نهضة محمد علي: إطلالة سوسيوتاريخيَّة

هاجر السعديَّة

كلُّ حقبة تمثِّل بداية تولية الحكم لقيادة جديدة تعتبر تجربة ومشروعا نهضويا يُغذِّي التاريخ، ويصقل توجهات تنموية وحضارية وفكرية، كما يُضمر فلسفة لعبة سياسية قادها أحد الأبطال في التاريخ. ومن نافلة القول أنَّ المجتمع يتضمَّن فاعلين اجتماعيين ذوي اتجاهات وتيارات متعددة ومتباينة، ويقع على عاتق كلٍّ منهم مسؤولية منطلقة من حسه ووعيه الخاص بمفاهيم المواطنة، والوطنية، والمواطن. والجدير بالذكر أنَّ هذا الحس والوعي الوجودي والمجتمعي يُفرز على عاتق الفاعل الاجتماعي داخل المجتمع وظيفة ومهنة، وعدته المعرفية تقوده إلى تبيان كيفية تأدية هذه المهنة، والفاعل النشط غالبا ما يعرف في المجتمع باسم المثقف، ومن منطلق أنَّ المثقف في نظر إدوارد سعيد هو "المثقف الذي يملك ملكة المعارضة، ملكة رفض الركود، المثقف هو الذي لا يرضى بحالة حتى يُغيِّرها، فإذا غيَّرها بدأ يحلم بمواصلة التغيير. فقط في لحظة الإبداع يكون المثقف راضيا، وفيما عداها هو غير راضٍ، هو رافض، هو قلق، هو متعطِّش للتغيير. والمثقف -طبقا لإدوارد سعيد- ليس المثقف في مجال ما، بل المثقف الذي يأخذ موقفا شموليا من المجتمع"، يقدِّم لنا الباحث ناصر المهدي في مقالٍ معنونٍ بـ"رؤى المفكرين العرب حول النهضة الحديثة: دراسة تحليلية لنموذج محمد علي باشا" اتجاهات فلسفة التاريخ لنهضة محمد علي.

والجيِّد أنَّ الباحث لم يعرض اتجاهين متضادين -حاملين سمة التطرف والتعصب- بل تضمَّن مقاله ثلاثة اتجاهات بين التطبيل والتحييد والرفض لفلسفة نهضة محمد علي. واستفتح مقاله باستعراض مناصري اتجاه التطبيل، المؤيدين لنهضة محمد علي الذين أجمعوا على النقلة النوعية التي حققها محمد علي في الحضارة المصرية والعربية، لاسيما الثقافة المدنية المخلدة للحضارة، إلى جانب تركيزهم -على حد قولهم- على تعامل محمد علي مع الحضارة الغربية؛ حيث آمن بفلسفة لا تعارض بين الإسلام والعلوم الغربية. ويمكننا أن نأخذ على أصحاب هذا الاتجاه تطبيلهم وغناءهم بالثقافة المادية التي حرص على بنائها محمد علي، متجاهلين أسباب عدم صيرورة هذا النمو الحضاري والنهضة الفكرية؛ وهذا كفيل بأن نقول إنَّ الدعائم القويمة التي ذكرها أصحاب هذا الاتجاه -والتي ارتكزت عليها فلسفة وسياسة حكم محمد علي- هشة للغاية، إلى جانب عدم استغلال الأسباب التي حالت الصيرورة الحضارية والنهضوية للاستفادة منها في استشراف المستقبل، ومن أبرز من مثَّل هذا الاتجاه: عباس العقاد، وجمال الدين الأفغاني، وأحمد فؤاد، ومصطفى كامل، وجرجي زيدان. والجدير بالإشارة هنا أنَّ أصحاب هذا الاتجاه -بناء على تعريف إدوارد سعيد للمثقف ودوره في المجتمع- ليسوا بمثقفين، وإن كانوا فهم خائنون لأفكارهم، وإلا أين الإبداع الذي خلقه مُحمَّد علي؟ طالما اقتصرت نهضته على الثقافة المادية، ويمكننا القول دائما بأنَّه لا تعويل على الإبداع المادي غير المبني على أسس ومناهج علمية وفكرية مستقلة.

