سعيد عبيد| باحث من المغرب
من هم الموريسكيـون؟
إذا كانت تسمية "المُدجَّنين" Mudéjares قد أطلقت منذ القرن 11 الميلادي على المسلمين الذين وجدوا أنفسهم تحت سلطان الحُكم النصراني في مملكتيْ قشتالة وأراغون شمال الأندلس -مع بداية الانحسار الإسلامي إلى حدود مملكة غرناطة جنوبا، ابتداءً من سقوط طليطلة سنة 489هـ/1095م- فإن تسمية الموريسكي Moriscos ابتدعتها العقلية الإسبانية الصليبية مع بداية ق 15م، إثر سقوط غرناطة سنة 1492م؛ لوصف "الطائفة الخبيثة" و"البذرة العفنة" – على حد تعبير بعض تقارير محاكم التفتيش - من المسلمين، وأغلبهم من أحفاد الإسبان الأندلسيين أنفسهم، مع قلة من أحفاد العرب والأمازيغ الفاتحين، ممن بقوا في الأندلس، وفُرض عليهم التنصير الإجباري، بعد ما سُمي بحروب الاسترداد Reconquista التي خرج منها ملكا أراغون وقشتالة فرناندو الثاني Fernando II de Aragón وإيزابيل الأولى Isabel I de Castilla – بعد زواجهما واتحاد مملكتيهما - منتصريْن، ومُنهييْن بانتصارهما ثمانية قرون من الحكم العربي الإسلامي للأندلس، مع إجلاء آخر أمراء بني نصر -أبي عبد الله محمد الصغير (محمد الثاني عشر)- عن مملكة غرناطة التي كانت تمثل – بوصفها مملكةً مسلمة مستقلة – ضماناً قوياً لمعاملة مسلمي كافة شبه الجزيرة الإيبيرية باحترام. وهكذا عاش هؤلاء "الموريسكيون" الذين بقوا بأرضهم أزيدَ من قرن من الإرهاب والإبادة الحضارية الشاملة، والتي ابتدأت بمرسوم فرناندو الملكي الصادر سنة 1502م القاضي بتعميدهم وتنصيرهم كرها، ولم تنته بقرار فيليب الثالث Felipe III الصادر سنة 1609م القاضي بالطرد النهائي لمن تبقى منهم، حيث هُجِّرت أول دفعة إلى وهران الجزائرية، التي وقعت هي أيضاً في قبضة الاحتلال الإسباني، قبل الإعلان سنة 1614م عن انتهاء التهجير بطرد آخر مسلمي منطقة لامانتشا.
الموريسكيون إذًا تسمية – في الأصل – قدحية، واشتقاقها في اللغة الإسبانية على صيغة التصغير من تسمية "المورو" Moros أكثر قدحاً، لتفيد معنى "المسلمين الأذلة الأصاغر"؛ فقد كانت تسمية الإسبان من قبلُ لمسلمي الأندلس وشمال إفريقيا بـ"المورو" محفوفةً بمعاني النفور والخوف والرهبة، ليأتي تصغيرُها "الموريسكوس" محفوفاً بدلالات الاحتقار والازدراء والإذلال، كما يلاحظ بدقة محمود شاكر محمود. ومن سخرية التاريخ أن عوام الجهال بالمغرب يستعملون اليوم اللفظة نفسها (المورو) في لسانهم الدارج؛ للتعبير عن سخطهم من بني جنسهم! وهذا من بقايا الأثر السيئ للاحتلال الإسباني لشمال وجنوب البلاد، ولعقدة النقص التي تستحكم في نفوس المنهزمين حضاريا.
المحنـة
يقول المؤرخ التونسي الكبير عبد الجليل التميمي -وهو من أبرز المشتغلين بالتاريخ الأندلسي، ولا سيما الحقبة الموريسكية منه- مختصراً المأساة: "ما حل بالموريسكيين الأندلسيين بعد سقوط غرناطة سنة 1018هـ يُعد أشنع مأساة إنسانية وأفظعَها عرفها التاريخُ البشري على الإطلاق"؛ ذلك بأنها كانت إبادة حضارية ممنهجة ممتدة لأزيد من قرن، بكل آليات القهر والترهيب والتنكيل التي قادتها شراكةُ الحكومات الملكية المتتالية مع دواوين أو محاكم التفتيش المقدسة (Santa Inquisición).
