للأفراد والأبنية الاجتماعية مع اختلاف السبل والمعتقدات- لكن الواقع عكس ذلك. اللادينيون يحاولون تجميع صفوفهم لحماية ما، ولكي يستعيدوا ما فقدوه من سلطة أدبية وسياسية مستثمرين في ذلك أخطاء خصومهم (الدينيين) وقال روي براون رئيس الاتحاد الدولي اللاديني والأخلاقي (مع انزلاق المجتمع الأمريكي نحو الدولة الدينية، ومع تزايد التدين والأصولية في كل القارات لابد أن نتخذ موقفا) وهنا نتساءل: لماذا يرى ممثلو كل دين أن تفوقه من حيث عدد أعضائه يعني نجاحه ومالكا للحق؟ إلى جانب هذه الممارسات تتنافى مع الحرية والديموقراطية التي يفضي بها مذهبهم اللاديني. والأمر ذاته مع الديني حيث يتحامق مع اللاديني، ويحتكر لنفسه الجنة إلخ والآخر له الجحيم.

بعدما تناول الجورشي الظاهرة الدينية بشكل عام، بيّن موقفه من الإلحاد والدين، فهو يرى أن الدين أصل الحياة، فهو ضرورة فلسفية واجتماعية ونفسية وتاريخية؛ لهذا صمد عبر التاريخ، ونجد أراكون يبرهن ذلك؛ (لكون الدين يقترح أجوبة نظرية قابلة للتصديق على أسئلة كبرى كالمعنى الآخر، وأصل الإنسان، وقدره، والسلطة والطاعة، والعدالة والمحبة) ويمكننا المجازفة  في القول إن للتدين أنماطا؛ حيث يتعامل معه البعض بسطحية، والآخر بعقلنة وجدية، وهذه الأنماط تختلف فيما بينها إلى حد التناقض والخصام رغم وجود تقاطعات قوية فيما بينها وهي:

  • التدين التراثي: هي الثقافة الدينية السائدة حاليا، والتي يستهلكها عموم المتدينين بمختلف أنواعهم واتجاهاتهم، وتستمد موضوعاتها وإشكالاتها ومفرداتها وفتواها من التراث العقدي والفقهي والكلاسيكي؛ بسبب ضعف الثقافة الحديثة، وعدم قدرة النخب الممثلة لها على الأصعدة المحلية على التغلغل في الأوساط أو أن تكتسب المصداقية الكافية لتفرض نفسها كمرجعية ومحورية وحيدة.
  • التدين الشعبي: هو نمط التدين بدون ضفاف، لا تحكمه ضوابط لأنه خليط من السلوكيات والمواقف والتعبيرات، لكنه ينحو نحو التكيف مع الطبيعة العامة الثقافية للمجتمع. هو إجابة فردية ضمن سياق جماعي لحاجة عميقة تفترض تلبية الواجب الديني الموروث.
  • التدين الرسمي: وهو النمط الشائع في البلدان العربية، حيث يعكس حاجة السلطة إلى شرعية دينية لتعويض شرعية شعبية ودستورية مفقودة أو منقوصة (تسيّس الدين) أي يمثل جزءا لا يتجزأ من أيديولوجية الحكم القائم. ومن مهامه: ترويض الرأي العام، وتأطير التدين الشعبي؛ حتى لا يصطدم بالسلطة، وتحافظ على ولائه.
  • تدين حركي لكنه فقير: ولد هذا النمط في سياق اهتزاز مصداقية رموز التدين الرسمي والاستعمار وهو تدين يعمل أصحابه بكل الوسائل من أجل التميز في الشكل والمضمون؛ بهدف إعادة إحياء الصورة النموذجية لإسلام ما قبل الانحطاط. ويوصف بالحركي؛ لأنه يعتمد على تجسيد المعتقد في سلوك فردي وجماعي بهدف تغيير القيم والواقع والنظم وموازين القيم السياسية والاجتماعية.

وأخيرا بعد طرح وقولبة الجورشي لواقع الظاهرة الدينية، وإبراز الازدواجية والعبثية في الدين، والمآخذ التي تؤخذ على الثقافة الدينية الحديثة، يصرح أن: أزمتنا تكمن في المنهجية؛ أي الآلية أو الآليات التي يستند عليها المجدد لإعادة فهم الرسالة الإسلامية، وتفعيل دورها في الحياة.

 

أخبار ذات صلة