هاجر السعدية
مايكل نوفاك في مقالته التي تحمل موضوع "الحرية في ظل الله: المفهوم الغربي للحريات الدينية، ومقاربة للرؤية الإسلامية" يستفتح بذكر الهدف من المقالة، وهو التعرف على أمور تتعلق بكيفية تفكير المسلمين في مسألة الحرية الدينية، وهو في مقالته يعرض الحرية الدينية لدى الأمريكيين. هذا ما يعني أنه يود النقاش مع الآخر – المختلف عنه دينيًا- فهو يستطيع أن يقدم لنا قراءة عن واقع الحرية الدينية في مجتمعه الأمريكي العلماني ذي الديانات المتعددة – المسيحية، الكاثوليك، البروتستانت،-؛ ولكنه يجهل الآخر – المسلم-. فهو في حروفه يتوسل - بطريقة يجملها التهذيب واحترام الآخر- من أجل معرفة حقيقة واقع الحرية الدينية لدى المسلم، ووجب علينا كمسلمين حين نعرض واقع الحرية الدينية لدى الشعوب الإسلامية، أن نغاير بين حقيقة فلسفة النص التشريعي – القرآن الكريم – تجاه هذه المسألة، وبين نتاج الفهم المغلوط للنص القرآني والواقع المشوه لهذه الحقيقة. لذا لا أعول هنا على مايكل نوفاك وعلى الآخر حين يأتي بتصريحات لتحليل واقع الشعوب الإسلامية حيث فسّر مايكل نوفاك في مقاله واقع الحروب والنزاعات بين الشعوب الإسلامية بأن "آلام المائة عام الأخيرة الناجمة عن الظلم، وخيبات الألم، وسفك الدماء، وانتهاك حقوق الإنسان، والإساءة إلى الكرامة الإنسانية في أنحاء العالم الإسلامي، بعث لدى المسلمين الإحساس بأنّ العالم لم يتعامل معهم بالقدر نفسه من الإنصاف الذي تعامل به مع جهات أخرى ضمن الإنسانية". بيد أن مايكل نوفاك غطّى مسألة الحرية الدينية لدى الأمريكيين عبر ثلاثة محاور ويسبقهم سؤال: كيف توصل الملحدون إلى القول بالحرية الدينية؟، وتمثلت المحاور الثلاثة في الآتي: بعض التأملات في "الكنيسة والدولة (المسجد والدولة؟)"، والرؤساء الأمريكيين والصلوات العامة، ومسألة العلمانية. وأوجز هنا بعض التفاصيل المتعلقة بإجابة السؤال، الذي يكون الصورة الواقعية للحرية الدينية في أمريكا.
يملك الملحدون الأوربيون فهمهم الخاص للحرية الدينية. إنهم لا يعتبرون الدين أمراً مهماً لكنهم يتقبلونه باعتباره واقعة اجتماعية، وسياسياً منذ قيام الثورة الفرنسية أصرّوا على استبعاد الدين من المجال العام فهو أمر خاص بالفرد، وحاولوا تقديم الدولة على الكنيسة والمسجد؛ أي سيطر النظام السياسي على كل جوانب الحياة العامة، وهمّشوا المؤسسات الدينية، وهذه العملية سماها الأوربيون "لائيكية" أو بشكل أعم علمانية، وبناءً على ذلك عوّل العلمانيون على قدوم زمن يختفي فيه الدين ككل الأشياء القديمة. بيد أن أكثر الأمريكيين ظلوا يرون أن الدين له مكانته البارزة في المجالين العام والخاص في بريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية، وقد طور الأنجلو رؤيتين للحرية الدينية: الأولى تتأسس على مُقدمات غير دينية مفتوحة للملحدين وهي تقول: إن الإنسان بطبيعته قادر ومسؤول عن قبول أو رفض هذا الأمر أو ذاك استنادًا إلى ضميره، فهو أمر خاص بالفرد نفسه لا علاقة للآخر به، وهذا الدفاع عن الحرية الفكرية لا يدافع بالتحديد عن الحرية الدينية، لكنه يدافع عن حرية الضمير ومن ثمّ عن الحرية الدينية باعتبارها اختيارا إنسانيا حقيقيا للضمير الحر. والثانية تتأسس على المفاهيم الدينية النابعة من الدين الإبراهيمي الذي يقول بالخالق. ثم يستعرض مايكل تفكير بعض المدنيين توماس جيفرسون وجورج ماسون؛ ممن كان لهم دور في صياغة فرجينيا للحريات الدينية عام 1776م، حيث كان منطق الإعلان قائماً على أربعة مبادئ: عظمة الله وتعاليه فوق كل الأشياء، الثاني واجب المخلوق في الاعتراف به، والثالث حرية الروح التي وهبها الخالق للإنسان، والرابع المودة مع سائر الناس التي يريدها الله ويدعو للمشاركة فيها. والجدير بالذكر أنّ فهم وتحليل هذه المبادئ – مبادئ الوجود الإنساني الفطرية – يعني أن الواجب الديني الذي يعيه العقل والضمير موجّه أساسًا إلى الخالق دون وسيط. بيد أنّ هذا الواجب يستتبع حقاً أيضًا يتمثل في إقدار الإنسان على ممارسة هذا الحق. هذه الحرية في الولايات المتحدة متوافقة مع مفهوم هيجل للحرية وهي عبارة عن تحديد ذاتي. أي نحن أردنا ذلك وهذه هي حريتنا بصياغة أخرى اتفقنا على أن الشأن الديني هو أمر خاص بعلاقة الفرد مع ربه، وعلى عدم الإكراه في الدين، أنت طلبته ووافقت عليه أي أنت حر.