نصت معاهدة التسليم التي وقعها فرناندو وإيزابيل مع أبي عبد الله الصغير قبل التسليم بأكثر من شهر على عشرات البنود، من بينها ما ورد بالنص كالآتي: "
- يَسمحُ صاحبا السمو وسلالتُهما للملك أبي عبد الله الصغير وشعبِه أن يعيشوا دائما ضمن قانونهم، دون المساس بسكناهم وجوامعهم ومناراتهم، ويأمران بالحفاظ على مواردهم... كما تُحترم عاداتهم وتقاليدهم إلى غير حين. ، لن تصادَر من المسلمين أسلحتُهم أو خيولهم أو أي شيء آخر حاضرا وإلى الأبد، باستثناء الذخيرة الحربية التي يجب تسليمها لصاحبَيِ السمو.
– لا يُسمح لأي نصراني بدخول المساجد أو أي مكان لعبادة المسلمين دون إذن من الفقهاء، ومن يخالفْ ذلك يعاقبْه صاحبا السمو.
– لا يدفع المسلمون لصاحبَيِ السمو أكثر مما كانوا يدفعونه لملوكهم المسلمين من الإتاوات.
– يُسمح لجميع من عبروا العُدوة (المغرب) من سكان غرناطة بالعودة خلال ثلاثة أعوام... والتمتع بالامتيازات التي تمنحها لهم هذه الاتفاقية.
– إذا سبق لنصراني -ذكرا كان أو أنثى- اعتناقُ الديانة الإسلامية قبل إبرام هذه الاتفاقية. فلا يحق لأحد من النصارى أن يهدده، أو أن ينال منه بأية صورة.
– لا يجوز إرغام مسلم أو مسلمة على اعتناق النصرانية.
– تشمل هذه الاتفاقية أيضا اليهودَ من مواليد غرناطة والبيازين وأرباضهما – يُعامِل الحكام والقواد والقضاة الذين يُعينهم صاحبا السمو على غرناطة والبيازين والكور التابعة لهما الناسَ بالحسنى... وإذا أخل أحدهم بذلك أو ارتكب خطيئة يُصدر صاحبا السمو أوامرَهما بمعاقبته على قدر جُرمه..." وذُيِّلت المعاهدة بالالتزام الملكيِّ بالشرف والدين الآتي: "إن مَلِكيْ قشتالة يؤكدان ويضمنان بدينهما وشرفهما المَلكيِّ القيامَ بكل ما يحتويه هذا العهد من النصوص، ويوقِّعانه باسميْهما، ويَمهرانه بخاتميْهما".
غير أنه بعد سبعة أعوام فقط من توقيع العهد أقيمت محاكم التفتيش بغرناطة، ثم بعد عشر سنين فقط، أصدر فرناندو سنة 1502م قرار التنصير القسري الرهيب، ثم أوْكل إلى رهبان التحقيق تمحيص إيمان الذين تمَّ تعميدهم، في إخلال غير أخلاقي فاضح بالعهد، سيظل وصمة عار في تاريخ إسبانيا إلى الأبد.
