هاجر السعدية
قرار لافتٌ في الكويت - بذر بذور تفلسف علائقية الدين والدولة- فنّده الباحث عبدالرحمن السالمي في مقال معنون بـ "الزكاة والمواطنة والدولة" والقرار ينص على "إقرار مجلس النواب الكويتي قانون للزكاة على مداخيل الشركات". وبموجب هذا القانون ظهرت معارضات من قبل جماعات شيعية بحجة أنّ هذا القانون يزيد من الأعباء المالية عليهم، لأنهم أيضا مذهبيا مفروض عليهم دفع الخمس لآل البيت.
يستوقف هذا القانون كما أشرت أعلاه الباحث عبد الرحمن السالمي، والذي يبرهن حصافة هذا الباحث حين قدم رؤيته وقراءته السوسيولوجية للقانون. إنّه لم يشر إلى ما الآثار الذي يخلفها تطبيق القانون سواء كانت بالسلب أو بالإيجاب على النظام الاجتماعي والاقتصادي والديني، فهو لم يستغل إيجابية وسلبيّة القانون – إن وجدت – بل نظر إلى القانون نظرة الفاحص والناقد والواعي والمفكر. بداية استفتح مقاله بسبر أغوار ركن الزكاة، على أنّ الزكاة فريضة حالها كحال الصلاة والحج والصوم. ويستفهم لماذا الاشتباه في هذه الفريضة دون الأخريات؟ ويجيب على ذلك عبر تسلسل يقولب الأسباب والمسببات في قالب فلسفي يتسم بالعقلانية والإصلاح للشأنين الديني والسياسي معا. منطلقا من عرض تاريخي تناول مسألة الزكاة أيام النبي وأبي بكر-كانا يبعثون عمالا لجمع الصدقات- وبعدهما أي أثناء وبعد خلافة عثمان بن عفان استجدت أمور واتجاهات في مسألة كيف تؤدى فريضة الزكاة من العباد – الرعاة-، وظهرت ممارسات غير أخلاقية وغير إنسانية تتسم بالتسلط والتكليف غير المشروع من قبل الحكام، وهذا ما أنتج صراعات وترهلا في النظام الاجتماعي والسياسي بالدولة الإسلامية والجدير بالذكر أنّ آخر حاكم طالب رعيته بأداء الزكاة هو هارون الرشيد، ومن ثم مسألة الزكاة أخرجت من إطار كونها أحد مجالات الدولة – وهذا حدث نتيجة تداعيات ارتآها الحكام منطقية تقوم على بناء دولة وفق معايير تتجاوز أخطاء السابقين.
ومن القضايا التي أخرجت الزكاة من مجال عمل الدولة: في العصر الأموي تذمر البدو من ظلم المصدقين حيث كانوا يأخذون أكثر بكثير مما يجب عليهم ويسيئون إليهم بالضرب والعقوبة واستمر هذا الحال إلى أيام هارون الرشيد. وعمال العشور لا يتبعون الضوابط الشرعية في اقتضاء الزكاة من عروض التجارة؛ إذ كانوا يفتشون التجار – وهذا ليس من حقهم وكان عليهم أن يصدقوا صاحب السلعة أنّه دفع الزكاة لعاشر آخر- وحاولت الدولة تنظيم ذلك بإعطاء إيصالات للمزكين؛ ولكن هذا لم يحد من ذم سمعتهم إلى أن بلغ الأمر أنّ التجار اعتبروا الزكاة ضريبة لتسهيل أعمالهم. وظهر فقهاء أيام الحجاج بن يوسف يشككون في صرف الدولة للزكاة في مصارفها الثمانية المعروفة في الآية القرآنية، وهذا ما أكده أحد الشعراء فيقول في إحدى قصائده إن عبدالملك بن مروان أعطاه مائة ناقة من إبل الصدقة ومعها ثمانية رعاء بسبب مدحه له. وهذا ما يجعلنا نتساءل هل جرير من المحتاجين للصدقة، فليكن قصارى الأمر أن يعطيه ناقة أو ناقتين وهذا ما أدى إلى التشكيك في شرعية السلطة.
