التنوير المعتدل: التعايش بين الدين والدولة

سالم المشهور

العنف من المسائل التي تجلت في ممارسات بعض أتباع الأديان على ممر التاريخ، بل إنّ بعض صور العنف الديني نالت المشروعية عن طريق نصوص دينية معينة، بطريق الصراحة أو تأويل رجال الدين، وهذا ينطبق على مجمل الأديان العالمية، وكان لأطماع رجال السياسة الدور الأكبر في مباركة هذا التصور في فترات معينة من تاريخ كل دين، فرجل السياسة في كثير من الأحيان لا يُقدّس الدين إلا بمقدار خدمته لعرشه، وهنا يضيع الدين ويضيع العرش ويضيع بضياعهما الوطن، وإذا ضاع الوطن فسُد وضاع كل شيء.

في مقاله: "العنف الديني أم التعددية الدينية" يناقش وليام غالستون هذه المسألة المهمة من زاوية علاقتها بالسياسة وإدارة شؤون الدولة والمجتمع، ومقاله في الحقيقة هو متوجه لمناقشة موضوع العنف في ممارسات المسلمين، وهو يفتتح مقاله بطرح هذا السؤال:

هل يستطيع التقليديون الإسلاميون استيعاب التعددية وصُنع سلامهم معها؟ والمقال كله يدور في فلك الجواب عن هذا السؤال.

  1. الدين وأشكال علاقته بالنظام السياسي

يرى الكاتب أنّ هناك ثلاث احتمالات لطبيعة العلاقة بين الدين والدولة، وهي:

  • سيادة الدولة كل شيء في المجتمع بما في ذلك المؤسسة الدينية، وهو يرى أن هذا الخيار يضر بالدين والدولة معاً، لأن هذا الخيار يجعل من الدين مطيّة السياسي لتحقيق مكاسبه الخاصة، على حساب الدين وقيمه الروحية.
  • سيطرة المؤسسة الدينية على الدولة، وفي هذه الحالة يتكون شكل من أشكال الثيوقراطية، وينتج عن ذلك مشكلات كثيرة، لعل أبرزها الاضطهاد الديني.

ج- تعايش السياسي والديني، دون أن يُسيطر أحدهما على الآخر، وهذا الخيار في نظر الكاتب أفضل الخيارات الممكنة التي تعود بالخير على الدولة والمؤسسة الدينية، و" إحدى صيغ هذا التعايش تفترض تقسيم الحياة الاجتماعية إلى مجالات وأبعاد يتقاسمها الطرفان باتفاق أوبدون اتفاق " ويستند هذا الخيار في التقليد المسيحي على مقولة السيد المسيح : "اعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله " ويمكن أن يستند هذا الأمر في التقليد الإسلامي على قول النبي محمد عليه السلام: "أنتم أعلم بشؤون دنياكم".

ولكنّ الحياة الإنسانيّة هي في غاية التعقيد والتداخل، لذلك يصعب الفصل بين كل مجالاتها فصلاً يرفع الخلاف ويرضي الكل.

وبالعودة إلى التاريخ سنجد أن محاولات العلمانيين لعزل القيم الدينية عن مجالات المجتمع المدني المختلفة أدت إلى توترات وعنف وهذا تم في دول تملك تقاليد جمهورية عريقة.

ومن جهة أخرى ثبت تاريخيًا أنّ الخيار الثيوقراطي في المجتمعات ذات التعددية الدينية، يزيد من حجم المشكلات الأرضيّة ويصبغها بصبغة دينية سماوية، مما يشعل نار الحروب الدينية، والتاريخ الأوربي خير مثال، فصراع الكنائس راح ضحيته مئات الآلاف من الناس، ومورست فيه كل أنواع العنف التي كانت متاحة في ذاك الزمن.

نعم قد يقول البعض: إنّ الخيار الثيوقراطي في المجتمعات ذات الدين الواحد خيار مثالي، ولكن الرهان على هذا الخيار من وجهة نظر الكاتب ليس مجدياً فهو لن يؤدي إلى تحقيق خلاص معتنقيه.