تأريخ شعري عربي أخيـر
أورد العلامة أبو العباس المقَّري التلمساني (ت 1041هـ/1631م) في الجزء الأول من كتابه "أزهار الرياض في أخبار عِياض" رسالة شعرية مطولة (مائة وخمسة أبيات) لشاعر موريسكي مجهول، والغالب أن الشاعر أخفى اسمه خوفا على نفسه من التعرض لغضب محاكم التفتيش الشيطاني، الذي غالباً ما كان يتوج بحرق الناس أحياء، يؤرخ فيها لكثير من تلك الأحداث بحكم معايشته لها، واكتوائه وأهله وقومه من مسلمي الأندلس بنارها، وبحكم أن القصيدة رسالة استغاثة إلى السلطان العثماني بايزيد الثاني مما يتطلب وصف الحال على ما هي عليه بالتفصيل، منذ إخلال ملك الإسبان بالعهد:
فقال لنا سُلطانُهم وكبيرُهـمْ: |
|
لَكمْ ما شَرطتمْ كاملا بالزيـادةِ |
وأبْدى لنا كُتْبًا بعهدٍ ومَوْثـقٍ |
|
وقال لنا: هذا أمانِي وذِمَّـتي |
فلما دخلنا تحتَ عهد ذِمامهـمْ |
|
بَدا غدرُهمْ فينا بِنقضِ العزيمـةِ |
وخانَ عُهودا كان قد غرَّنا بِهـا |
|
ونصَّرَنا كَرهًا بعُنفٍ وسطـوةِ |
ومن يُعطِ عهدًا ثم يغدرْ بعهـدهِ |
|
فذاكَ حرامُ الفِعل في كُل مِلَّـةِ |
ولا سيَّما عندَ المُلوك فإنَّـهُ |
|
قبيحٌ شنيعٌ لا يَجوزُ بِوِجهـةِ |
إلى سرد شتى أنواع التنكيل التي لحقتهم:
غُدِرنا ونُصِّرنا وبُدِّل دينُنـا |
|
ظُلما وعُوملنا بكل قبيحـةِ |
ومن صام أو صلَّى ويُعْلمُ حالـهُ |
|
ففي النار يُلقوهُ على كل حالـةِ |
فآهًا على تبديل دينِ محمـدٍ |
|
بدين كلاب الروم شرِّ البريـةِ |
وآهًا على تلك المساجد سُـوِّرتْ |
|
مزابلَ للكفار بعد الطـهارةِ |
وآهًا على تلك الصوامع عُلِّقـتْ |
|
نواقيسُهم فيها نظيرَ الشـهادةِ |
إلى غير ذلك من أنواع الإرهاب الشامل الذي تجاوز الضرب، والإذلال، والتغريم، والسجن في أسوأ حال، وسلب الأملاك، وإرغام من شُك في صيامه على الأكل في نهار رمضان، وتبديل الأسماء، وتدنيس المصاحف بالزِّبل والنجاسات، حتى وصل إلى عدم دفن من لم يحضر القسيسُ احتضارَه، وتركه في القمامة يتعفن:
إلى غير هذا من أمور كثيـرةٍ |
|
قِباحٍ وأفعالٍ غِزارٍ رَديَّـةِ |
إلى درجة أن صار الشوق إلى سلامٍ تطمئن فيه نفوس الأندلسيين الذين قلبَ لهم الدهرُ ظهرَ المِجن على نفوسهم ودينهم وأعراضهم وأموالهم حلمًا وأي حلم؛ وهذا ما حمل الشاعر على أن يستهل 14 بيتا من قصيدته بلفظة الـ"سلام"، في دلالة واضحة على لهفة النفوس وظمئها إليها، ومنها:
سلامٌ عليكمْ مِن عبيدٍ تخلَّفُـوا |
|
بأندلسٍ بالغرب في أرض غُربَـةِ |
سلامٌ عليكمْ من عبيد أصابهـمْ |
|
مصابٌ عظيمٌ يا لها من مصيبـةِ! |
سلامٌ عليكمْ من شيوخٍ تمزقـتْ |
|
شُيوبُهمُ بالنَّتف مِن بَعد عِـزةِ |
سلامٌ عليكمْ من عجائزَ أُكْرهـتْ |
|
على أكلِ خنزيرٍ ولحمٍ لجيفـةِ |
سلامٌ عليكمْ من بناتٍ عواتـقٍ |
|
يسوقهمُ اللبَّاطُ قهرًا لخُلـوةِ |