في حين نجد أصحاب الاتجاه الرافض لنهضة محمد علي؛ وأبرزهم: محمد عبده، ورشيد رضا، وإسماعيل مظهر، وحسسين فوزي، ولويس عوض.. رافضين لمنهج وإصلاحات محمد علي ولكل مفكر رأيه في تغليب السلبيات على الإيجابيات. وبالنسبة لي محمد عبده قدَّم إرهاصات قصمت ظهر البعير، وكافية للرد على تقريظ مطبلي الاتجاه الأول؛ حيث حمل حملة شعواء على منهج وأسلوب محمد علي، فينتقد في المقدمة استبداد محمد علي في التعامل مع المخالفين له في الرأي والفكر؛ فكان يستعين بالجيش للتخلص من خصومه، وهذا يُعطينا ملمحا من ملامح الدولة في عهده وهي دولة تسلُّطية، والدولة التسلطية -كما يحددها خلدون حسن النقيب- تخترق المجتمع المدني بالكامل وتجعله امتدادا لسلطتها، فتحتكر مصادر القوة والسلطة في المجتمع، وتهيمن على كل مستويات التنظيم الاجتماعي ومختلف الجماعات والقوى الاجتماعية؛ من خلال سَنِّ شرائع وقوانين من دون قيود أو ضوابط". وهذا يفضح نقص مناعة الثقافة العربية -بشكل عام- ضد الآخر، وتبلور ظاهرة التطرف والتعصب الفكري على امتداد التاريخ، ولا يمكن أن يختلف اثنان في مساوئ وانتهاك التطرف للحق والعدالة والديمقراطية والمواطنة، التي تمثل في مجموعها حقوق الآخر. وإلى جانب التسلط، يُشير محمد عبده إلى أنَّ محمد علي فضَّل الأجانب على المواطنين؛ حيث أعلى كعبهم وأغدق عليهم أفضل الوظائف؛ أي تمتع الأجنبي بحقوق المواطن التي حرم منها فأصبح بذلك المصري تحت وطأة إذلال الحكومة من جهة والأجانب من جهة أخرى. وأشار مُفكِّرو هذا الاتجاه إلى نقاط ضعف مشابهة مع وجود تعارض في الآراء والتحليل بين محمد عبده ورشيد رضا، بَيْد أنَّه يُمكننا القول بأن أصحاب هذا الاتجاه أجمعوا على أن محمد علي أهمل تنمية الوعي القومي المصري بالنهضة والإصلاح، إلى جانب إهماله للجانب الديني الأخلاقي في نهضته؛ فهي نهضة منقوصة لم تُؤت ثمارها المرجوة، ومحمد علي لم يركز على ضرورة بناء شخصية الإنسان وتنمية فرديته واستقلاله، وإن كانت بعض الخطوات تظهر عكس ذلك، فهو في الواقع مؤدلج ومسيس أهداف النهضة والتنمية والحضارة. ونجد أنَّ الباحث يختتم مقاله باستعراض رؤى مفكري الاتجاه المحايد، الذي يسجل لمحمد علي إنجازاته ويعتد بها، وفي الوقت نفسه يسجل عليه هفواته، وقد يكون هو الاتجاه المنصف لواقع نهضة محمد علي؛ فهو اتجاه لا ينسف نهضة شاملة ولا يقرظها تقريظا مبتذلا، يقرأ واقع النهضة بعقل مستنير وشخصية متزنة، وأبرز مَنْ مثَّل هذا الاتجاه في قراءة وتحليل نهضة محمد علي: جورج أنطونيوس، وسلامة موسى، وأحمد حسين، وعبد المتعال الصعيدي، إلى جانب الباحثين المعاصرين؛ مثل: مسعود ظاهر، وعبدالعزيز الدوري، ومحمد عابد الجابري، وعبدالإله بقزيز. المفكرون استعرضوا رُؤى تحليلية جمعت بين رؤى الاتجاهين الرافض والمطبل، وقد تكون أقرب إلى الإنصاف؛ حيث أشار جورج أنطونيوس إلى أنَّ محمد علي حاول بعث فكرة القومية الغربية، وبذل جهودا جبارة -بمساعدة ابنه- ولكنه فشل بسبب عوامل داخلية وخارجية، وتشكَّلت العوامل الداخلية في واقع المجتمع المصري قبل نهضة محمد علي؛ حيث كان المجتمع قبله فاقدا للتضامن القومي، وعلى ذلك يمكن القول بأن النهضة العربية بقيادة محمد علي قد ولدت في غير أوانها؛ فخلقت قبل أن يخلق الوعي؛ لذا بنهضة محمد علي حصلت مداهمة للمجتمع المصري، في حين أن العوامل الخارجية تعود إلى تخوف الدول الأوروبية من نهضة مصر؛ حيث أثارت توسُّعات محمد علي تخوف الدول العظمى فوقفت لها بالمرصاد. وهذا على سائر مفكري هذا الاتجاه لا ينكرون نهضة محمد علي المادية، في حين مرد اختلافهم وانتقادهم في منهج وأسلوب تعامل محمد علي تجاه عقلية المواطن، وتسييس الأدوات التي وفرها لهم باسم المواطنة.

ويُمكنني أخيرا أن أُضيف بأنَّ من أولى واجبات المثقف العربي دراسة المنهج العلمي الذي قامت عليه النهضة الأوروبية؛ وذلك من أجل -على حد قول الباحث عفيف فراج- إنتاج معرفة علمية تقدم صورة دقيقة للتبدلات التي شهدتها المجتمعات العربية من جراء احتكاكها بالمجتمعات الأوروبية.

أخبار ذات صلة