وقد ذكر المؤلف اختلاف أصول الأمريكيين الذي أفضى إلى وضع دستور للولايات المتحدة عام 1792م، وإعلان الحقوق الذي صار قانونا عام 1792م، وإقناع الكونغرس الاتحادي أنه ليس من حقه إصدار قوانين بشأن سداد دين معين أو التأثير على حرية الممارسة الدينية ذاتها. ورغم ذلك حاولت بعض الولايات فرض دين معين لجيل أو جيلين؛ لكن ذلك أثبت عدم جدواه وصلابته بالنسبة للدولة والكنيسة، فقد أرتهم التجربة أن الكنيسة والدولة تزدهران معاً إذا كان رجال الدين لا يستنصرون بالدولة في ممارساتهم الدينية، كما أنّ الدولة لا تستطيع فرض أمر من الأمور باسم الدين، وهذا اعتراف على أن كلا منهم لابد أن يقتصر دوره على ممارساته واهتماماته ومصالحه.
وأخيرا يفنّد مايكل مسألة العلمانية وما خلفتها من أزمة أخلاقية في الغرب من خلال ارتفاع شأن العلمانية، حيث إنها بدت تقوم على التعددية بعد عهود من الحروب الدينية. يضع البابا بينديكتوس المسألة على هذا النحو: المجتمع العلماني الخالص الذي يؤمن بالعيش بدون إله يميل إلى تقديم الحرية الفردية على كل اعتبار آخر. وذلك لأنّ هذه القيمة أو الفضيلة هي مبدأ ديموقراطي، وباعتبار أن السياسات الأخرى أكثر تهديدا للديموقراطية، بيد أن هذا التقديم لا يمكن التمسك به وإلا أفضى إلى المزيد من التناقضات. على سبيل المثال: فإنّ المرأة المتفردة والتي اختارت أن تجهض جنينها ربما بدت لأول وهلة باعتبارها تمارس حقاً من حقوق الإنسان. لكن في حقيقة الأمر هو تصرف يعني تدمير حياة إنسانية أخرى وهو الطفل المتحرك في الرحم، وهو ليس استنساخا عنها جسديا أو روحيا بل هو حياة إنسانية أخرى ومتفردة.
وهكذا يمكننا القول إن العلمانية تنتهي بألا تقول بالمساواة أو بالحقوق المتساوية لبني البشر بل يصبح الأمر تقديما لبعض الناس على البعض الآخر، وهي بذلك تنتهي بتدمير مبدأ أساسي من مبادئ الديموقراطية في الوقت الذي تدعي فيه أنها وحدها تحافظ على الديموقراطية.
فلسفة الحرية الدينية لدى أي جنس وأي شعب في العالم هي الحق البديهي والطبيعي للإنسان بغض النظر عن اختلاف ديانته، ونحن المسلمين قبل التخبطات في الحياة وقبل التجارب نستمد هذه المسألة من النص القرآني في قوله تعالى: "لا إكراه في الدين" ورغم ذلك لا يمكننا أن ننكر انتهاك هذه الحقيقة وخضوعها للنزعات البشرية البرجماتية.