إلى أن يوضح أن الذي حمل إخوانه الموريسكيين على الخضوع للإسبان والتنصر ظاهرا إنما هو عدم غَوث إخوانهم المسلمين لهم، وفَناء رجالهم وقوادهم الأشاوس، من أمثال فرج بن فرج ومحمد بن داود ومحمد بن عبو ومحمد بن أمية (فرناندو دي فلور) وميغيل روخاس وهرناندو الحبقي وغيرهم ممن قادوا الثورات التي أخمد النصارى لهيبها، في حيِّ البيازين بغرناطة وجبال البُشُرَّات ونواحي ألمرية ومربلة ورندة وغيرها:
فلمَّا تفانتْ خيْلُنا ورجالُنـا |
|
ولم نرَ من إخواننا من إغاثَـةِ |
وقلَّتْ لنا الأقواتُ واشتدَّ حالُنـا |
|
أطعناهمُ بالكَره خوفَ الفضيحـةِ |
وخوفًا على أبنائنا وبناتِنـا |
|
مِنَ انْ يُؤسَروا أو يُقْتلوا شرَّ قِتلـةِ |
ولكي يدرك القارئ حجمَ الهول الذي قاساه هؤلاء القابضون على جمر الهوية الأندلسية الإسلامية، يكفي أن يقرأ شكوى وفتوى؛ فأما الشكوى التي ينقلها علي المنتصر الكتاني في كتابه "انبعاث الإسلام في الأندلس" عن أحد محاضر محاكم التفتيش لسنة 1633م، فمؤسسة على وشاية خادمة الموريسكييْن دييكو دياس وزوجته ماريا دِل قشتيلو، في بلدة كونكة بمقاطعة بلمونتي، مضمونها أن دييكو "يطبخ غداءه في البيت بالزيت عوض شحم الخنزير، ويأكل اللحم أيام الجمعة دون سبب وجيه، ولا يذهب إلى الكنيسة، لا هو ولا زوجته، ولا يُعلمان الديانة النصرانية لأولادهما، ويغسلان أيام الجمعة ويلبسان ملابس فاخرة، ويأوي إلى بيتهما مورسكيُّو مُرسية من بغَّالين وغيرِهم، فيتكلمان معهم باللغة العربية، ويُقفلان عليهم الغرفة الساعات الطوال"! وأما الفتوى فهي لفقيه وهران ومفتيها أبي جمعة المغراوي، المؤرخة بغرة رجب 910هـ/1504م لهم، حيث وصفهم بالغرباء الذين طوبى لهم، وبوارثي سبيل السلف الصالح في تحمل المشاق، وإن بلغت النفوس إلى التراق، مجيزا لهم ممارسة شعائرهم خُفية وبالحيلة، "فالصلاة ولو بالإيماء، والزكاة ولو كأنها هدية لفقيركم أو رياء... والغسل من الجنابة ولو عَوما في البحور... وإن مُنعتم فالصلاةُ قضاءٌ بالليل لِحقٍّ بالنهار. وتسقط في الحُكم طهارةُ الماء، وعليكم بالتيمم ولو مسحًا بالأيدي للحيطان، فإن لم يكنْ... فأقصدوا بالإيماء... وإن أكْرهوكُم في وقت صلاة ٍإلى السجود للأصنام أو حضور صلاتهم [في الكنائس]، فأحرموا بالنية، وانْوُوا صلاتكم المشروعة، وأشيروا إلى ما يشيرون إليه من صنمٍ، ومقصودُكُم الله. وإن كلّفوا عليكم خنزيراً فكُلوه ناكِرين إيَّاه بقلوبكم، ومعتقدين تحريمَه. وكَذا إن أكْرهوكُم على ربًا أو حرام فافعلوا مُنكرين بقلوبكم... وإن أكرهوكم على كلمة الكفر، فإن أمكنكم التوريةُ والإلغازُ فافعلوا، وإلاّ فكونوا مطمئني القلوب والإيمان إن نطقتم بها ناكرين ذلك. وإن قالوا: اشتموا محمدا، فإنهم يقولون له (مُمَدْ)، فاشتموا مُمَدًا ناوين أنه الشيطان... ونحن نشهد لكم بين يدي الله أنكم صدَقتمُ الله، ورضيتم به". وما وردت الفتوى هكذا إلا لأن الرجل قد أدرك تفاصيل ذلك العالم الرهيب، الذي وصل إلى التحرز من ملامسة التراب خشية ظن العيون باللامس أنه يتيمم؛ لذلك أجاز له الاكتفاء بالإيماء إليه!