وبعد هذا المدخل التاريخي في مسألة الزكاة، يثري الباحث أطروحته بتقديم منظور ابن خلدون، والفقيه الدستوري الماوردي تجاه علائقية الدين والدولة، ولكن قبل التشريع في ذلك علي الوقوف أمام إثارة تساؤلات. طالما أتت تفسيرات الفقهاء والعلماء على أن العبادات والفروض هي منجاة للفرد بعد الموت، وهي صلة بين الرب والإنسان، لماذا يتم تدخل سياسي – الدولة – في هذه العبادات؟ هل من المنطقي أن يوجد محامٍ للإنسان ليوطد ويستحسن علاقته بربه؟ فليكن ذلك، هؤلاء المحامون – الأوصياء- على أي معيار تم اختيارهم من قبل الرب؟! وهل صدقا يوجد هناك من هو جدير من بني الإنس من يقوم بهذه المهمة؟؟
وبعد إثارة هذه التساؤلات التي تتضمن إجابات منطقية تدلي بأن تدخل الدولة – السياسة- في الشؤون الدينية للعباد تأتي رغبة في السلطة المطلقة متبوعة بخلق مجتمع يئن من الأمراض - الاجتماعية والنفسية والاقتصادية- والتشوهات في سياقاته المكونة له. والجدير بالذكر والإشارة إليه هنا أنّ الدين نفسه يستنطق حقيقة أن العبادات تخدم الفرد نفسه، وهو مخير في مسألة تطبيقها بشكل أو بآخر.
وتعد قضية علائقية الدين والدولة، قضية جدلية فلسفية، وأخذت اتجاهات تفسيرية ونظرية في دراستها وتفنيدها في البحوث العلمية، واستعرض الباحث عبدالرحمن وجهتي نظر متعارضتين بشأن العلاقة بين الدين والدولة، تمثلت في رؤية ابن خلدون والفقيه الدستوري الماوردي. ويمكنني أن اختزل وجهة نظر الماوردي - التي اتفق معها جملة وتفصيلا- "الإمامة موضوعة لحراسة الدين وسياسة الدنيا" أي أن الدين قائم وأحكامه وأعرافه سائدة في المجتمع، وعلى الدولة أن ترعى الأحكام دون تدخل؛ فالتدخل يعني نصرة مذهب ما، ويؤدي هذه إلى انقسامات في المجتمع، فهو ينادي بالتمييز بين الشأنين الديني والدولة وليس الفصل تماما. وهذا الرأي يناقض رؤية ابن خلدون الذي يرى أن الإمامة موضوعة لحراسة الدين وسياسة الدنيا به أي الدين. ووضح علاقة الذين داخل الدولة وخارجها؛ حيث يتمثل في الداخل باندماج الدين بالدولة في ظل أمر الإمام ونهيه، وفي الخارج مهمة الدولة الدعوة للإسلام بالحسنى والحرب والجهاد. والرأي الأخير رأي يحمل تعصبا دينيا إلى جانب أنه يعزز من هيمنة الحكومات على الشعب في شتى مناحي الحياة، وهذا ما يعني عيش الفرد مكبوتا مستعبدا. ما يثير الشفقة في حال الأمة الإسلامية تناحرها من أجل فريضة الزكاة دون غيرها من الفروض مثل الصلاة والحج؛ ليس لشيء سوى أن الزكاة تملك وجها ماليا أغرى بالتناحر حولها سياسيا. وثمة مقولة للمفكر بلقزيز في معرض نقاشه للخلافة والنبوة " لا سياسة مع الله في الله بالله ولكن السياسة مع الناس للناس بالناس" فالدين كمسألة عامة لا تستطيع فصله عن الناس والمجتمع، لكنه يبقى في فرائضه أمرًا خاصًا للإنسان فهو مسخر لخدمة هذا الإنسان، وهذا سوف يحد من انتشار فكرة أنّ الدين مرتكز للانغلاق وتجميد طاقات الناس ويعمل على إثارة الصراعات والفتن.