  1. هل العلمانية هي الحل؟

إذا كان الخيار الثيوقراطي هو أحد أهم أسباب العنف وعدم الاستقرار، فهل يكون الحل هو في العلمانية؟

ربما يميل كثير من فلاسفة الشرق والغرب إلى أن العلمانية هي الحل، وهي الفردوس المنشود للشعوب، وهي الطريق الوحيد للخلاص. ولكن غالستون يرفض هذا الحل، ويرى أن هناك صيغة أخرى بإمكانها أن تكون حلاً مقنعاً يُرضي رغبات المتدينين ورغبات بقية الأطراف، وهذا الحل هو التعددية المؤسسية، فالكاتب يرى أنّ "العنف الممارس باسم الدين لا يُقاوم بالعلمانية، بل يُقاوم ويُتجاوز بالتعددية المؤسسية" ويبدو أنّ غالستون يستخدم مصطلح العلمانية بمعنى فصل الدين عن الحياة أو بقية التصورات المتطرفة للعلمانية، لذلك يرفض خيار العلمانية كحل لمشكلة العنف، وكيف يقبل بالعلمانية كحل وهو يعتبرها مسؤولة عن بعض أشد صور العنف في التاريخ القريب، فالتنوير الراديكالي الذي كان متطرفاً في إلحاده وفي علمانيته  تسبب في عنف ما عرف التاريخ مثيلاً له.

وبالنسبة للعنف الديني فالكاتب يحمل فلسفة تحليلية لهذا الأمر فهو يرى أنّ "العامل الديني بمثابة شاشة تظهر عليها مظالم وشكاوى وعقد عميقة ناتجة عن الفقر والحرمان وذكريات الاستعمار وأحاسيس الذل" وأجدني أتفق معه في هذا التفسير وأراه وضع يده على المشكل الحقيقي، الذي نتهرب من الوقوف عليه، وكأن مسألة الإرهاب والعنف هي وليدة النص فقط!

 وكأنّ الإنسان هو صنيعة النص فقط!

ولا أعتقد أنّ من له أدنى قدر من الاطلاع على علم النفس والاجتماع يقول بهذا، بل لا أعتقد من له نصيب من الثقافة يختزل الإرهاب في النص، وينسى بقية العناصر التي تُنضج فعل التطرف.

فالتربة الحاضنة للعنف هي الفقر والجهل والتخلف والحرمان، ومحاربة الإرهاب لا يتم إلا بمحاولة القضاء على هذه الأمراض في مجتمعنا، وتحقيق كرامة الإنسان، ورفع اليد عن توظيف الدين لمصالحنا الشخصية.

 

  1.  التجربة الأمريكية كما تجسدت على يد آباء الاستقلال

يرى الكاتب أنّ التجربة الأمريكية كما تجسدت على يد آباء الاستقلال الأمريكي هي مثال نموذجي على التعددية المؤسسية التي تستطيع حل مشكلة العلاقة بين الدين والدولة، فالتجربة الأمريكية قامت على "اللاهوت الطبيعي" والضمير الديني، اللذين صارا جزءًا من التفكير السياسي والقانون، ففي ظل الليبرالية المؤسسية يمكن أن ينجح حل التعايش حتى لوكان كل الناس مؤمنين متدينين.

بعبارة الكاتب: في أمريكا أناس ضد المؤسسة الدينية والكهنوت، ولكنّهم ليسوا ضد الدين، وهذا ما يُسميه هو "التنوير المعتدل" الذي سمح بوصول جون كنيدي إلى رئاسة أمريكا مع أنّه كاثوليكي وسمح كذلك بوصول أوباما إلى البيت الأبيض مع أنّه من السود، ومن يدري لعل هذا التنوير يسمح بوصول مسلم إلى البيت الأبيض، وفي ظنّي أنّ هذا سيكون أكبر إنجاز للتجربة الأمريكية المتصالحة مع الدين.

وإن كان لي أن أختم بكلمة أخيرة فسأقول: نحن كعرب بحاجة إلى نفض الركام عن ديننا واستعادة وجهه الإلهي، وتحريره من التفسيرات والتأويلات الفاسدة، حتى يعود الدين أحد عوامل نهضة أمتنا، كما كان في بداية الدعوة المحمدية المباركة، بل لا أكون مبالغاً إذا قلت: إنّ الإسلام هو الذي بعث روح الحضارة في هذه الأمة، ووضعها في موضع رفيع لم تكن تحلم به، فكل ما لدى العرب اليوم من مجد ورفعة هو من بركات الدين

أخبار ذات صلة