الأعجمية الموريسكيـة
ولم تُستثن اللغة العربية من هذا الاضطهاد، حيث أصدر فيليب الثاني Felipe II سنة 1556م قانونا عُلّق على أبواب غرناطة العمومية يُحرّم استعمال اللغة العربية كتابة ومشافهة، وذلك استمرارا لقوانين سابقة صدرت تترى منذ 1502م تحرّم وتجرّم كل ما هو إسلامي أو عربي من مظاهر وعوائد وتقاليد، شملت حتى التخضب بالحنّاء والاستحمام في الحمامات، إذ لم يكن النصارى يغتسلون! وقد أَمهل القانون الموريسكيين ثلاث سنوات لتعلم اللغة القشتالية، "ثم لا يُسمح بعد ذلك لأحد منهم أن يتكلم أو يكتب أو يقرأ اللغة العربية أو يتخاطب بها"؛ وهنا ستبدأ محنة أخرى يكون القبض فيها على الحرف العربي قبضا على الجمر، يذكر عالم الأنساب محمد بن عبد الرفيع الحسيني الجعفري المُرسي (ت 1052هـ) فصلاً منه في أواخر كتابه، الذي ألّفه بعد الإبحار من مُرسية إلى تونس عام 1013هـ "الأنوار السنية في آباء خير البرية"، حيث يذكر أن أباه هو من علّمه دين الإسلام واللغة العربية سرًّا وهو ابن ستة أعوام، وهو مُجبرٌ على الذهاب إلى مدارس النصارى لتعلم دينهم؛ "فأخذ والدي لوحا من عود الجَوز... فكتب لي فيه حروف الهجاء، وهو يسألني حرفا حرفا من حروف النصارى تدريباً وتقريباً، فإذا سميتُ له حرفاً أعجمياً كتب لي حرفاً عربياً، فيقول لي حينئذ: "هكذا حروفنا"، حتى استوفى لي جميعَ حروف الهجاء في كرَّتيْن". وطلب منه أن يكتم ذلك حتى عن أقرب المقربين كأمه وأخيه وعمه، امتحانا لقدرته على تحمل السر، "مع أنه – رحمه الله – قد ألقى نفسه للهلاك، لإمكان أن أخبر ذلك عنه، فيُحرق لا مَحالة".
في هذه الظروف العسيرة الرهيبة سيبتكر مسلمو الأندلس لغة سموها بالأعجمية Aljamía أو Aljamíado (تلفظ بالإسبانية ألخَمِيَا أو ألخَمِيادو)؛ وهي لغة رومنثية Romancia متفرعة عن اللاتينية الأم، في صيغة اللهجة القشتالية (وهي الغالبة) أو اللهجات الأراغونية والكطلانية والبرتغالية، مكتوبة بالحرف العربي. ومع تباعد عهد المدجنين ثم الموريسكيين مِنْ بَعْدِهم مع اللغة العربية -خاصة بعد الحظر الرسمي الذي تُوّج بأمر ملكي من إيزابيل سنة 1501م بإحراق كافة المؤلفات العربية في غرناطة، مما حوته خزائن جوامعها ومدارسها ومكتباتها اللامعة من ذخائر- اضطُروا إلى الكتابة والتواصل الثقافي واليومي بهذه الأعجمية؛ تثبيتا لأنفسهم وأولادهم على الهوية الإسلامية؛ فترجموا بها أمهات المصادر الدينية العربية، وعلى رأسها معاني القرآن الكريم، كما ألفوا بها كذلك كثيرا من تصانيفهم منذ عيسى بن جابر الشقوبي، مفتي شقوبية Segovia، وتلميذه المعروف بفتى أريبالو El Mancebo de Arévalo، ومروراً بأمثال ابن غانم الرياش المهاجر إلى تونس، مؤلِّف كتاب "العز والرفعة والمنافع للمجاهدين في سبيل الله بالمدافع"، وأمثال الشعراء إبراهيم التايْبيلي، وخوان ألونسو الأراغوني، وأليتشانتي بوي دي مونتشون الذي سجل رحلته إلى الحج شعرا، ومحمد ربضان أو رمضان، وإبراهيم دي بلغاد، ومحمد الخرطوش البياني، وعلي بيريز، وغيرهم كثير ممن لا تزال مخطوطاتهم تُكتشف إلى يوم الناس هذا، بحكم السرية التي فرضت نفسها على تداولها ضمن حدود دوائر إسلامية جد ضيقة، كما فرضت إخفاءها في الكُوى، وتحت الأرضيات، وخلف الجدران، وبين السقوف وغيرها من المحارز. ولعل اكتشاف الباحثتين كارمن بارثيلو Carmen Barceló وآنا لبارتا Ana Labarta لـ 168 قصيدة موريسكية أعجمية بالخط العربي في خبايا الأرشيف التاريخي الوطني بمدريد- مما نشرتاه عام 2016م تحت عنوان "أغانٍ موريسكية" (Cancionero Morisco)- لدليل على أن ذاك التراث المدفون لا يزال يخبئ الكثير من الأسرار والتاريخ في مدافنه.
اعتذار لليهود وتجاهل للمسلميـن!
سنة 1992م اعتذرت إسبانيا رسميا لليهود السافارديم بعد مرور خمسة قرون كاملة على طردهم من الأندلس، في خطاب ألقاه الملك خوان كارلوس في أكبر معابد اليهود في العاصمة مدريد - التي بناها الأمويون وسمَّوها مَجريط - وهو يرتدي الكِبَة، قلنسوتهم المميزة، وبعدها مباشرة صادق البرلمان الإسباني على تعديل القانون المدني بما يسمح لأحفاد هؤلاء اليهود المطرودين قسرا بالحصول على الجنسية الإسبانية، كما تبعت حكومة البرتغال إسبانيا في الخطوة نفسها بعد ثلاث سنوات. وبقدر ما كانت هاته الخطوة شجاعة على درب الاعتراف بالجريمة التاريخية، في سبيل التصالح مع الذات والآخر المختلف، فإن احتفال إسبانيا الرسمية والثقافية بذكرى مرور خمسة قرون على سقوط الأندلس في السنة نفسها لا يمكن عدُّه - فوق الازدواجية والانتقائية الواضحتين في التعامل مع التاريخ - إلا رعونة، وهروباً من التصالح الكامل مع الذات، وتمادياً في الكراهية التاريخية للمسلمين الذين حموا بذمتهم هؤلاء اليهودَ أنفسَهم لقرون! هذا التاريخ الذي ستبقى ذاكرته موشومة أبد الدهر بما اقترفته أيدي التطرف الكاثوليكي من جرائم يندى لها جبين الإنسانية، وستبقى مئات ألوف وجوه أشباح الضحايا الموريسكيين تقض مضجع الذاكرة الجمعية للإسبان، مهما يستمر هروبهم من الاعتراف بها، والاعتذار عنها، وستبقى أرواح أشباحهم طائفة خلال روائع المباني والمساجد والمكتبات والزوايا والحدائق والقصور الأندلسية، التي يزورها سنويا حوالي 50 مليون سائح من مختلف فجاج الأرض، وبين صفحات ألوف المؤلفات والدواوين في شتى أصناف العلم والأدب، شاهدة على الفجيعة الرهيبة التي لحقت آخر من بقي على أرض الأندلس من الأحفاد المستضعفين، بعد ثمانية قرون من العطاء الحضاري الفذ، مما لم تشهد البشرية لبشاعته نظيرا: تنصيرا قسريا، وترهيبا، وتنكيلا، وتحريقا، وتغريقا، وتسخيرا، وتجريدا من كافة الممتلكات، وترحيلا.
وإمعانا في ذلك الجحود لم تلق رسالة المؤرخ المغربي الكبير محمد بنعزوز حكيم إلى ملك إسبانيا خوان كارلوس سنة 2002م أي رد! لقد طالبت رسالةُ صاحب "موسوعة سقوط الأندلس من 1483 إلى 1609م" عاهلَ إسبانيا باعتذار رسمي لمسلمي الأندلس الموريسكيين، وبالتعويض المعنوي عن الأضرار الجسيمة التي لحقت بهم، مذكرا إياه: "لكي يسجل التاريخ، وتعلم الأجيال القادمة، فإننا لم ولن ننسى أبدا مأساة الأندلس". وفي السياق نفسه راسل المؤرخ التونسي الكبير عبد الجليل التميمي كذلك الملك نفسه، بشجاعة المؤرخ الواثق المتهم بهموم أمته، غير أن رسالته لم تواجه بالإهمال فحسب، ولكنها ووجهت بفظاظة وكِبْرٍ بالغين!
طلائع الانبعـاث
ومع كل ذلك الجحود تشير كل المؤشرات إلى أن موريسكيي الأندلس والشتات – وخاصة في إسبانيا وتونس والمغرب - يشهدون اليوم صحوة سيكون لها ما بعدها، لا تاريخيا وعلميا وأدبيا فحسْب، ولكن على الأرض كذلك من خلال تأسيس جمعيات ومنظمات مدنية للدفاع عن حقوق الموريسكيين السليبة، منذ مجهود الانبعاث الجبار الذي بذلته زمرة مثقفة من أحفاد هؤلاء الموريسكيين في العُدْوتين معا (الأندلس والمغرب)، وعلى رأسهم المفكر والسياسي الثوري بلاس إنفانتي بيريز K Blas Infante Perezالذي أعاد بوعيه الثاقب السابح ضد تيار التاريخ القشتالي المصنَّم اكتشافَ تاريخ بلاده الأندلس، وعاد إلى اعتناق دين أجداده الإسلام عام 1923م، في أطلال "أغمات" جنوب المغرب، لدى زيارته لقبر المعتمد بن عباد، وأبدع علَما ذا شعار خاص بالأندلس، ورفعَه على بلدية إشبيلية ليرفرف لأول مرة في العصر الحديث بعد قرابة خمسمائة سنة، كما أبدع كذلك النشيد الوطني الأندلسي -كلماتٍ وموسيقى- بالتعاون مع مدير الجوق البلدي الإشبيلي... ومهر بدمه راضيًا جهودَه الحثيثة لانتزاع حكم ذاتي لها، حيث اغتالته ألويةُ الجنرال فرانكو سنة 1936م بإشبيلية، وهو يصرخ بثبات في وجهها مرَّتين قبل أن ينطق بالثالثة: "عاشت الأندلس حرة!"
ومع الشهيد إنفانتي الشاعرُ الأندلسي المسلم آبل قدرة Abel Gudrà، الذي صرح في مؤتمر "الشعوب التي لا دول لها" المعقود بدلهي عام 1930م: "من نحن؟ وإلى من ننتمي؟ فكالشيعيِّ الذي يتحرق دائما على قبر الحسين، نحن في قلوبنا حرقة تسمى الأندلس... الأندلس شرقية في أقصى الغرب. الأندلس ليست هي أوربا، فأوربا هي أوربا، والأندلس مستعمَرتها، ويجب أن نعرف كيف نوازي تجربتنا الفلسطينية بتجربتنا العظيمة الزكية الأندلسية". وتجدر الإشارة إلى أن إنفانتي وقدرة يُعدَّان أبَويِ القومية الأندلسية المعاصرة، ومبلوريْ مفهوم هويتها المشرقية المستقلة عن الغرب وإسبانيا، دون أن ننسى أسماء مثقفين آخرين كمانويل رويث لاغوس Manuel Ruiz Lagos، وفرمين رِكينا Fermin Requena، وخِمينِّيث دي بوين Jimennez De Buen، ودييغو ارْوِيث Diego Ruiz، ورُدولفو خِيل بن أمية Rodolfo Gil Benumeya (الخليل بن أمية)، وعلي مونثانو باكو Monzano Baco، وإنريكي إنييستا Enrique Iniesta، وعبد الصمد أنطونيو روميرو Romero، وأديبة سانشيز روميرو Romero، وهاشم إبراهيم كابريرا Cabrera، ومنصور عبد السلام إسكوديرو Escudero، وعبد النور برادو Prado، وغيرهم من الأندلسيين، وكذا من الباحثين الموريسكيين في المغرب والجزائر وتونس خاصة، والذين بفضلهم تم تنظيم أول مؤتمر للموريسكيين في التاريخ، بمدينة شفشاون المغربية عام 2002م، وأول تظاهرة في التاريخ الحديث لإحياء الذكرى المائوية الرابعة لطرد الموريسكيين من بلدهم (1609/2009م) في تونس، علاوة على المؤتمرات العلمية التي أصبحت شبه قارة مرة كل عامين، وكذا من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، مما تشع دلالته في أمثال "جمعية غرناطة من أجل التسامح" ، التي نظمت عام 2014م -بالتنسيق مع مسجد السلام بغرناطة- تظاهرةً بإيقاد الشموع في ساحة باب الرملة، إحياءً للذكرى الخمسمائة لمأساة إحراق كنوز لا تقدر بثمن من المؤلفات العربية في سبيل إبادة الذاكرة الإسلامية للأندلس، داعية إلى استعادة ما نجا من تلك الكتب، وهو يقدر بالآلاف، وتم تهريبه إلى مكتبة الإسكوريال وباقي خزانات الكنائس. وكذا منظمة تحمل اسما بالغ الدلالة "منظمة شعب الأندلس العالمية" (Organización Mundial del Pueblo de Al-Andaluz)، متخذة شعاراً لها علماً أعلاه وأسفله أخضرا اللون، ووسطه أبيض يزدان بالعبارة الأندلسية التاريخية المحفورة في على كل جدار من قصر الحمراء: "ولا غالب إلا الله"، في محاولات صادقة حثيثة لانتزاع اعتذار إسباني رسمي، واعتراف بحقوق ملايين الموريسكيين في الأندلس والمَهاجر (منهم أزيد من عشرة ملايين في دول المغرب والجزائر وتونس وحدها)، ممن لا يزال منهم من يحتفظ بمفاتيح بيوتهم الأندلسية، في دلالة بليغة على عدم نسيان موطنهم الأصلي، ولسان حالهم يتمثل قولَ ابن الرومي:
وطني لو شغلتُ بالخُلد عنـهُ |
|
نازعتْني إليهِ في الخُلد نَفسـي |
فكيف الحال إن كان هذا الموطن هو الأندلس، جنة الله في أرضه، والخروج منها اضطهااًد وانتزاعاً وتهجيراً قسرياً؟
المراجـع
- انبعاث الإسلام في الأندلس، علي المنتصر الكتاني، دار الكتب العلمية، بيروت، 2005.
- أزهار الرياض في أخبار عياض، شهاب الدين أحمد بن محمد المقري التلمساني، صندوق إحياء التراث الإسلامي، 1398هـ/1978م، ج1.
- الموريسكيون الأندلسيون والمسيحيون، المجابهة الجدلية، (1492/1640)، مع ملحق بدراسة عن الموريسكيين بأمريكا، لوي كاردياك، تعريب وتقديم عبد الجليل التميمي، مطبعة التحاد العام التونسي للشغل، تونس، 1983.
- الموريسكيون الأندلسيون، مرثيدس غارثيا أرينال، ترجمة جمال عبد الرحمن، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، 2003.
- محاكم التفتيش والموريسكيون، مرثيدس غارثيا أرينال، ترجمة خالد عباس، المجلس الأعلى للثفاقة، القاهرة، 2004.
El Corán de Toledo: una joya en la literatura aljamiada, María José Ayerbe Betrán, Universidad de Zaragoza, archivo de filología aragonesa (afa) 68, 2012.
Les Morisques et leur temps, Louis Cardaillac, Paris, Éditions du CNRS, 1983.
CANCIONERO MORISCO, Póesia àrabe de los siglos 17 y 18, Carmen Barcelo y Ana Labarta, Valencia 2016.
Islamic Literature in Spanish and aljamiado, Gerard Wiegers, E.J.Brill, Leiden, 1994.
Blas Infante: apuntes biográficos in:
http://maa.centrodeestudiosandaluces.es/index.php?mod=blas-infante&tag=vida-de-blas-infante